المشهد: يوميات مهرجان «فينيسيا» السينمائي الدولي (10)

قصور عربي مستمر

من فيلم «تحت البشرة»
TT

تصرفت مجلة «فاراياتي» الشهيرة في عالم صناعة وتسويق السينما وشؤون الإعلان الأخرى كما كان يجب عليها أن تتصرف. بعد طباعة ثلاثة أعداد فقط من اليومية التي أطلقتها في مهرجان فينيسيا، أوقفت الطباعة وانصرفت. من يود قراءة مقالاتها عليه أن يبحر في عباب الإنترنت.

أما المجلة المنافسة «ذا هوليوود ريبورتر» ففهمت الوضع قبل حدوثه: فينيسيا بلا سوق فعلية، وبالتالي لا معلنين فيها، مما يجعل إصدار مجلة يومية تواكب أعمال المهرجان ترفا مكلفا لا داعي له.

كلتاهما توجهت إلى تورونتو حيث المصدر الإعلاني أقوى. صحيح أنه ليست هناك من سوق للسينما، لكن ذلك يعود إلى أن كل المهرجان الكندي سوق مفتوحة. وتبعتهما مجلة «سكرين» البريطانية، الثالثة بالنسبة للحجم والانتشار وقوة الحضور.

قبل الإنترنت كان المرء يفكر في أن العالم العربي يحتاج إلى إثبات حضور في تلك المهرجانات، وواحد من طرق هذا الإثبات أن تكون له مجلته السينمائية اليومية. تنقل بالإنجليزية - لم لا؟! - أخبار السينما والسينمائيين العالمية والعربية.. تقرب المسافة بين الجميع وتتحول إلى جسر مصالح كما هو متبع. مكتب السينما الكوري ذات مرة جاءني في «كان» يسأل إذا ما كنت مشرفا على مجلة سينمائية ليضع فيها إعلانات. أحد هناك سمع أنني أفعل ذلك. نفيت وعلمت بأن السينما الكورية، التي لا سوق لها مطلقا في العواصم العربية، راودتها فكرة افتتاح هذه السوق برصد 100 ألف دولار خلال دورة «كان» تلك. مبلغ مهم، لكن أهميته تأتي بسبب قصورنا المستمر.

وقد حاولت مجلة «فاراياتي أرابيا» ترميم هذا الفراغ وسد الفجوات عندما انطلقت حاملة اسم المجلة الأميركية.. لكن مؤسسها لم يكن على علاقة لا بالصحافة ولا بالسينما، مما جعله يدفن في المشروع رأسماله كله ويزيد. بعد سنة ونصف شحت الموارد وتوقفت.. لكن ليس كل اللوم من نصيبه وحده.. إلى اليوم، ليس هناك من مهرجان عربي يضم سوقا فعلية. أكاد أستثني «دبي»، فهو يضم سوقا، لكن التجسيد الفعلي ليس متاحا، فالعالم العربي يشتري أفلامه من «ديزني» و«فوكس» و«باراماونت» وباقي شركات الإنتاج والتوزيع الأميركية. أما الأفلام الأخرى، فقلما تتسلل إلى عواصمنا، مما يعني أن الموزع أو المنتج الأجنبي قد يحضر سوق دبي (أو غيره إذا ما تمكن) لكنه قد لا يجد من يشتري أفلامه.

الزميل سمير فريد، الذي عين رئيسا لمهرجان القاهرة السينمائي، ينوي إقامة سوق للأفلام في حاضرة المهرجان المصري الذي سينعقد في نوفمبر (تشرين الثاني) من العام المقبل. وهو لاحظ أنه خلال دورات مهرجان القاهرة الـ33 لم يتم بيع فيلم واحد إلى مصر.

أمر محزن، إلى أن تدرك أنه انعكاس لأحوالنا العامة في الشأن الثقافي والسينمائي (الكتاب مثلا).. فتزداد حزنا.

* ما الأفلام التي ستحبذها لجنة التحكيم؟

* قرارات اللحظات الأخيرة

* حالة من التوقعات غير المجدية سادت اليومين الأخيرين قبل إعلان الفائزين مساء هذا اليوم (الأحد) سببها أن الأفلام تساوت من حيث إنه ليس من بينها ما هو إنجاز فني كبير ومنفرد. ليست هناك ثلاثة أو أربعة أعمال تتنافس بقوة على جائزة «الأسد الذهبي» كما كانت الحال في السنوات القليلة الماضية. وأكثر من صحافي إيطالي قال لنا، أو كتب في صحيفته، شاكيا من أن هذه الدورة هي أضعف دورات المهرجان منذ سنوات بعيدة.

جيوفاني أوتوني ناقد مجلة «سيني كريتيكا» يقول وهو يتجاهل صحن الاسباغتي أمامه: «لا أذكر متى كانت آخر مرة عانى فيها هذا المهرجان من أفلامه». حين يقول له أحد الجالسين إن المسألة تتعلق بما هو متوفر من الأفلام، يرد: «كيف لنا أن نعلم؟ ثم إن الحكم على ما هو موجود من دون أعذار. أفلام هذا العام تتنوع من رديئة إلى معتدلة تشرف على النجاح ولا تحققه».

بيتر كاوي، وهو ناقد سينمائي بريطاني سابق لا يزال نشطا في شأن الثقافة السينمائية بعدما انتقل للعيش في سويسرا، يقول:

«أعتقد أنه لا يوجد مهرجان مثل (فينيسيا) يقصد أن يؤذي نفسه. وأميل لأن أقول إن هذا ما استطاع (فينيسيا) أن يجده من أفلام متوفرة. يجب ألا نحمل عليه كثيرا».

المنظور من وجهة نظر مدير المهرجان ألبرتو باربيرا، الذي التقيناه في مكتبه قبل يومين، مختلف: «أولا لا أوافق على أن الدورة الحالية ضعيفة بالإجمال. هناك عدد من الأفلام الجيدة التي عرضناها ونالت الإعجاب. لكن الحاصل هو أن مهرجان (كان) أوصى على أفضل الأفلام قبلنا. أعتقد أنه وجد أن المنافسة بيننا باتت حامية، فقام بالعمل على جمع برنامجه للدورة التي انعقدت في مايو (أيار) الماضي قبل عشرة أشهر».

حين سؤاله عما إذا كان هذا اعترافا بتقصير من جانب إدارته، قال: «لا.. لأننا كنا سنفعل الشيء نفسه. المشكلة هي أن (فينيسيا) لا يريد أن يقلد مهرجان (كان)، بل نسعى للاختلاف عنه قدر الإمكان».

هذا لا يقبله الناقد أوتوني الذي يلقي الضوء على ما يراه السبب الرئيس وراء ضعف هذه الدورة:

«هناك سببان في الحقيقة.. الأول هو الصراع السياسي الدائر في إدارة المهرجان تبعا للصراع السياسي في البلاد. إذا ما وصل إلى سدته من ينتمي إلى حزب يميني، رفض أفلاما إيطالية من الجانب الآخر، وإذا ما انتمى إلى حزب يساري، رفض الأفلام اليمينية أو تلك التي تباركها الأحزاب الأخرى». يضيف: «السبب الثاني هو أن باربيرا يريد لمهرجانه أن يكون مثل (كان)، لكن على أصغر عوض أن يعود إلى الأسس طارحا المهرجان على أنه إنجاز ضخم».

* خلطة خفيفة

* هذه النقطة الأخيرة صالحة للتداول لكنها ليست ثابتة، فالمهرجان الإيطالي يأتي وسط متاعب اقتصادية معروفة، مما يحد من محاولة عملقته إلى الدرجة التي يمكن له فيها ترك أثر ما ينافس به زميله الفرنسي.

أكثر من ذلك، هناك حقيقة أن جوائز كل المهرجانات الكبرى لا تعني الكثير إلا للحاصلين عليها.. إنها ليست مفتاحا للتسويق والنجاح التجاري على نحو مؤكد، وليست محطة صوب أي غاية أخرى. الجائزة العالمية الأولى ما زالت من احتكار الـ«أوسكار» الأميركي، ومعظم ما يدخل تلك المنافسة إما أنه لم يعرض في أي مهرجان أو أنه توجه لمهرجان تورونتو، كما الحال مع الفيلم الذي يشهد حاليا هالة إعجاب كبيرة وهو «12 سنة عبدا».

الناظر إلى أفلام الدورة السبعين من المهرجان الإيطالي يدرك أن الفوز لن يكون سهلا؛ إذ أن الأفلام الجيدة ذاتها لا تخلو من النواقص.. هذا ينطبق مثلا على «فيلومينا» لستيفن فريرز الذي يقف حاليا، وهذا التقرير يُبعث به قبل ساعات من حفل الختام حيث تعلن الجوائز، في الصف الأول من التوقعات. إيجابياته: خلطة كوميدية - درامية لا بأس بها. قصوره كامن في أن الخلطة خفيفة أكثر من اللازم بحيث لا تترك أثرا بعد الانطباع الأول.

«مسارات» لجون كوران، مثير وجميل للنظر إليه من ناحية، ويعاني من نص تقليدي لا يشفي غليل الباحث عن معالجة دسمة وكاملة للحكاية التي يعرضها.

«تحت البشرة» لجوناثان غلايزر يحمل حبكة جيدة، لكن تنفيذه متكلف في أفضل الأحوال.

«أنا عربية» للإسرائيلي آموس غيتاي مثير للاهتمام كرسالة نوستالجية لوقت مضى، لكنه ساذج الطرح.

«هبوب العاصفة» لهاياو ميازاكي، جيد في كل ركن من أركانه، لكن ساعته الأولى أفضل من الثانية، وهو «أنيماشن»، مما يجعله يبدو متطفلا على الجائزة أكثر مما هو مستحق لها.

في هذا الإطار أخفقت السينما الأميركية في أن تثير أي رهجة أو تطرح عملا لا يمكن التغاضي عنه.. هذا على كثرة ما هو مطروح فيها.

«جو» هو أفضلها صنعا. دراما قوية الطرح اجتماعيا، وجيدة التأليف سينمائيا، لكن هذا العمل مساء فهمه؛ إذ يقع في شق ضيق من الانتاجات؛ لا هو مستقل ولا هو هوليوودي تقليدي، مما يضعف من احتمالات منحه ما يستحق.

«حركات ليلية» لكيلي ريتشارد، تضعفه حبكة غير المتقنة رغم فكرته الجديدة حول قيام ثلاثة مدافعين عن البيئة بتفجير سد على بحيرة، مما أدى لقتل رجل بريء، وما يلي ذلك من دخول نفق الشعور بالذنب.

«المعروف المجهول» الفيلم التسجيلي لإيرول موريس كان مثيرا للنظر مع طروحات غير جديدة. نعم كان يستحق التقديم في مسابقة، لكن حصوله عليها هو أمر آخر.

إلى جانبها كانت هناك مجموعة أفلام أميركية أخرى، لكنها تنحدر من المعتدل («باركلاند») إلى الرديء («طفل الله»).

ثم هناك رئيس لجنة التحكيم برناردو برتولوتشي نفسه.. كأي رئيس لجنة تحكيم يمسك الخيوط جميعا، ولديه، بحكم الخبرة، ما يحبذه كثيرا وما يحبذه قليلا وما لا يحبذه مطلقا بصرف النظر عن الرأي النقدي. ومن الصعب تصور أنه سينقاد بالكامل وراء أي من الأفلام المذكورة. هذا كله مما يجعل الصورة غير واضحة بالنسبة لمن سيفوز أو لا يفوز.

يضاف إلى ذلك أن الرئيس محاط بثمانية أصوات متنافرة.. أعضاء موزعون بين الكتابة والإخراج والتمثيل، ولكل اتجاه وتفضيل خاص به. نعم هذه حالة كل لجان التحكيم، لكن عادة ما تستطيع أن تجد إمكانية اتفاق بين اثنين أو ثلاثة.. ليس هذه السنة! في القسم الرئيس الثاني للمهرجان، وهو «آفاق» (المصنوع على هوى «نظرة ما» في مهرجان «كان») بدأ الصراع قبل يومين وانتهى من دون أن يحقق عمرو واكد، وهو أحد أعضاء هذه اللجنة، ما كان يود تحقيقه:

«لا أستطيع ذكر عناوين أو أسماء أشخاص. لكن هناك في هذا القسم فيلم وجدته مبهرا ووافقني على هذا الرأي عضوان آخران.. لكني تلمست صدا منيعا من قبل رئيس لجنة التحكيم (المخرج الأميركي بول شرادر) والأعضاء الآخرين. حاولت إيصال فكرتي، لكني ووجهت بوجوم شديد.. في النهاية قلت لهم: يوما ما سأحقق فيلما عنكم».

في العام الماضي، نال الفيلم الأميركي «السيد» جائزة «الأسد الذهبي»، لكن خللا في القوانين لا يسمح بمنح جائزتين لهذا الفيلم، قاد إلى سحب هذه الجائزة ومنحها إلى الفيلم الكوري «بييتا» لكي بوك كيم. الجائزة الثانية لحساب فيلم «السيد» بقيت كما هي وذهبت إلى الممثلين واكين فينكس وفيليب سايمور هوفمان. هذا العام لا نتوقع شيئا من هذا، لكن ذلك لا يعني أن الجائزة قد تكون مفاجأة بأكثر من مقياس.