الفلاح.. حكاية مدرسة رسمت خارطة التعليم في السعودية

معلم تاريخي مصنف من الدرجة الأولى

أبيات شعر كتبت أعلى الباب القديم للمدرسة في جدة
TT

تعتبر مدرسة الفلاح والمصنفة كمعلم تاريخي من الدرجة الأولى في جدة غرب السعودية، أول مدرسة نظامية في الجزيرة العربية، وهي الركيزة الأساسية التي استند عليها في رسم خارطة التعليم في المملكة، كما كان لها السبق في تخريج الجيل الذهبي من المفكرين والمبدعين لسكان منطقة الحجاز.

الفلاح، إحدى عبارات الأذان عند المسلمين، وهي تدعو من يسمعه للإسرع للفوز بالجنة، ولعل مؤسس مدرسة الفلاح الراحل الحاج محمد علي زينل رضا، كان يبحث قبل إطلاق حلمه في 7 من ديسمبر (كانون الأول) لعام 1905. عن اسم يدفع الناس للالتحاق بهذا الصرح الجديد خاصة أن «جدة» في تلك الحقبة كانت تعيش فترة عصيبة بعيدة عن التعليم والمعرفة، مع انتشار الأمية في مطلع القرن العشرين.

وتعود تفاصيل حكاية الصرح التعليمي الأول منه في الجزيرة العربية، إلى رغبة محمد زينل، مؤسس المدرسة، في تحسين أوضاع المجتمع الجداوي ومنطقة مكة عموما، وإخراجهم مما كانوا فيه، فتقدم إلى الوالي التركي، الذي كانت تحكم بلاده منطقة الحجاز، يعاونه في ذلك عبد الرؤوف جمجوم بطلب إنشاء مدرسة نظامية، وتمت الموافقة على الطلب المقدم.

وبحسب الروايات، أن مؤسس المدرسة بدأ عملية التدريس قبل ذلك الوقت في منزله، وما أن جاءت الموافقة سارع في البحث عن موقع ملائم يستوعب أكبر عدد من الراغبين في الدراسة، وأسهمت السيدة خديجة عبد الله زينل، زوجة مؤسس المدرسة، في إطلاق المدرسة بعد أن قدمت حليها ومصاغها لشراء مبنى المدرسة وتمويلها.

ويروى أن الحاج زينل كان ينفق من ماله الخاص لمساعدة أهالي الطلاب، فكان يخصص لهم مكافأة شهرية لكي يضمن تفرغ الطلاب للدراسة وعدم دفعهم للعمل.

يأخذ الطابع الهندسي لمدرسة الفلاح التي تقع في منطقة البلد ببرحة الزبيدي، في جدة غرب السعودية، نمط المساكن المتناثر في تلك الحقبة، إذ تعتمد بيوت جدة على الحجر المنقى المستخرج من بحيرة الأربعين، ويتم تعديله بالآلات اليدوية ليوضع فـي مواضع تناسب حجمه إلى جانب الأخشاب التي كانت ترد إلى جدة من المناطق المجاورة كوادي فاطمة، أو ما يتم استيراده من الهند عن طريق الميناء.

ويستخدم قاطنو جدة في عملية البناء، الطين الذي يتم جلبه من بحر الطين، وذلك لتثبيت المنقبة ووضعها بعضها إلى بعض، وتتلخص طريقة البناء فـي رص الأحجار فـي مداميك يفصل بينها قواطع من الخشب «تكاليل» لتوزيع الأحمال على الحوائط لكل متر، ويشبه المبنى القديم إلى حد كبير المبنى الخرساني الحديث والأخشاب تمثل تقريبا الحوائط الخارجية للمنشأ الخرساني وذلك لتخفيف الأوزان باستعمال الخشب.

ويقول العم علي سكري مدير مدرسة الفلاح قبل 20 عاما: «انتسابي لهيئة تدريس مدرسة الفلاح كان بمثابة تقدير لشخصي، حيث كنت أعمل قبل ذلك في المدارس الواقعة في منطقة سبع القصور، وهي المنطقة التي تكثر فيها مدارس ومباني وزارة التربية والتعليم في تلك الفترة، وذلك كون مدرسة الفلاح تحمل إرثا تاريخيا وتخرج منها شخصيات بارزة ورجال أعمل وآخرون تقلدوا مناصب قيادية في الدولة.

وأردف سكري، أن عدد العاملين في المدرسة آنذاك كان يتجاوز 20 فردا، منهم 10 مدرسين سعوديين، ونحو 7 مدرسين من جنسيات عربية، وكانت المدرسة تقوم في المقام الأول على دراسة سلوكيات الطالب، لمعرفة توجهاته ونمط شخصيته، ومن هذا المنطلق يتم التعامل مع الطالب وذلك بهدف رفع قدراته الاستيعابية ودمجه في الدراسة.

وأشار المدير السابق لمدرسة الفلاح، أن مجلس إدارة المدرسة في تلك الفترة كان يعتمد على مدير المدرسة في جلب المدرسين من خارج الحدود، وأرسل عدة مرات لجمهورية مصر العربية بهدف استقطاب مدرسين يمتلكون الخبرة والعلم بجانب تخصصهم، وهذه من أبرز العوامل التي جعلت المدرسة رائدة في قطاع التعليم منذ تأسيسها وحتى يومنا هذا.

ومن الطرائف التي يذكرها العم سكري خلال إدارته لمدرسة الفلاح، أن تم رصد أحد الطلاب غير المنضبطين «مشاغب» وطلب مدرس الفصل الأستاذ أبو خضير معاقبته، فطلبت منه أن لا يفعل ذلك، وأن يوجه الطالب إلى المسار الصحيح إلا أن الطالب لم يمتثل لما كان يطلب منه، فلطبنا منه إحضار والده، فما كان من الطالب إلا أن أتى بشخص من حارة نصيف المجاورة للمدرسة، وما أن حضر عرف نفسه على أنه والد الطالب فرحبت بهو وأخبرته بما يفعل ابنه داخل الفصل، فما كان من الرجل إلا أن قام بضربه أمامنا، ومن شدة الضرب اعترف الطالب أنه ليس بأبيه وإنما جلبه من الحي المجاور للمدرسة.

وأخذت مدرسة الفلاح منذ تأسيسها على عاتقها في المقام الأول محو الأمية، ومن ثم تعليم أبناء جدة العلوم الحسابية والهندسية، وبدأت المدرسة في استقطاب الكثير من أبناء المحافظة الذين كانوا عازفين عن الانتظام في البدايات، الأمر الذي دفع الحاج زينل إلى تدشين مدرسة أخرى في مكة في حي القشاشية بدار الشريف علي باشا حاكم مكة آنذاك، ثم انتقلت إلى حارة الباب بدار آل نصيف، ثم عادت إلى القشاشية ثم إلى الشبيكة، إلى أن استقرت مؤخرا في مبنى حديث بحي النزهة.

وبحسب مهتمين بالتاريخ، فإن اهتمام زينل بإنشاء مدرسة على شاطئ عروس البحر الأحمر «جدة» يعود لعدة عوامل، في مقدمتها أن جدة بوابة الحرمين الشريفين وأول محطة للحجيج والمعتمرين القادمين للأراضي المقدسة (مكة المكرمة والمدينة المنورة)، إضافة إلى نشأة جدة والتي تعود إلى ما يقارب 3000 سنة على أيدي مجموعة من الصيادين كانت تستقر فيها بعد الانتهاء من رحلات الصيد، ثم جاءت قبيلة قضاعة إلى جدة قبل أكثر من 2500 سنة فأقامت فيها، وهو ما لا ينبغي أن لا يكون فيها مدرسة بالمفهوم الحديث تخرج مواطنين قادرين على العمل والقراءة بعد أن تفشت الأمية.

وفي هذا الشأن اعتبر المهندس سامي نوار المتحدث الرسمي لأمانة مدينة جدة، أن مبنى مدرسة الفلاح صنف ضمن الدرجة الأولى في المواقع التاريخية والأثرية، التي تهتم به المحافظة وتوليه اهتمام كونه أحد أهم معالم جدة الحديثة، الذي يجب المحافظة عليه والاهتمام به وجعله قبلة للزائرين الباحثين عن التاريخ.

وأردف نوار، أن ما يميز المدرسة ظهورها في فترة زمنية قديمة بحلة جديدة للتعليم عما كان متعارفا عليه في تلك الحقبة ويطلق عليه «الكتاتيب»، وأن هذه المدرسة التي بدأت بالترغيب والتشجيع لأولياء الأمور للدفع بأبنائهم للانخراط في المدرسة الحديثة آنذاك، أنها كانت تعلم كل الفنون، وهو ما أسهم في إخراج النخبة المثقفة في جدة، وآخرون تقلدوا مناصب في الدولة، وكانت هذه المدرسة حجر الأساس فيما بعد لإطلاق الكثير من المدارس.