قاعات وزارة الثقافة العراقية محصنة بالكتل الخرسانية والجمهور يقاطعها

القاعات الفنية في بغداد تحتضر وتشكيليون يفضلون تسويق أعمالهم في الخارج

قاعات وزارة الثقافة (مركز صدام سابقا) لا يصلها الجمهور بسبب الإجراءات الأمنية («الشرق الأوسط»)
TT

وصف فنانون عراقيون واقع حال صالات العرض التشكيلي في العاصمة بغداد بـ«الحرج» الذي يحتاج إلى غرفة العناية المركزة لإنقاذها من الاندثار بعد إغلاق الكثير منها وتهديد بعضها الآخر بالإغلاق، يقابلها تواضع دور العرض الحكومية وتحصينها بالحواجز الخرسانية بسبب وجودها داخل المبنى الحكومي لوزارة الثقافة العراقية، وهي المؤسسة الحكومية المعنية بشؤون الفن والفنانين، مما يصعب على الجمهور ارتيادها.

بغداد كانت قد شهدت منذ نهاية الستينات مرورا بالسبعينات وحتى عقد التسعينات من القرن المنصرم، افتتاح العديد من قاعات العرض التشكيلي، منها الحكومية مثل قاعات المتحف الوطني للفن الحديث وقاعة الرواق وقاعات مركز صدام للفنون وقاعة النصر وقاعة الرشيد وقاعة التحرير، إضافة إلى القاعات الخاصة مثل الأورفلي، وهي أول صالة عرض تشكيلي خاصة افتتحتها الفنانة التشكيلية وداو الأورفلي وحققت نجاحات مهمة، وصالة الفنان التشكيلي رافع الناصري والصراف وأثر وحوار ودالي، نسبة للفنان السريالي سلفادور دالي، ومدارات واكد واينانا وفهمي القيسي وبغداد والعلوية وعين، وغيرها، وكان الفنانون العرب يتهافتون على بغداد للحصول على موطئ قدم فيها، سواء للمشاركة في أكبر بينالي دولي للفنون التشكيلية عقد في الشرق الأوسط والمنطقة العربية في 1986 أو للدراسة في أكاديمياتها ومعاهدها الفنية، أو للعرض في قاعاتها والاستزادة من خبرة فنانيها الكبار.

الفنان العراقي اليوم، وبسبب اضطراب الأوضاع الأمنية بالبلاد وضعف دعم الحكومة للأعمال الفنية، صار يبحث في البلدان المجاورة عمن يعرض لوحاته ونتاجه الإبداعي المركون في زوايا بيته أو مشغله ليسوقه بعد أن شحت أماكن العرض، وهاجرت معظم العوائل العراقية التي كانت منتظمة في ارتياد المعارض الفنية والاقتناء منها وغياب السياح والوفود، وقد كان لوجودهم علامة مميزة في زيادة مبيعات الأعمال الفنية العراقية وتسويقها، وبالتالي ديمومة صالات العرض الفني.

ورغم تخصيص مبالغ مالية لدعم المشاريع الفنية من ميزانية مشروع «بغداد عاصمة للثقافة العربية» لهذا العام 2013 وإقامة العديد من المعارض الشخصية والجماعية لفنانين كبار ورواد وشباب داخل قاعات مبنى وزارة الثقافة العراقية، فإن مختصين أشاروا إلى ضياع التخصيصات والجهود في إجراءات مالية معقدة ومتعبة للفنان العراقي، علاوة على احتضانها لمعارض لا ترتقي لأبسط شروط إقامة المعرض من ناحية القيمة الفنية.

يقول الفنان ناصر الربيعي رئيس تحرير مجلة «باليت» للفنون المعاصرة في حديثه لـ«الشرق الأوسط»: «ما تمر به صالات العرض التشكيلي في العاصمة بغداد أشبه بمريض يدخل غرفة العناية المركزة، فالعاصمة تفقد شيئا فشيئا أبرز ملامحها، وأعرق قاعاتها الفنية، فقاعة أكد المطلة على شارع أبي نواس، تتعرض لشبح الإغلاق بسبب رغبة صاحب العقار في رفع بدل إيجارها بشكل كبير، كما أعلنت قاعة مدارات عن إغلاق الموسم الثقافي المتضمن 15 معرضا وفعالية بعد عدول وزارة الثقافة عن دعمه المالي، وسبق أن وافقت على ذلك وما تعانيه قاعة حوار العتيدة من حصار أمني خانق بسبب الكتل الخرسانية المحيطة بها، لمجاورتها السفارة التركية وقطع الطريق أمام روادها أحيانا، وصعوبة الوصول إليها».

وأضاف: «رغم المحاولات المتواضعة التي أقدم عليها البعض لافتتاح صالات عرض أهلية، فإنها غالبا ما تصاب بالفشل مثلما حصل مع مشروع قاعة (أبيض وأسود) أو التلكؤ مثل قاعة (النخلة) ولم تعد تتوفر إلا قاعات الوزارة الخاضعة لأطر رسمية في أوقات العرض ومواعيد طويلة بسبب زخم المشاركات، مما يتطلب إيقافها فترات بسبب الصيانة والإدامة، إضافة إلى قاعة جمعية الفنانين التشكيليين التي افتتحت أخيرا». وطالب الربيعي «بخطة سريعة لإحياء الواقع التشكيلي عبر إحياء قاعات العرض ودعمها وإنشاء قاعات جديدة وتقديم التسهيلات للمستثمرين في هذا المجال».

بدوره عبر حيدر هاشم ناجي مدير قاعة أكد الفنية، التي افتتحت عام 2001، عن أسفه لما تتعرض له الصالة من محاولات إغلاقها بعد توجيه كتاب رسمي بإخلائها خلال ثلاثة أشهر صادر من مالك البناية الشرعي بحجة بيع جميع أملاكه والسفر إلى الخارج. وقال ناجي: «سعينا لزيادة بدل الإيجار، ونحاول اتباع الإجراءات القانونية لأجل منع ذلك، لكن كل الحلول تبدو صعبة أمامنا». ووصف إغلاق قاعة أكد بإغلاق نافذة مهمة على الجمال الذي يطل على نهر دجلة وشارعها الشهير أبي نواس، الذي زادت حركته بشكل ملحوظ بسبب وجود صالة العرض الفني فيه.

وزاد: «أحوال الفن في العراق بشكل عام في تراجع كبير بسبب تردي الأوضاع الأمنية، وعدم وجود دعم حكومي لصالات العرض التشكيلي التي تعتمد في تمويلها على تسويق الأعمال الفنية والحجوزات، وقد تراجعت إلى النصف عما كانت عليه قبل عشر سنوات، فالعراقيون اليوم يبحثون عن أوضاع آمنة أكثر من صالات العرض الفني».

أما الفنان إبراهيم رشيد، فقد عزا أسباب انحسار قاعات العرض التشكيلي في بغداد إلى «ارتباط العملية الثقافية والإبداعية في البلاد بالحياة الاجتماعية والسياسية فيها، وهي تتعطل بطبيعة الحال في حالة عدم الاستقرار كما نعيش نحن الآن». واستدرك ليقول: «لكن هذا لا يمنع من أن نجد حلولا عملية ومهنية لكثير من المشاكل الثقافية في حياتنا فيما إذا درست دراسة مهنية صحيحة من خلال مثقفين وفنانين يطلقون عليهم في بلدان متطورة (مستشاري الحركة الفنية في البلاد)».

وأضاف: «من خلال خبرتي الطويلة، وجدت أن الحياة الثقافية لا ترتبط مع الدولة بقدر ارتباطها مع أشخاص ومنظمات مجتمع مدني، فهي وحدها قادرة على رسم مسارات متقدمة للفن في البلاد مع إمكانية الحصول على دعم من قبل وزارة الثقافة، وقبلها لا بد من التفكير بإعادة إحياء مشروع تأسيس مجلس أعلى للثقافة في العراق يهتم بكل أنواع الفنون».

الفنان قاسم سبتي مدير قاعة حوار قال: «للأسف فإن مشروع إقامة قاعة خاصة للعرض الفني في بغداد مشروع فاشل، فعملية بيع وشراء اللوحات ضئيل جدا، رغم مستواها الفني الراقي، لهذا تجد صاحب القاعة يتكبد خسائر مادية في إقامة معارض بلا جدوى لعدم وجود زوار أجانب وعرب وهجرة الطبقة البرجوازية التي كانت تنتقي الأعمال الفنية». وأضاف: «يبدو أننا بقينا هنا نحلم من أجل غد جميل مع انعدام الدعم الحكومي، والخاسر الوحيد هو صاحب القاعة والفنان، ونحن نحاول إنعاش الفن التشكيلي بكل وسيلة».

وكانت المحطة الأخيرة، على أعتاب دائرة الفنون التشكيلية في وزارة الثقافة، وهي ما تزال تحت الصيانة والإعمار وصبغ الجدران، استعدادا لاستقبال ملتقى بغداد العالمي الأول للفن التشكيلي في مطلع ديسمبر (كانون الأول) المقبل، وعن شح قاعات العرض التشكيلي يقول جمال العتابي المدير العام للدائرة: «لا ننكر أن قاعات العرض الفنية الخاصة قليلة قياسا ببغداد كعاصمة وكمدينة رائدة في الفن التشكيلي، وسبب ذلك أن الفن التشكيلي ارتبط بالمؤسسة الرسمية، وهي بدورها تعاني من أزمة وقلة التخصيصات المالية، كما أن الدائرة تعمل بنظام التمويل الذاتي، وهو نظام عطل النهوض بالقاعات الخاصة».

وأضاف: «الوضع العام في البلاد ما بعد الاحتلال عام 2003 وما رافقها من غلق لبعض القاعات والسرقة والنهب، قلل كثيرا من نشاطها، كما أن أغلب تلك القاعات تعود ملكيتها لتجار يبحثون عن الربح الأكبر، فيما الفنانون يسعون إلى إقامة معارضهم بجهودهم الخاصة، وغالبا ما يتعرضون لضغوط كثيرة بسبب ذلك».

وعن مشروع بغداد وما أضافه للفن التشكيلي في بغداد، قال العتابي: «حاولنا خلال فعاليات (بغداد عاصمة للثقافة) أن نحيل الكثير من المعارض إلى القاعات الخاصة لتفعيل عملها، لكن ما نفذ وأقيم فيها حتى الآن يبقى ضعيفا قياسا بحجم تلك القاعات ومستوى طاقتها وخدماتها وما ينبغي أن تقدمه للزوار، أما بشأن قاعات وزارة الثقافة، فهي مفتوحة للجميع وسبق أن نظمنا معارض كثيرة، وما زلنا نستقبل الطلبات، علما بأن الفنانين الذين أقاموا المعارض استفادوا من الدعم المالي دون أن يدخل أي إيراد للدائرة؛ كونها تعمل بالنظام الذاتي، فقد تنازلنا عنه لأجل دعم الفنان وتشجيعه للاستمرار والتواصل».

وحول تأهيل قاعة النصر (كولبنكيان سابقا) وهي أكبر قاعة عرض في بغداد وتقع في منطقة الباب الشرقي، قال: «تأهيل قاعة النصر مشروع قائم، وهو مكسب مهم للفنانين العراقيين، والمفروض اكتمال عمليات تأهيله نهاية هذا العام».