الدمشقيون يلجأون إلى الحدائق العامة لتناسي يوميات الحرب بالسمر والنراجيل

مقهى في الهواء الطلق يرتاده الباحثون عن دفء إنساني وسط أصوات المدافع

تعرض مطعم للقصف بقذائف الهاون قرب حديقة الجاحظ في حي أبو رمانة بدمشق (أ.ف.ب)
TT

تعج حديقة عرنوس في دمشق، بالرواد الذين يحاولون وسط إجراءات أمنية مشددة، تناسي الحرب المحيطة بهم باللجوء إلى السمر والنراجيل.

وتقول أم سامي لوكالة الصحافة الفرنسية «في منزلي أصاب بالتوتر والقلق بسبب متابعة نشرات الأخبار، لذا آتي إلى هنا لالتقاط الأنفاس»، في وقت يمكن فيه من بعيد سماع أصوات متقطعة لعمليات القصف في محيط دمشق.

وتضيف هذه السيدة ذات الحجاب الأبيض اللون والنظارتين الصغيرتين «عندما أرى كل هؤلاء الناس، لا أعود أشعر بالخوف»، مشيرة إلى الكثير من الطاولات والكراسي البلاستيكية الممتلئة بالرواد الجالسين على مقربة من أكشاك لبيع القهوة والعصير وغزل البنات وعرانيس الذرة، وعلى وقع موسيقى شرقية شعبية تعطي انطباعا بالوجود في مهرجان احتفالي مصغر.

وتحولت هذه الزاوية الخضراء من حي الصالحية (وسط)، التي كانت فسحة الدمشقيين للتنزه قبل بدء النزاع في البلاد قبل أكثر من عامين، لمقهى في الهواء الطلق يرتاده الباحثون عن دفء إنساني وسط الحرب المستعرة، على بعد كيلومترات معدودة، بين القوات النظامية ومقاتلي المعارضة.

ولجأ سكان العاصمة إلى الحدائق العامة بعدما كانوا قد اعتادوا تمضية عطلة نهاية الأسبوع في بساتين غوطة دمشق، التي تحولت مرادفا للنزاع والمعارك، ومؤخرا لهجوم كيميائي مفترض تتهم المعارضة والدول الغربية النظام بالمسؤولية عنه.

وتعج الحدائق العامة في أحياء «تشرين والجاحظ والمرزعة والبرامكة» بالرواد، لكونها أماكن محمية بعدد كبير من الجنود وعناصر الأجهزة الأمنية.

ويشعر هذا الحضور الأمني رواد الحدائق بالطمأنينة. وتقول رقية الزيات المرتدية ملابس سوداء اللون «آتي إلى هنا يوميا وأشعر بالاطمئنان لأن الجيش موجود في كل مكان».

من جهتها، تضيف سمر «هنا نشعر بأقصى درجات الأمان». وتضيف هذه السيدة التي أتت إلى الحديقة برفقة والدتها وابنتها الجالسة في عربة للأطفال «نغير الجو، إضافة إلى أن السهر هنا أقل تكلفة من المقاهي».

ويعتبر منير أن الناس «يأتون إلى هنا لأنه ما زالت ثمة فسحة للحياة، وأيضا لأن الفقراء غير قادرين على دفع 300 ليرة سورية (أكثر من دولار أميركي) ثمنا للنرجيلة»، وهو ثلاثة أضعاف سعرها قبل اندلاع النزاع منتصف مارس (آذار) 2011. ويضيف هذا الرجل، وهو صاحب وكالة سياحية، أن عمله «كان يقوم على السياحة والسفر. الآن بات يقتصر على تنظيم السفرات».

ويقول وسيم، 33 عاما، وهو ينفث دخان نرجيلته «نمضي ساعات (في الحدائق) لتحدي الحرب»، في فسحة تضم أولادا يلهون بركوب الدراجات الهوائية واستخدام الأحذية الخاصة بالتزحلق، فيما يتنزه العاشقون يدا بيد.

وتصدح في الحديقة في بعض الأحيان أناشيد مؤيدة للرئيس بشار الأسد، تقول كلمات أحدها «الشعب السوري في الساحات عم يهتف للدكتور، نحن رجالك يا بشار».

كما يطلق البعض هتافات مناهضة للرئيس الأميركي باراك أوباما، الذي قرر توجيه ضربة عسكرية لسوريا ردا على هجوم مفترض بالأسلحة الكيميائية قرب دمشق في 21 أغسطس (آب)، تتهم المعارضة السورية والدول الغربية نظام الرئيس الأسد بالمسؤولية عنه. وأكد أوباما السبت أنه سيطلب من الكونغرس الموافقة على الضربة قبل الإقدام عليها.

وفي نبرة تحد، يهتف أمير نجار ضد «أوباما» الذي «سيخضع أمام الأسد»، على وقع تصفيق الموجودين في الحديقة. وخلف محاولة الظهور بمظهر عدم المكترث مما يجري، يخفي بعض السوريين قصصا مؤسفة عن واقع شديد التبدل. ويقول أسامة «كنت أعمل في جرمانا (ضاحية واقعة جنوب - شرق دمشق)، إلا أن الإرهابيين (في إشارة إلى مقاتلي المعارضة) دمروا مصنع السكاكر الذي كنت أعمل فيه»، ما دفعه إلى جني رزقه العام الماضي عبر بيع العصير والقهوة والشاي.

وفي حين تضج حديقة عرنوس بالحركة حتى وقت متأخر من الليل، مثلها كمثل بعض الشوارع التجارية الصغيرة، فإن الأجواء الليلية في دمشق تبدلت بشكل كبير منذ بدء النزاع. وتلقي الحرب رداءها على العاصمة مع حلول منتصف الليل، إذ تصبح غالبية الأحياء مقفرة في شكل شبه كامل، عكس ليالي الصيف في كبريات المدن العربية التي تضج بالحياة حتى ساعات الصباح الأولى.

وتعبر السيارات بسرعة فائقة ساحة العباسيين القريبة من حي جوبر في شرق دمشق، والذي يشكل مسرحا لمعارك يومية، في حين أن حي بابا توما في المدينة القديمة وسط دمشق بات على غير سمته، إذ تحول مدخله إلى ما يشبه الثكنة العسكرية بسبب الحواجز العسكرية والجنود المنتشرين بالقرب من الجدران القديمة للمدينة.

وتبدو الأحياء ذات الإنارة الخافتة، شبه كئيبة في الليل، رغم أن المطاعم الشعبية ما زالت تفتح أبوابها لمحبي طاولة الزهر والنراجيل.

رغم ذلك، تبقى أم سامي على تفاؤلها باستعادة دمشق أيامها الغابرة «آمل في أنها ستعود كما كانت».