43 قطعة أثرية تروي حكاية مدينة لبنانية

حصيلة 15 عاما من أعمال التنقيب التي قام بها فريق المتحف البريطاني في صيدا

منظر عام لقلعة صيدا البحرية (رويترز)
TT

«كلما توغلت في عمق الأرض.. تجد نفسك داخل الأزمنة القديمة»، بهذه العبارة تختصر خبيرة الآثار كلود سرحان ضومط حصيلة 15 عاما من أعمال التنقيب التي قام بها فريق المتحف البريطاني المتخصص في مدينة صيدا الساحلية جنوب لبنان، التي يجمع الباحثون على أنها بنيت قبل 5000 سنة.

وتستعد كلود ضومط، التي تعمل في صيدا منذ عام 1998. لمعرض في الثالث من سبتمبر (أيلول)، تعرض فيه 43 قطعة أثرية تصفها بـ«الفريدة»، اكتشفها فريق المتحف البريطاني في الموقع الذي يعمل فيه. وتقول كلود إن هذه القطع الأثرية «تظهر طريقة حياة أسلافنا الذين عاشوا في القرون الماضية في مدينة صيدا».

وتقول لوكالة الصحافة الفرنسية إن القطع الثلاث والأربعين المختارة من بين 1400 قطعة أثرية اكتشفت خلال 15 سنة مضت في موقع مدرسة الفرير الفرنسية، الذي يعتبر من أهم المواقع في لبنان غنى في المكتشفات الأثرية. وتروي تلك المكتشفات تسلل الحقبات التاريخية على مدى خمسة آلاف سنة.

وتضيف «أن أهمية هذا الموقع كبيرة جدا، لأن الحقبات التاريخية المكتشفة في صيدا، تبدأ من آخر الألف الرابع قبل الميلاد، وست طبقات تعود إلى ثلاثة آلاف سنة قبل الميلاد، بعدها 125 مقبرة من العصر الكنعاني، وست طبقات للعصر الكنعاني، ثم الحقبة الفينيقية (الألف الأول قبل الميلاد)، فالحقبة الفارسية والحقبة الرومانية، فالقرون الوسطى والحقبة الصليبية، والعهد العثماني».

وتتابع قائلة: «لقد عثرنا على عدة قطع من الفخاريات والتماثيل والبرونزيات والعملة، ولكن أهم شيء في كل ذلك، هي الأدلة التي تظهر عاما بعد آخر على أن هناك تسلسلا تاريخيا في الطبقات المكتشفة، وهذا ما سيمكننا في المستقبل من كتابة تاريخ مدينة صيدا بالأدلة والبراهين الحسية».

وتلفت إلى أنه تم العثور على 108 مدافن فيها هياكل عظمية، إضافة إلى الطعام والأدوات التي كانت توضع جانب الموتى في المقابر. وتقول: «المقابر التي عثرنا عليها ليست لفقراء بل لأغنياء ومن طبقات رفيعة، دل على ذلك العثور على إشارات تدل على رتب عسكرية ومنها مع المحارب الكنعاني الذي اكتشف في صيدا مؤخرا، إضافة إلى الرماح والفؤوس الصغيرة التي اقتناها هؤلاء للزينة وليس للقتال في الحروب».

وتضيف «عثر فريقنا على كميات كبيرة من القمح المحروق، أثبتت الدراسات أنه يعود إلى 3000 عام قبل الميلاد، واحترق قسم منه بفعل النيران التي اشتعلت في المدينة في ذلك الوقت. لدينا أكثر من مليون قطعة فخارية سنعمل على تنظيفها وجمعها».

ومن هذه القطع نواويس وهياكل عظمية ومقابر وخواتم ذهبية ومعدات حربية قديمة وخناجر مزخرفة وحبوب وعملات.. وتعلق كلود بالقول: «بعد 15 عاما من أعمال التنقيب، أصبح لدينا اليوم كنز أثري لا مثيل له، هذا الكنز جعلنا نندفع لإقامة متحف خاص بالمكتشفات الأثرية في مدينة صيدا، وقد وضع حجر الأساس له قبل شهرين، لكننا ما زلنا نحتاج إلى سنوات إضافية كي نستطيع الوصول إلى عمق الحضارات التي عبرت المدينة».

وتتوقع خبيرة الآثار أن يكون متحف صيدا فريدا من نوعه في الشرق الأوسط وفي الدول العربية، لأنه سيكون داخل الموقع الأثري، وسيضم 1400 قطعة أثرية مكتشفة من موقع الفرير، وسيتيح للزوار رؤية القطع والمكان الذي اكتشفت فيه، وهناك أفلام تبين أعمال التنقيب واكتشاف القطع الأثرية الموجودة في المتحف.

وكانت الدولة اللبنانية قامت باستملاك العقار الأثري في عام 1960 بعد أن عثر فيه على عمود تاريخي يعود إلى الحقبة الفارسية، واكتشفت لاحقا طبقات حقبة تعود إلى آلاف الثالث قبل الميلاد (العهد البرونزي القديم)، وثماني طبقات لحقبة الألف الثاني قبل الميلاد (العهد البرونزي الوسطي – الكنعاني)، وثلاث طبقات لحقبة الألف الأول قبل الميلاد (العهد الحديدي أي الفينيقي وآخره الفارسي)، ما يعني وفق خبراء الآثار التسلسل التاريخي دون انقطاع.

تعتبر المدينة منجما حقيقيا للآثار التاريخية من عصور مختلفة، ولعل أشهر تلك الآثار قلعة صيدا البحرية التي يعود بناؤها إلى القرن الثالث عشر، وعلى وجه الخصوص بين عامي 1227 - 1228، وقد شيدت على أيدي الصليبيين عندما احتلوا المدينة وتمركزوا بها.

وقد بنيت القلعة على جزيرة صخرية صغيرة على بعد 80 مترا من الشاطئ، ويعتقد المؤرخون أن القلعة، وهي عبارة عن نموذج فريد في فن العمارة، بنيت فوق معبد فينقي قديم كان مكرسا لتكريم الإله «ملكارت»، وهي نموذج للفن المعماري في القرون الوسطى، ولا سيما العمارة الصليبية والإسلامية (بعدما أضافت الفتوحات الإسلامية جوانب عمرانية على القلعة).

وكانت القلعة البحرية التي تحيط بها المياه من جميع جوانبها، تتألف في الأصل من مجموعة من الأبراج المحصنة والمتصلة ببعضها عبر ممرات ومسارب، ثم ما لبثت أن توسعت وأضيفت إليها بعض الجدران والدعائم.

وتتألف القلعة من برج شرقي صليبي وبرج غربي إسلامي بني في عهد المماليك وفيها مسجد صغير بناه السلطان الأشرف خليل وجدده الأمير فخر الدين المعني الثاني الكبير. وللقلعة صالة كبيرة تطل على البحر، كما توجد بداخلها كنيسة ينسب بناؤها إلى فرسان الهيكل.

وكانت قلعة صيدا البحرية متصلة بالبر بـ«جسر عبور» مؤلف من قسمين منفصلين ومع إدخال إضافات عليها أصبحت تتصل بالبر عبر جسر حجري يرتكز على قواعد على شكل تسع قناطر وينتهي المآل بها إلى جسر خشبي كان يحرق خلال الحصار والغزوات لعزل من بداخلها وعدم تمكن الفارين من دخولها.

أما البرج الأساسي للقلعة فيبلغ طوله 27 مترا وعرضه 21 مترا، مشاد بحجارة صلبة ومتراصة ومزخرفة، في حين أن الكتلة الصخرية التي يرتكز عليها باب القلعة والبرج تبعد 25 مترا عن داخل القلعة.

والقلعة تعرضت لحملات تدمير متعددة كان أبرزها الدمار الذي لحق بها عام 1840 على أيدي الأسطول البريطاني خلال حربه على إبراهيم باشا المصري، فأعيد ترميمها، كما تعرضت لأضرار عنيفة عام 1937 بفعل الأنواء والعواصف العاتية التي حصلت يومها وقد أطاحت هذه العواصف بالجسر الذي يصل القلعة بالبر وأعيد وصله من جديد.