«خلينا بالبيت».. أصبحت العبارة الشائعة في لبنان

هاجس الانفجارات يطارد اللبنانيين ويتسبب لهم بأزمات نفسية

طاولات خالية من الزبائن في أحد أشهر المطاعم في بيروت (أ.ف.ب)
TT

لم تعد النزهات والمشاوير لدى اللبنانيين تمر مرور الكرام في يومياتهم، حتى إنهم صاروا لا يستطيعون التخطيط لها، دون التفكير بإمكانية حصول انفجار ما أثناء قيامهم بها على الطرقات المزدحمة. فالتفجيرات المتتالية التي جرت في أكثر من منطقة (الضاحية الجنوبية وطرابلس)، إضافة إلى التهديدات التي تلقتها مناطق أخرى مسيحية، ولدت لديهم خوفا من الوقوع ضحيتها مما دفعهم لإلغاء غير الاضطراري من مشاريعهم.

ولعل: «خلينا في البيت» هي العبارة التي باتت تشكل العنوان العريض ليوميات اللبناني ومشاريعه فـ«البيت» ما زال حسب رأيه يمثل له الملجأ الآمن الوحيد في ظل التفجيرات المتلاحقة التي حصلت في عدة مناطق لبنانية.

ومما زاد الطين بلة - كما يقال باللبنانية - هو انغماس اللبناني بتحليلات وقراءات سياسية رسمت في رأسه خطوطا حمراء وأخرى خضراء، توحي له بشكل أو بآخر، توقعات بحصول انفجارات، في هذه المنطقة وليس تلك مثلا.

ميادة نمر، التي تقصد يوميا شارع المصارف وسط بيروت، انطلاقا من منزلها في الأشرفية توضح معاناتها بهذا الخصوص قائلة: «لا أتوقف طيلة وقت قيادتي لسيارتي من مكان سكني إلى عملي والذي يشمل مناطق مزدحمة بالسير مثل ساحة ساسين وتقاطع شارع (السنا فؤاد شهاب) إلا وأصاب بالذعر متضرعة إلى الله أن يجعل كل إشارات السير خضراء لأمر بسرعة، فلا أجبر على التدقيق في كل سيارة متوقفة إلى جانب الطريق».

أما نبيل الخوري، وهو موظف في شركة عقارات في (عين الرمانة) يؤكد من جهته أن موجة السيارات المفخخة دفعته للذهاب سيرا على الأقدام (هرولة) من منطقة سكنه في شارع (بدارو) إلى مركز عمله قائلا: «هو شعور نفسي ينتابني كل صباح قبيل توجهي إلى عملي وأثناء عودتي منه. واستخدام قدمي لأنهما برأيي الوسيلة التي يمكن أن تجنبني الضرر الأكبر، في ظل ما نعيشه».

وبين هذا المواطن وتلك السيدة لم تتوان ناتالي فرنيني من أخذ عطلة غير مدفوعة من عملها، الواقع في منطقة صيدا لمدة شهر كامل للبقاء في المنزل، ولتوفر على نفسها عناء التخيلات والهواجس التي تصاب بها أثناء قيادتها لسيارتها طول الطريق التي تشمل مناطق خلدة والأوزاعي وغيرها. ماذا بعد انتهاء فترة إجازتها؟ ترد: «عندها لكل حادث حديث، خصوصا وأن الأوضاع في سوريا دقيقة والخوف من ضربة عسكرية أميركية باتت مؤكدة في هذه الفترة.. خليني في البيت أفضل».

ويقوم عدد لا يستهان به من اللبنانيين بمهمة الأمن الذاتي في محيط سكنهم أو عملهم. فهنا رجل يقوم بجولة يومية في الشارع الذي يسكنه (السيوفي) يسأل عن صاحب كل سيارة مركونة فيه. وهناك صاحب محل تجاري في منطقة «السوديكو» لا يتوقف عن الخروج بين كل دقيقة وأخرى إلى الرصيف مقابلة لمنع أي شخص من ركن سيارته أمام محله خوفا من أن تكون مفخخة. ولا تتوانى بعض السيدات اللواتي يقصدن المراكز التجارية الكبيرة مثل (ا.ب.ث) والـ(السيتي سنتر) والـ(مول) من التأكد من موظفي الحراسة الأمنية فيها، إذا ما كانوا يقومون بعملهم على أكمل وجه، بواسطة الفاحص الإلكتروني الذي يحملونه للتدقيق في كل سيارة تدخل المجمع.

«هي حالة من الهستيريا والجنون تصيبنا وتجعلنا قلقين باستمرار من جراء الأوضاع الأمنية المتردية في البلاد» يقول منير فاخوري، الذي التقيناه في شارع الحمرا يمشي بخطوات سريعة من محل الخضراوات إلى منزله الواقع في نفس المنطقة، والذي اعتبر أن توقعات العرافين على شاشات التلفزة زادت من مخاوف اللبنانين عامة، لا سيما وان هؤلاء (أي العرافين) لم يترددوا في ذكر المناطق التي يتوقعون حصول انفجارات فيها وتحديدها بالاسم مثل (الحمرا والجميزة) مختتما بالقول: «لو يوقفوهن عن الشاشة مش أحسن؟» وكما يقول المثل الشائع: (الأهل يأكلون الحصرم والأولاد يضرسون). فإن أكثر المتضررين من هذه الحالة السائدة في لبنان هم الأولاد إذ صار ممنوع عليهم حضور حفلة موسيقية مثلا في منطقة الضبية أو وسط بيروت أو ارتياد السينما مثلا لأن أهاليهم يتخوفون من حصول انفجار سيارة مفخخة. وإذا ما كان الأولاد متأكدين من أنه لا سيارات تركن في محيط تلك الأماكن، يبادرهم الأهل بالقول: «وماذا لو استعمل أحدهم حقيبة للتفجير وليس سيارة؟». وتقول نهاد ساسين (جدة لعدة احفاد): «لطالما منينا النفس بأن لا يعيش أولادنا ما سبق وعشناه في لبنان أثناء اندلاع الحرب، ولكن يبدو أن تمنياتنا ذهبت سدى في ظل السياسة المتبعة في منطقة الشرق الأوسط ككل».

«خلينا بالبيت».. هي عبارة قد تفقد صلاحيتها عند بداية الموسم الدراسي المقبل. فاللبنانيون يتساءلون كيف سيرسلون أولادهم إلى المدارس في ظل الوضع الأمني المتردي. ترد ياسمين غاريوس، مديرة إحدى المدارس الرسمية في بيروت: «في الحقيقة نحن في انتظار بلورة الأوضاع وبعضنا يترقب قرار بداية الموسم الدراسي في المدارس الخاصة مثل (ليسيه الفرنسية) مثلا. فهذه المدرسة هي بمثابة ميزان الأمن بالنسبة لنا لأن الحكومة الفرنسية تشرف مباشرة على إدارتها، فعندما تعطي الضوء الأخضر لانطلاقة موسمها، فذلك يعني أننا سنكون بخير وإذا ما أجلت الموعد أو طالبت رعاياها بمغادرة لبنان فذلك يعني أن الأوضاع غير مستقرة».

الاختصاصي النفسي د.مرام حكيم أوضح أن هذا الهاجس الذي يعاني منه اللبنانيون اليوم، قديم العهد ويمتد إلى أيام الحرب الأهلية في لبنان. وأشار لـ«الشرق الأوسط» إلى أن الشعور بالخوف هو أمر طبيعي لأشخاص عاشوا الحرب اللبنانية بتفاصيلها والتي يتكرر حاليا بعض من فصولها. وقال د. حكيم: «إن هذا الخوف يفرز أيضا أمراض جسمانية كارتفاع نسبة ضغط الدم أو حساسية معينة». أما الجيل الجديد - حسب رأيه فسيعاني من نفس الهاجس، بعد أن شهد عدة انفجارات لسيارات مفخخة.