بلدة دوما «استوديو» طبيعي لتصوير الأفلام السينمائية في لبنان

أفلام «سفر برلك» و«هلأ لوين» و«باب الشمس» صورت فيها

دوما محاطة بالجبال.. و السوق القديمة هي مقصد السياح وغرام المخرجين ليس لجماليتها فقط ولكن لأنها لا تزال عتيقة وبدائية
TT

يفتخر أهالي دوما، الواقعة في جبال البترون، وتبعد نحو 88 كلم عن بيروت، بأن بلدتهم أصبحت بمرور الوقت استوديو طبيعيا لتصوير الأفلام والفيديو كليبات والمسلسلات.

وحين تسأل أهالي البلدة عن أفضل ما يمكن أن تتعرف عليه في دوما، فإن أول ما يتبادر إلى أذهانهم أن يخبروك عن شهير ما صور في بلدتهم الصغيرة، التي لا يتجاوز عدد سكانها ستة آلاف نسمة.

السوق القديمة هي مقصد السياح، وغرام المخرجين، ليس لجماليتها فقط، ولكن لأنها لا تزال عتيقة وبدائية، وكأنما لم تمتد إليها يد منذ سنوات طوال، يوم كانت حرفها اليدوية محط اهتمام أهل المنطقة.

قريبا من ساحة البلدة، بمبانيها الحجرية الجميلة، تبدأ السوق العتيقة، وتقف يوم الأحد فتيات صغيرات في سن الثانية أو الثالثة عشرة، يعرضن أعمالهن الفنية كالرسم على الزجاج والنحت على الخشب، يتبرعن بمفردهن ليحكوا للقادمين حكاية دوما وأهميتها على الخارطة الفنية.

تقول إحداهن: «دوما بلدة الحلقوم (نوع من الحلوى يؤكل مع البسكويت) والحلاوة، وكل من يأتي إلى هنا لا بد أن يأكل من بوظة الزحلاوي. لكن الأهم أن الفنانين يحبون دوما»، وتشير بيدها إلى بيت جميل غطته النباتات الزاحفة من أعلاه أسفله، وتضيف: «هنا صورت نجوى كرم فيديو كليب (بحبك ولع)».

أمام هذا المنزل وقف أهل الضيعة، منذ سنتين، يغنون لنجوى كرم في استقبال حافل أعد لها، وهي آتية لتصوير مشاهد أمام هذا المنزل. في الكليب تعتلي نجوى كرم أرجوحة أمام المنزل، وتطير عاليا، ونرى تحتها مجموعة من الرجال يلبسون الطرابيش ويغنون معها. وتضيف الفتاة الصغيرة: «أهل المنطقة جميعهم زحفوا إلى هذا المكان حين عرفوا أن نجوى كرم في دوما».

لست بحاجة لدليل في دوما كي تعرف أمام أي دكان في السوق جلس الفنان فارس كرم ليصور كليب «الأرجيلة» الذي تدور قصته حول إحراق قوى الأمن لكمية من المخدرات في منطقة جبلية. وحين تنتشر الرائحة يتعرض الأهالي للتخدير، وفارس كرم الذي يدخن النرجيلة أمام باب أحد المقاهي هو من بين الذين يصيبهم هذا العارض.

ودوما الجبلية التي ترتفع نحو 1100 متر عن سطح البحر، لها موقع خلاب. فإذا ما أخذت أحد الطرق الصغيرة من دير مار يعقوب للوصول إليها، تجد نفسك وسيارتك وكأنك تقف على كتف واد سحيق. مشهد يذكرك مباشرة بأشهر ما صور في هذه المنطقة على الإطلاق، وهو فيلم «هلأ لوين» لنادين لبكي الذي عرض عام 2011، وجاب المهرجانات العالمية وحصد العديد من الجوائز المهمة.

يريك أهالي دوما دكانا مغلقا في ممر جانبي من السوق، ويقولون لك: «هنا أغلقت نادين لبكي هذا الممر من السوق كليا وملأته بالحجارة. هذا الدكان هو الذي تحول إلى فرن، وغنى فيه الممثلون تلك الأغنية المشهورة في الفيلم (حشيشة قلبي)، وفي مقهى مجاور تم التصوير أيضا». الفيلم الذي حاز جوائز عالمية رفيعة بات فخر الأهالي وموضع اعتزازهم.

الجميع يعرف في دوما «إيفون»، وهي المرأة التي استقبلت نادين لبكي عند وصولها للتعرف على الأماكن، وأعجبت المخرجة بعفويتها وتلقائيتها، وعرضت عليها أحد أدوار الفيلم. إيفون في الواقع هي زوجة خوري الضيعة الذي توفي، وفي الفيلم هي زوجة المختار ذات الإطلالة المحببة. الدور الذي لعبته إيفون معلوف في هذا الفيلم، والكلمات الخفيفة الظل التي تفوهت بها على طريقتها، حولتها بالفعل إلى نجمة لبنانية، فمثلت في مسلسلات، ولمعت في دعايات.

فيلم «سفر برلك» الشهير لفيروز والأخوين رحباني الذي ما يزال يذكره الناس منذ عام 1965، كان من أوائل ما صور في دوما.

الكبار يتذكرون هذا الحدث الكبير في قريتهم. بعضهم كانوا أطفالا وشاركوا في تمثيل مشاهد من الفيلم، أهالي دوما جزء مهم من المشهد، وما يزالون ينقلون هذه الأخبار للأجيال الجديدة.

تقول سوزي التي تعمل في بلدية دوما إن والديها يخبرانها بأنهما كانا شاهدين على تصوير فيلم «سفر برلك»، فيما تقول إيفون معلوف، التي أصبحت هي نفسها ممثلة، إنها كانت مشاركة أثناء تصوير هذا الفيلم.

تتداخل أسماء الأفلام التي يتحدث السكان عن تصويرها في دوما، وكل يقول إنه كان شاهدا ومشاركا وموجودا. يبدو أن أهل الضيعة لا يتركون الفرصة تفوتهم، ويتنادون لأخذ صور مع الممثلين، ويعايشونهم وهم يؤدون مشاهدهم، حين تكون في الهواء الطلق.

من الأفلام التي صورت مشاهد منها في دوما أيضا «باب الشمس» للمخرج يسري نصر الله. وهناك أيضا المسلسل السوري الاجتماعي «نيران صديقة» الذي صور في غالبيته الساحقة في هذه الضيعة الجميلة التي تتباهى ببيوتها التراثية القرميدية. وكذلك المسلسل التاريخي «جنى العمر» للمخرجة اللبنانية ليليان البستاني.

يبدأ أهالي دوما بسرد لائحة لا تنتهي، تقول سوزي: «كثيرون صوروا هنا. الفنان جو أشقر صور فيديو كليب، وكذلك الفنانة باسمة ودينا حايك». وحين تسألها ما الذي يجذب الفنانين في دوما تقول: «كل شيء جميل في دوما... البيوت الأثرية، موقعها الجبلي الخلاب، هندستها الأصيلة، قرميدها الأحمر، ضيافة أهلها وروحهم الطيبة، إضافة إلى أن دوما من بعيد تشبه عقربا كبيرا سابحا بين الجبال».

كل زاوية في دوما يبدو أنها صورت ذات يوم لتشكل مشهدا من فيلم ما، أو أغنية، أو ربما مسلسل. ولا تكتمل الجولة، كما تقول الفتيات الصغيرات، في دوما من دون زيارة منزل «تانت إيفون» التي أصبحت شهيرة بعد دورها في «هلأ لوين». وتتحدث الفتيات الصغيرات عن نجمة الضيعة إيفون، وكأنها أسطورة تمشي على الأرض «هي دائما صبية وجميلة وأنيقة، وتحب الناس». وتقول إحداهن: «تانت إيفون تشجعنا على تعريف الزائرين بدوما، واصطحابهم والشرح لهم». وتؤكد الفتيات لنا أن عدد السياح ازداد بعد تصوير مشاهد من الفيلم هنا بنسبة كبيرة.

نصل إلى منزل إيفون معلوف، الذي هو عبارة عن فيللا جميلة جدا من طابقين بدرج ملتوٍ وحدائق تحيط به، لترحب بنا سيدة الدار، معتبرة أن قدوم زوار دوما إلى بيتها للتعرف عليها بات أمرا اعتياديا بالنسبة لها.

ترينا إيفون الصالون المتسع وشرفته المطلة على مشهد جبلي مهيب، وتقول: «هنا في هذا المكان تم تصوير مسلسل (الشحرورة)، على الدرج تدحرجت كارول سماحة (وهي تلعب دور الشحرورة) ووقعت، وأمام المنزل كانت تقف السيارة لتأخذ صباح، وفي الحديقة دارت بعض المشاهد». تكمل إيفون: «كان الاتفاق على أن يتم التصوير في الصالون فقط، لكن المسألة احتاجت شهرا كاملا، لأنهم بعد ذلك صوروا في غرف النوم أيضا، مما اضطرني لأن أتعايش طوال الوقت مع فريق العمل». أما عن فيلم «هلأ لوين» الذي شاركت بتمثيله فتقول إيفون: «احتاج التصوير شهرين ونصفا. واضطرت نادين لبكي لتهيئة بعض محلات السوق لتصلح للتصوير. إنها مخرجة ذكية ومبدعة».

عام 1951 افتتح أحد أبناء دوما دارا للسينما، بعد أن شرع ثلاثة من دكاكينها بعضها على بعض. واستمرت السينما على نشاطها حتى عام 1958 حيث أهملت. وصار من المفارقات أن تصبح دوما مكانا محببا للتصوير، فيما لا يوجد فيها أي صالة عرض. منذ عامين أعيد تأهيل وافتتاح هذه الصالة في السوق العتيقة. هكذا صار لدوما صالة عرض من جديد، تستقبل محبيها وسياحا يؤمونها يوم الأحد لسوقها ووداعتها، ومطاعمها، وروعة طبيعتها التي جعلت منها بالفعل قبلة الفنانين ومشتهاهم.