منافسة حامية من تورنتو وروما ووضع اقتصادي في الصميم

مهرجان فينيسيا يواجه الأزمة الخطرة

«12 سنة عبدا» لستيف ماكوين.. خطفه تورنتو
TT

وجه المخرج الأميركي تيري غيليام الذي يعيش ويعمل في بريطانيا منذ عشرات السنين برد فعل معاد على ما سمّاه فيلما وعرضه في مسابقة مهرجان فينيسيا تحت عنوان «نظرية الصفر».

في الحقيقة للفيلم عنوان مناسب وفيه عبارة حوار تنفع للتعريف به، تقول إن الرقم الوحيد الذي هو مائة في المائة رقم كامل هو «الصفر»، فرقم واحد هو واحد من مائة وكذلك الأرقام جميعا إلى تسعة، لكن الرقم «صفر» يجسّد نفسه كاملا. وهذا ينطبق على فيلم «نظرية الصفر»، فهو بدوره صفر كامل حتى مع محاولة هذا الناقد وسواه البحث عن حسنات مدفونة وسط زحمة الصور والكلمات.

عرض الفيلم في صباح يوم الاثنين والحشد كان كبيرا لأن التوقعات كانت أن غيليام دائما ما فاجأ الجمهور بخيال رحب وثري. لكن هنا نجد الخيال غزيرا من دون رحابة ولا ثراء أو عمق. بعد ربع ساعة بدأ الجمهور بالانسحاب. بعد ساعة كانت الصالة قد أفرغت ثلث من فيها. الذين بقوا للنهاية كانوا فقط يريدون التأكد من أن المخرج الشهير فقد بوصلته ولن يجدها قبل انتهاء العرض.

* الحاجة إلى سوق والحديث عن الزحام هو أمر نسبي

* فينيسيا في دورته السبعين هذا العام لا يشهد ذات الزحام الذي كان للدورات السابقة. والسبب ليس واحدا بل يشرئب برأسين كما لو كان وحشا من الأعماق.

الأول أن المدينة مكلفة جدا. الآتون من بعيد انخفضوا عددا لأن صحفهم تواجه أزمات حادّة. طبعا هناك من الصحف الأجنبية ما يكفي لتدويل نسبة المشاهدين، لكن هناك أيضا فنادق ألغت حجوزات عدد كبير من الصحافيين (والضيوف الآخرين) الذين اعتادوا القدوم من أوروبا وآسيا الجنوبية كل عام.

السبب الثاني، هو أن المهرجان الإيطالي العريق بات محاطا الآن بمهرجانين يزعجانه. واحد يأتيه من خاصرته اليمنى فيلكزه باستمرار والثاني يأتيه من خاصرته اليسرى ويوجعه. المهرجان الأول هو تورنتو الذي ينطلق بعد يومين في دورة جديدة حافلة، والثاني هو مهرجان روما في العاصمة الإيطالية.

المسألة هنا أكثر جدية مما قد تعترف بها إدارة مهرجان فينيسيا. المهرجان الإيطالي الآخر يقع على بعد شهر ونصف تقريبا من الآن، وهو يحتوي على سوق أفلام في حين أن ما أقامه مهرجان فينيسيا في هذا الصدد لا يعدو تجمعا متواضعا لمشاريع يمكن بحثها تجاريا. والشركات مستقلة كانت أو غير مستقلة، هوليوودية أو أوروبية أو سواها، تفضل مهرجانا يمنحها فرصة البحث عن الموزع يشتري ما لديها من مشاريع معروضة أو ربما مستقبلية. طبعا الاستوديوهات الأميركية الكبرى ليس لديها أي مشكلة فهي مؤمنة من أصغر صالة في شنغهاي الصينية إلى أكبر صالة في جوهانسبورغ في جنوب أفريقيا، لكن كل تلك الأخرى لا تفتأ تطلب فرص توزيع لأعمالها وتحاول أن تصطادها في المهرجانات التي تملك أسواقا مفتوحة.

محطة لقاء لكن تورنتو هو مصدر القلق الأكبر. إذ ينطلق قبل نهاية المهرجان الإيطالي الحالي بأكثر من 300 فيلم كل عام، فإنه يسحب البساط من تحت قدمي فينيسيا سريعا وقبل انتهاء دورته. لذلك تجد أن لفيفا من الإعلاميين القادرين يتركون المهرجان بدءا من الثالث والرابع من الشهر، أي في منتصف الدورة، ويستقلون الطائرة إلى العاصمة الكندية. كذلك يفعل عدد من السينمائيين. جورج كلوني وفريق فيلم «جاذبية»، على سبيل المثال، انطلق في اليوم التالي للمقابلة التي أجريناها معه ليلحق مهرجانين هما توليارايد، ولاية كولورادو، وتورنتو. وكذلك فعل عدد كبير من السينمائيين الشغوفين بالوصول إلى تورنتو التي هي بوّابة العروض وفرص التوزيع للشمال الأميركي بأسره.

لكن بعض السينمائيين، وعلى نحو متزايد، بات يفضل تفويت فينيسيا بأسره والطيران باتجاه تورنتو مباشرة ولديه ثلاثة حوافز:

أولا: تورنتو رخيصة بالنسبة لفينيسيا. كون جزيرة ليدو، حيث يقام المهرجان الإيطالي، جزيرة سياحية فإن أسعارها، كحال «كان» سياحية أيضا. المهرجانات التي تقام في المدن، مثل برلين وتورنتو ودبي على سبيل المثال، تمكّن اللاجئ إليها من التمتع بتفاوت مناسب للأسعار الاستهلاكية. فهو يستطيع - إذا لم يوفر له المهرجان الإقامة - أن يجد فنادق صغيرة إذا ما كانت ميزانيته محدودة. هذه الفنادق من المستبعد أن ترفع أسعارها لمناسبة المهرجان لأن معظم روادها من غير المهرجاناتيين. كونها تقع في المدن يعرّضها لمواسم مختلفة ليس منها عنصر المهرجان إلا بالنسبة لبعضها من حملة النجوم الخمسة أو الأربعة.

ثانيا: المهرجان الكندي بات محطة لقاء أميركية - دولية. في الحقيقة هو بديل أساسي للمهرجانات الأوروبية إذا ما قررت جهة إنتاجية أن تورنتو كافٍ ووافٍ. كل ما تحتاجه هو مواكبة الفيلم في مهرجان هو كله سوق مفتوحة وحملات دعائية وحفلات ساهرة. هذا ليس متوفرا إلا في «كان»، لكن «كان» يقع في مطلع الصيف وتوقيت تورنتو مناسب للموسمي الخريف والشتاء، وهو يقف عند بوابة موسم الجوائز أيضا رغم أنه لا يوزّع أي جوائز رسمية باسمه.

* خمسة نقاد عرب

* الحافر الثالث الذي يدفع الكثيرين لتفضيل تورنتو على فينيسيا يكمن في أن تفويت مهرجان فينيسيا هو أمر نسبي. فجزء لا بأس به من الأفلام المعروضة هنا، تحتل شاشة المهرجان الكندي هناك. تورنتو السابق، كان مهرجان المهرجانات حيث كانت الأفلام التي تعرض في المهرجانات السابقة له تشكل أكثر من 85 في المائة من مجمل عروضه. منذ سنوات انحسرت هذه النسبة ولو كثيرا لنحو 55 - 60 في المائة. وهو لا يزال قادرا على تعويض الناقد أو السينمائي إذا ما فاتته المهرجانات الكبيرة الثلاثة برلين وكان وفينيسيا.

نتيجة ذلك أن عددا كبيرا من الأفلام التي ترصّع دورة تورنتو الجديدة لهذا العام كانت محط رغبة مدير المهرجان ألبرتو باربيرا في استحواذها لكن أصحابها قرروا الطيران فوق إيطاليا في طريقهم إلى تورنتو بها.

من هذه الأفلام «12 سنة عبدا» لستيف ماكوين و«هل تستطيع أغنية إنقاذ حياتك؟» لجون كارني و«دوم همنغواي» لرتشارد شيبرد و«الشخص الثالث» لبول هاجيز و«عقدة الشيطان» لأتوم إيغويان.

عربيا، وفي هذا الاتجاه. كان هناك حين عندما كنت تجد نحو دزينة من النقاد في أضعف الأحوال وأكثر منهم من السينمائيين. هذا العام هناك نقاد عرب آتون من لندن (ناقد «الشرق الأوسط») وإيطاليا (عرفان رشيد) وثالث من الجزائر (المخرج والناقد سعيد ولد خليفة الذي يعيش في فرنسا) ورابع من لبنان (هوفيك حبشيان ناقد «النهار») وخامس من مصر (أمير العمري). وهناك كاتب تقرأ له ولا تراه لأنه يكتب غيابيا مقالات يبعث بها لصحيفة لبنانية على أساس أنه حاضر وقائم في «فينيسيا» لكنه في الواقع غير موجود. للقارئ أن يتصوّر كم الأخطاء التي يرتكبها بمعزل عن إدراك صحيفته الواثقة به.

من غير الجسد النقدي، هناك المدير الفني لمهرجان دبي السينمائي مسعود أمرالله ومدير قسم السوق في ذلك المهرجان سامر المرزوقي، ثم المنتج والممثل عمرو واكد. و.. هؤلاء هم الكوكبة العربية.

لا أحد يقول إن مهرجان «فينيسيا» منتفي الحاجة، ولا أنه يعيش مأزق وجود. لكن في عصر تمر فيه أوروبا بأزمة اقتصادية قد تتبلور نحو الأسوأ في أكثر من دولة، بينها إيطاليا، فإن المستقبل لا يبدو ورديا. السياحة تبقى المورد الأول لهذا الجزء من أوروبا، لكن غلاء المعيشة يمكن له أن يقوّض المبادرات والاحتفالات و.. نعم: المهرجانات أيضا.