الدمشقيون يتذكرون خبز «الوثيقة» ويعودون إلى أفرانه التراثية

حكايته تعود لأيام الحرب العالمية الثانية بعد أن أحيل معظم الأفران للتقاعد

منطقة القنوات التاريخية الدمشقية حيث تتواجد أفران خبز الوثيقة
TT

مع استمرار الحرب والأحداث الدامية التي تشهدها سوريا والأزمة الاقتصادية التي يعاني منها السوريون والتي تجلت في مشكلة عدم توافر مستلزمات الحياة من وقود وخدمات معيشية وارتفاع أسعار المواد الاستهلاكية، ومع انتشار ظاهرة بيع الخبز على البسطات (سوق سوداء) وبأسعار أعلى من سعره الطبيعي، يتذكر الدمشقيون نوعا آخر من الخبز يدعى «خبز الوثيقة»، والذي كان منتشرا أيام الحرب العالمية الثانية في أربعينات القرن الماضي. وتوجد في العاصمة السورية دمشق أفران تقوم بإنتاج وبيع هذا النوع من الخبز، وقد أحيلت هذه الأفران التراثية إلى التقاعد باستثناء عدد قليل منها ما زال موجودا في منطقة القنوات التاريخية وسط دمشق، وما زالت هذه الأفران تعمل وبشكلها التراثي التقليدي على بيع هذا النوع من الخبز حتى إن هذه الأفران باتت مقصدا للناس في الوقت الحالي، وإن كان يقصدها أناس محدودون يرغبون في شراء هذا النوع من الخبز المختلف والعريق.

وفي منطقة القنوات كانت جولتنا على بعض أفران خبز الوثيقة، وكانت البداية من فرن كحالة الذي كان صاحبه ينتظر قدوم ديزل التشغيل (المازوت) ليعمل على تشغيل بيت النار في فرنه، والذي قد لا يأتيه ويضطر لتأجيل العجن والخبز لليوم التالي. يشرح هيثم كبارة أبو أحمد (56 عاما)، والذي ورث الفرن عن والده المستثمر له منذ أربعينات القرن المنصرم، سبب تسمية الخبز بالوثيقة «يوجد فرننا منذ تأسيس منطقة القنوات في العصر المملوكي، ويقال إنه تم ترميمه في الفترة العثمانية، وهو أثري حيث يتميز بعمارته العقدية (طراز القناطر)، وكان ينتج فيه خبز التنور.. ولكن في النصف الأول من القرن الماضي بدأ الفرن ينتج ما يسمى الخبز المشروح والمنقوش وهذا الخبز كان يوزع للناس بموجب بطاقة خاصة (تشبه بطاقة التموين الحالية الخاصة بالسكر والأرز المقننين). وفي فترة الحرب العالمية الثانية والأزمة الاقتصادية العالمية والتي تأثرت بها دمشق انتشرت ظاهرة خبز الوثيقة، حيث كانت لكل أسرة في الحارة كمية محددة من الخبز تتناسب وعدد أفراد الأسرة، ويأتي رب الأسرة كل يوم للفرن ليقدم الوثيقة التي خصص بها من الجهات المعنية المحلية ويأخذ الخبز المخصص له بموجبها.

ولكن ما هي أنواع وأشكال خبز «الوثيقة» التي انتشرت في تلك المرحلة والأدوات المستخدمة لإنتاجه؟ يوضح أبو أحمد «هناك أشكال متنوعة وتسميات متعددة أخذها خبز الوثيقة، ومنها: ذقن الباشا، وحجار القلعة، وصرة بنت الملك، والسبع بحرات، وله تسميات أخرى في مناطق الريف ومنها (الطلامي والمبحص).. قد تكون بعض هذه التسميات طريفة - يبتسم أبو أحمد - لكنها معبرة بشكل دقيق عن أشكال الخبز المنتج في أفران الوثيقة. فمثلا ذقن الباشا يكون رغيف الخبز ذا شكل طويل يشبه الذقن، أما خبز صرة بنت الملك فيكون الرغيف مدورا ومنقوشا بشكل فني جميل حيث ينقش في وسط الرغيف على شكل بحرة ماء، ولذلك تشبّه بصرة بنت الملك، أما حجار القلعة فيكون رغيف الخبز سميكا وطريا ليناسب كبار السن ومضلعا يشبه أحجار قلعة دمشق المعروفة بضخامتها.. والسبع بحرات عبارة عن رغيف دائري عليه سبعة نقوش تشبه البحرات. أما الأدوات التي كانت مستخدمة في أفران الوثيقة فهي جميعها أدوات يدوية، فالعجن كان يتم يدويا ومن خلال أداة بدائية تدعى محليا (الكتنة) أي (المعجن الحجري)، والنقش على قرص العجين بعد ترقيقه وقبل دخوله لبيت النار يتم أيضا بشكل يدوي وبيت النار حجري حيث كنا نستخدم فيه القنب قبل انتشار المازوت لتشغيل بيت النار، إذ نقوم بخلط نوعين من النبات القنب والشيح ونحرقهما، أما تسميته بالحجري فلأن بناء أرضية بيت النار هو من حجر البازلت الناعم والذي يتحمل الحرارة بشكل كبير، وفي أسفل الحجر البازلتي هناك طبقة من الملح الصخري للمحافظة على الحرارة القوية لبيت النار».

فرن آخر تراثي متخصص في إنتاج خبز الوثيقة في منطقة القنوات يدعى فرن جلاوي، يقول صاحبه أحمد جلاوي (أبو فياض)، 70عاما، والذي يعمل فيه مع أولاده الثلاثة، إن عمر الفرن كبناء نحو 600 سنة ومنذ مئات السنين، والفرن ينتج ثلاثة أنواع من الخبز وهي المشروح والمنقوش والماوي، والأخير يتميز بأنه خبز سميك.. وفي فترة الأربعينات من القرن المنصرم كان لكل أسرة في الحارة (كارت) يسمى وثيقة يحصل من خلالها على كيلوغرامين من الخبز يوميا ومن أي نوع من أنواعه الثلاثة».

حسناء سيدة دمشقية في العقد السادس من عمرها عرفتنا على نفسها «أم علاء حمود»، كانت تقف أمام أحد أفران خبز الوثيقة لتشتري بضعة أرغفة منه. تقول أم علاء «لقد وجدت في الأزمة التي نعيشها حاليا فرصة لشراء هذا النوع من الخبز.. جئت من منطقة المجتهد لأشتري هذا النوع من الخبز الذي كانت والدتي تحدثني عنه وعن لذة مذاقه وشكله التراثي الجميل، والأهم من ذلك أنه مفيد للجسم أكثر من الخبز المرقد لكنه أغلى في السعر منه، ومع ذلك قررت شراءه بين الفترة والأخرى خاصة أن الإنسان يعيش معه حكاية تراثية ويعود معه سبعين سنة للخلف، فليس أجمل من أن تتناول طعامك مع عبق وروعة الماضي الجميل الذي افتقدنا مزاياه الجميلة في هذا العصر العجيب الغريب».