حي «بولاق أبو العلا» الشعبي بالقاهرة ينتفض ضد أبراج رجال الأعمال

القضاء المصري انتصر لسكانه وأوقف الاستيلاء على الأرض وهدم البيوت

بعد أن تعرضت للهدم.. بيوت سكان حي بولاق أبو العلا الشعبي تقاوم سطوة أبراج رجال الأعمال («الشرق الأوسط»)
TT

«أنت تعرف بولاق أبو العلا إذن أنت تعرف القاهرة».. هذه الحقيقة يدركها غالبية سكان العاصمة المصرية وعدد كبير من الوافدين إليها. فالحي الشعبي بموقعه الجغرافي وتاريخه العريق وناسه البسطاء الكادحين على ضفة النيل شرق العاصمة، قادر على أن يصنع الحياة يوميا، ويجدد إيقاعها بعرق الحرفيين من كل الفئات، ونداءات الباعة على المقاهي وفي «وكالة البلح» أشهر سوق للملابس المستعملة والاحتياجات المنزلية في القاهرة.

لكن الحي ببيوته القديمة البسيطة وأزقته المتربة التي تصارع الزمن لم يسلم من غول الحداثة، فمنذ سنوات استطاع رجال الأعمال أن يستغلوا معاناة عدد من السكان، وأن يجدوا موضع قدم لهم بالحي، فأزالوا عددا من البيوت في منطقة «رملة بولاق» الحيوية المطلة على النيل، وشيدوا على أنقاضها عددا من الأبراج، والمولات التجارية والفنادق الفخمة، الأمر الذي بات يهدد أهالي الحي خوفا من بطش رأس المال، فيجدون أنفسهم فجأة في العراء، خارج تاريخهم وذكرياتهم وأشواقهم التي عاشوها على مدار سنوات طويلة في كنف الحي العريق.

قبل أيام أنصف القضاء المصري أهالي الحي، وأصدرت محكمة القضاء الإداري المصري حكما ببطلان استيلاء الدولة على أرض الأهالي وتهجيرهم منها. لكن حالة الفرحة التي يعيشها السكان، لا تخلو من نبرة توجس وخوف من احتدام المعركة مع بعض رجال الأعمال الذين خسروا القضية، بعد أن كانوا يخططون لتهجير الأهالي منها وهدم المنازل لإقامة مشروعات سياحية ضمن خطة لتطوير المنطقة بالتعاون مع محافظة القاهرة، ومن دون توفير سكن بديل للأهالي.

أيمن أحمد (33 عاما) بائع متجول يقول في أسى: «أسكن هنا منذ نحو عشرة أعوام، في غرفة لا تتعدى مساحتها 4 أمتار، أنا وابنتاي البالغتان 3 و4 أعوام، توفيت والدتهما منذ نحو عام متأثرة بمرض أصابها نتيجة تلوث المياه، فلا يوجد هنا الحد الأدنى للحياة الآدمية للسكان، نحن نعيش حياة بدائية بامتياز، والكثير من الأهالي هنا أصيبوا بأمراض مستعصية، نتيجة تلوث المياه والحشرات التي تملأ المكان، ناهيك عن عدم توفر نفقات العلاج».

يضيف أيمن وهو ينفث دخان سيجارته بغضب: «المكان يحتاج إلى تطوير وترميم حنى يصلح للحياة، فحكم القضاء برد الأرض ليس كافيا، نحن نريد أن يلتفت إلى أوضاعنا أصحاب القرار.. حمايتنا من التهجير جيدة ولكن هناك حدود للحياة الآدمية، وقد كتبنا شكاوى كثيرة إلى المحافظة منذ زمن الرئيس الأسبق مبارك، وحتى الآن لم يرد أحد على شكوانا».

يأتي الحكم ببطلان قرار محافظ القاهرة برقم 8993 لسنة 2011 انتصارا للأهالي الذين يعانون عدم توفر المرافق الأساسية وكانوا على وشك التهجير والتشرد، إلا أن الدعوى التي أقامها أحمد حسام المحامي بالمبادرة المصرية للحقوق الشخصية أكدت في عريضتها أن قرار الاستيلاء على منازل أهالي المنطقة وهدمها مخالف للإعلان الدستوري الصادر في مارس (آذار) الماضي. ويرى غالبية سكان المنطقة أن الهدف الظاهر له هو تطوير المنطقة بينما الهدف الحقيقي هو هدم منازلهم وبيع الأرض لكبار رجال الأعمال من المستثمرين لإقامة أبراج ومناطق سياحية وترفيهية.

إبراهيم محمد (46 عاما) أحد سكان المنطقة يؤيد هذا الرأي ويؤكد: «ما جرى كان مخططا لتهجير الأهالي وهدم منازلهم، وقد تم هدم بعضها بالفعل قبل صدور قرار القضاء الإداري وشرد الكثير منهم، متسائلا: «أين كانوا سيسكنونا بعد هدم منازلنا وتهجيرنا، أليس من حقنا أن نسكن، نحن لا نطلب سوى الحد الأدنى من المعيشة الآدمية ولا نطالب بتطوير مبالغ فيه فقط توفير المرافق الأساسية التي غابت عنا لعقود».

تعتبر «بولاق أبو العلا» من أكبر أحياء القاهرة من حيث الكثافة السكانية والمساحة وبها عدد من أشهر وأقدم وأكبر المساجد بالقاهرة أشهرها مسجد السلطان أبو العلا، وأكبرها مسجد سنان باشا، وأقدمها مسجد زين الدين يحيى، ولسنوات قريبة كان بها أكبر سوق لبيع الخضر والفاكهة «سوق روض الفرج»، كما تضم أشهر سوق للملابس المستعملة وهي «وكالة البلح» والتي تعد مخزن احتياجات الفقراء وأبناء الطبقة الكادحة، وبالحي سينما «علي بابا» و«فؤاد» وهما من أهم دور السينما الشعبية في الخمسينات من القرن الماضي، وكذلك شارع السبتية وهو أشهر الشوارع التجارية والصناعية في مجال الحديد والصلب، وقد ارتبط في المخيلة الشعبية بحكاية «فأر السبتية» الذي كان يعزى إليه قطع الكهرباء لساعات طويلة عن الحي منذ عقود.

واشتق اسم ‏بولاق من المفردة الفرنسية «beau lac‏» أو البحيرة الجميلة، ويرجع ‏إلى ‏عام ‏1281. حينما‏ ‏تكونت‏ ‏جزيرة‏ ‏في ‏النيل‏ ‏ثم‏ ‏تلتها‏ ‏جزر‏ ‏أخرى‏، ‏واتصلت‏ ‏هذه‏ ‏الجزر‏ ‏ببعضها‏ ‏‏، ‏فصارت‏ ‏أرض‏ ‏بولاق. ‏وفي ‏عام‏ 1313‏ سمح‏ ‏الملك‏ ‏الناصر‏ ‏محمد‏ ‏بن‏ ‏قلاوون‏ ‏بالبناء‏ ‏على ‏هذه ‏الأرض‏ ‏فأقام‏ ‏الناس‏ ‏البيوت‏ ‏والبساتين‏. ‏وكانت‏ ‏بولاق‏ ‏حتى ‏عام‏ 1858‏ بلدة‏ ‏صغيرة‏ ‏على ‏النيل، ‏وكانت‏ ‏الأرض‏ ‏الواقعة‏ ‏بينها‏ ‏وبين‏ ‏شارع‏ ‏رمسيس‏ ‏الحالي ‏أرضا‏ ‏زراعية‏.‏ ‏‏ثم انتقلت‏ ‏بولاق‏ ‏إلى ‏الحداثة‏ ‏في ‏عهد‏ ‏محمد‏ ‏علي ‏الذي ‏أنشأ‏ ‏المطبعة‏ ‏الأميرية‏ ‏فيها‏ ‏عام ‏1822. ‏وكانت‏ ‏تقوم‏ ‏بطباعة‏ ‏الكتب‏ ‏الحكومية‏، ‏وأنشأ‏ ‏بجوارها‏ ‏مصنعا‏ ‏للورق‏ ‏بدلا‏ ‏من‏ ‏استيراده.