ماذا يحدث للأفلام بعد عرضها في المهرجانات؟

الحياة على الشاشات الكبيرة قصيرة

فيليب سيمور هوفمان في لقطة من فيلم «السيد» لبول توماس أندرسن
TT

ليس هناك داع للأمثلة، لأنها أكثر من أن تحصى، لكن الواقع هو أن عدد الأفلام التي تمر مرور الكرام من دون أن تعلق على أهداب البال أو على حواف التاريخ، أكثر بكثير من تلك التي تتنفس أكسجين الحياة بعد عروضها الأولى.

في العام الماضي عرض مهرجان فينيسيا في مسابقته الرسمية 17 فيلما، نجح، إعلاميا ونقديا، وعلى نحو كبير منها اثنان؛ هما: «وجدة» لهيفاء المنصور (السعودية)، و«السيد» لبول توماس أندرسن (الولايات المتحدة). وأحدث الرهجة ستة أفلام؛ هي: الأميركي «إلى العجب» لترنس مالك، و«شغف» للأميركي برايان دي بالما، و«بييتا» للألماني فيم فندرز، و«خيانة» للروسي كيريل سيربنيكوف، و«شيء في الهواء» للفرنسي أوليفييه أساياس، و«بأي ثمن» للإيراني - الأميركي رامين بحراني.

ثمانية أفلام خطفت الاهتمام من أصل السبعة عشر، أي أقل من النصف بفيلم واحد. الفيلمان الأولان عاشا لما بعد المهرجان. فيلم هيفاء المنصور بات واحدا من أنجح الأفلام العربية إعلاميا وتسويقيا على صعيد دولي، وفيلم بول توماس أندرسن دخل معركة الأوسكار وحقق لبعض من فيه جوائز.

الباقي عاش للحظات بعد عروضه العالمية الأولى في هذا المهرجان.. مثل سمك تم اصطياده للتو من الماء، اهتز لدقائق كونية ثم مات. «بأي ثمن» شهد عرضا تجاريا محدودا جدا في الولايات المتحدة.. «شغف» ما زال بلا موزع، «بييتا» وصل إلى مشارف الأوسكار بوصفه فيلما تسجيليا، لكنه وصل باردا وبقي كذلك بعد إعلان الجوائز. فيلم أوليفييه أساياس «شيء في الهواء» كان تعبيرا عن فيلم في الهواء؛ إذ حط وطار من مكانه بلا أثر يذكر.

والأمر ينسحب على باقي الأعمال المذكورة، لكنه أسوأ بالنسبة للأفلام الأخرى التي شاركت في المسابقة (وأكثر وأكثر بالنسبة للأفلام التي عرضت خارج المسابقة)، فهي لم تعش لأكثر من فترة عرضها على شاشات فينيسيا. بمجرد أن انتهت من العرض انتهت – عمليا - من الحضور.. لا توزيع ولا جمهور، ومن انتقل منها إلى مهرجانات أخرى شهد تكرار الحالة لا أكثر.

ليس أن الأمر حكر على الأفلام الفنية.. الأفلام التجارية هي في الوضع ذاته.. كل أسبوع هناك نجاح لفيلم أو فيلمين وسقوط لثلاثة أو أربعة. المخرج ويليام فريدكن، الموجود في حاضرة هذا المهرجان لتقديم «الساحر»، أحد أبرز أعماله، يقول لنا: «كل ذلك صحيح ومؤسف. لكن الأمر هو أن صناعة السينما تقوم على مبدأ ما يبقى وما يختزل أو يُلغى، وما يبقى أقل على نحو محسوب من تلك التي تنتهي سريعا وتنضم بعد ذلك إلى أرشيف مخرجيها أو الشركات التي صنعتها».

هيام عباس، التي عرضت في العام الماضي فيلما من إخراجها بعنوان «الإرث» وتشترك في بطولة فيلم «مي في الصيف» هذا العام (اقرأ النقد في مكان آخر هنا) تقول إن تجربتها في ذلك الفيلم كانت مفيدة على أكثر من صعيد: «فيلمي أثار الاهتمام وتحدثت عنه الصحافة العالمية. لكن لا بد له أن ينضم في نهاية المطاف إلى واحد من مصائر الفيلم الجاد المعروفة، ولو أنني لا أعتقد أن حياته توقفت عند هذا الحد».

الحقيقة أن حياة الفيلم تتوقف عند هذا الحد، ولو أنها لا تنتهي بالضرورة. هناك منافذ أخرى تكمن في مستقبله، تبدأ بإعادة إرساله لمهرجانات أخرى، ثم - إذا كان محظوظا - في صالات السينما، ولاحقا يجد الفيلم نفسه مطبوعا على أسطوانات أو مبثوثا على شاشة التلفزيون.. في حالات كثيرة يختصر المسافة.. هو على أسطوانات الديجيتال من دون المرور في صالات السينما.

كل ذلك لا علاقة له ألبتة بالعمل نفسه من حيث قيمته الفنية.

من ناحية ما يصيب أفلام المهرجانات حين تجد نفسها مستنفدة الحاجة سريعا، هو نفسه ما يصيب الأفلام المعمولة لكي تجذب جمهور الصالات التجارية. ومن ناحية أخرى، هناك أفلام جيدة ومتوسطة ورديئة في كل نوع ولون واهتمام، والسقوط لا يفرق بين ضحاياه.

لكن الحال لم تكن بذلك السوء في الماضي.

في عام 1971 عرض المخرج الإيطالي لوكينو فيسكونتي فيلمه المتوج «موت في فينيسيا» في مهرجان كان ذلك العام.. معه في المسابقة 23 فيلما عاش من بينها ناجيا من جحيم الإهمال «الوسيط» لجوزيف لوزاي (الذي نال جائزة الدورة المذكورة) و«ذعر في نيدل بارك» لجيري تشاتزبيرغ، و«ساكو وفنزتي» لجيليانو مونتالدو، و«دندنة في القلب» للوي مال، و«الإقلاع» لميلوش فورمان، و«التجوال» لنيكولاس روغ، و«حياة عائلة» لكريستوف زانوتسي.. ليس أي منها معروفا جيدا اليوم، لكنها جميعا شهدت عروضا تجارية عالمية بما فيها «ساكو وفنزتي» الذي وصل إلى صالات بيروت على صغر إنتاجه وموضوعه.

يذكر أنه حينها لم تكن كلمة مخرج من نصيب أي امرئ صنع فيلما. كان هناك تقدير لذلك اللقب لدرجة أن معظم أسماء المخرجين كانت تنضوي متواضعة في مكان متأخر بين الأسماء، وهذا التقدير استمر طويلا إلى أن أصبح أي فرد يصور فيلما بآلة الهاتف يسمي نفسه مخرجا، وبات المخرج يضع اسمه فوق أو تحت عنوان الفيلم مباشرة وهو لا يزال مجهولا.

المخرجة كيلي رتشهارت التي تعرض هنا «حركات ليلية» تقول لـ«الشرق الأوسط»: «هذا صحيح ويعرضنا جميعا للضرر». حين سؤالها: كيف ذلك؟ تضيف:

«مثل أي صناعة تغمرها الأعمال غير الجديرة والتي تتصرف كما لو كانت كذلك، يفقد المستهلك الاكتراث لها فيصيب بذلك الأفلام الجيدة والرديئة على حد سواء. المستهلك ليس هنا لكي يجرب وليس بوارد الاكتشاف.. يريد ما هو مضمون، وحين يجد أن كل الأفلام تتصرف على أنها أعمال مضمونة سيتوقف عن متابعتها جميعا باستثناء تلك التي تحمل أسماء معروفة لديه من قبل».

كل ذلك يدفع السؤال التالي إلى الواجهة: أي من أفلام دورة فينيسيا الحالية سيعيش لأطول فترة ممكنة؟ بالتالي، أي أفلام هي المرشحة لأن تخفت وتنضوي حال يقفل المهرجان أبوابه؟ الجواب قرب النهاية.