سكان ريف دمشق يحتفلون بيوم ثمرة «الجوز» منذ عشرات السنين

الحرب غيبته وتطورات العصر قلصت الاحتفاء به وأسعاره تضاعفت

TT

مع بداية فصل الخريف وانتهاء فصل الصيف يبدأ الدمشقيون بتحضير مونة الشتاء وهي عادة درجوا عليها منذ عشرات السنين وتأتي في مقدمة المونة (المكدوس) المحضّر من الباذنجان المسلوق والمحشي بالجوز حيث يشاهد حاليا عشرات بائعي الجوز في أسواق دمشق يعرضونه بشكل فلكلوري وحولهم نساء يسألن عن سعره الذي ارتفع أكثر من ثلاثة أضعاف عن سعره في العام الماضي، كما يسألن البائع السؤال التقليدي هل الجوز بلدي ومن حلبون (قرية في ريف دمشق الشمالي الغربي تتميز بجودة الجوز المنتج في بساتينها) ويتفحصنه هل هو أبيض أم أسمر أم مخلوط؟

إنها الشجرة المدللة فلم يعشق سكان مدينة دمشق وريفها شجرة في الطبيعة أكثر من عشقهم لشجرة الجوز ولم تسحرهم شجرة في غوطتهم الرائعة أكثر من هذه الشجرة العملاقة المعمرة!.. هل تعرف أن الدمشقيين خصصوا لشجرة الجوز عيدا سنويا أطلقوا عليه (عيد الجوزة) ويصادف يوم 28 أغسطس (آب) من كل عام وهو مثبت بين الأعياد على الروزنامات التي تصدرها المطابع بداية كل عام ميلادي؟.. سؤال وكلمات ومعلومات أراد من خلالها الحاج (أبو طلال) الرجل السبعيني الذي يمتلك بستان جوز في إحدى قرى غوطة دمشق ويمتلك دكانا لبيع المكسرات في إحدى أسواق دمشق أراد أن يوضح لنا أن الشوام أرادوا من تخصيص يوم في السنة للاحتفاء بهذه الشجرة التي تعتبر من أقدم الأشجار التي زرعت في بساتين الغوطة ونالت ثمارها أهمية كبيرة لفوائدها الغذائية والصحية ودخولها في حلوياتهم وفي أهم وجبة فطور وهي مكدوس الباذنجان بالجوز والاستفادة الواسعة من خشبها في صناعة الأثاث والمفروشات وأبواب البيوت الدمشقية وفي الكثير من التجهيزات والأدوات الخشبية كذلك دخلت أخشاب الجوز ومنذ مئات السنين في صناعة نواعير مدينة حماه الشهيرة وقشور ثمار الجوز التي كانت ترمى في مكبات القمامة في السابق صار لها في السنوات الماضية استخدامات في صناعة الصمغ والبلاستيك، كما تستخدم في تحضير محاليل تنظيف وتلميع سطوح المعادن!..

ولكن لماذا اختير هذا اليوم ومتى انطلق عيد الجوز وما هي طقوسه وفعالياته؟ يبتسم أبو طلال قائلا: لا أحد يعرف متى حصل ذلك لكنه بالتأكيد يعود لأكثر من مائة عام خلت أما اختيار يوم 28 أغسطس فلأن ثمار شجرة الجوز تنضج عادة في نهاية شهر أغسطس وبالتالي جاء العيد ليترافق مع بدء موسم قطاف الجوز وتقشير الثمار من قبل النساء في القرى والبعض يرى أن العيد يوم 15 أغسطس على التقويم الغربي قي حين تم اعتماد التقويم الشرقي لتحديد يوم الجوز وهو 28 أغسطس وعلى أي حال - يوضح أبو طلال - لم يعد أحد يتذكر هذا العيد أو يحتفي به منذ عشرات السنين وحتى لو كان ما زال موجودا فإن الحرب والأحداث الدامية التي تعيشها البلاد والتي تشهدها سوريا لن تساعد بإقامة طقوس هذا العيد والذي كان يتضمن حفلات جماعية في قرى الغوطة الشرقية والغربية والتي تشتهر بزراعة الجوز حيث تجتمع نساء القرية والصبايا والأطفال ويتعاونون جميعا بتكسير ثمار الجوز ونزع القشور السميكة عنها ليتم فيما بعد بيعها لأسواق المدينة جاهزة للأكل والاستخدام في المكدوس والحلويات، وكان يرافق هذا اليوم دبكات ورقصات شعبية تراثية ولكن اختفت جميعها ولم يعد هناك حتى أن الطقس الجماعي في تقشير الجوز غاب عن الأرياف وصارت كل عائلة تجتمع لوحدها ويعمل أفرادها على تقشير ثمار الجوز وهو شيء مؤسف حقا - يتنهد أبو طلال - أن تغيب تلك العادات الاجتماعية الجميلة في حين دخلت الآلات الحديثة في تقشير ثمار الجوز وانتشرت بين الأسر التي تزرع وتقطف ثمار الجوز؟!.. كما أن قطاف الثمار من قبل المزارعين الذي يتم بشكل يدوي حتى الآن كان يتضمن عادات وتقاليد اجتماعية غابت حاليا ولأن أشجار الجوز مرتفعة وعالية فإنه يتم وضع قطع كبيرة من القماش تحت الأشجار، حفاظا عليها من الأتربة ولسهولة تجميع الثمار، ويستعين المزارع بعصا طويلة من الصفصاف يصل طول بعضها إلى أربعة أمتار ويقوم بضرب حبة الجوز بالعصا، فتسقط الثمرة على قطع القماش.‏ ولمعرفة الجيد من الرديء، يتم ذلك بواسطة هز حبة الجوزة قبل كسرها، فإن كانت خفيفة فربما تكون ذابلة، حيث يسمع لها صوت فرقعة داخلية.

إنّ عشق الدمشقيين لشجرة الجوز لم يتوقف عند إقامة عيد سنوي لها فقط بل هناك حارة دمشقية في منطقة ساروجة وسط العاصمة تسمى حارة (جوزة الحدبا) وسبب تسميتها تلك أنه كان هناك شجرة جوز كبيرة متحدبة لها أغصان مائلة في وسط الحارة وكان سكان الحارة يركبون الحمير والحناتير ليخرجوا منها وكانوا مضطرين للمرور تحت الشجرة حتى يعبروا بسلام فأطلقوا عليها هذا الاسم؟!.. وقد ذهبت الشجرة كما ذهبت الحمير والحناتير كوسيلة تنّقل من الحارة وبقي اسم الحارة على اسم شجرة الجوز لتقول لزوار حي ساروجة كم هي هذه الشجرة محببة ومدللة لدى الدمشقيين!..

كذلك هناك جامع قديم سمي بجامع الجوزة يتموضع في منطقة العمارة بدمشق القديمة ويتميز الجامع ببنائه المعماري الجميل حيث يعود تاريخ إنشائه للعهد المملوكي وبني سنة 1427م وسبب التسمية أيضا أنه بني بجانب شجرة جوز اختفت فيما بعد وبقي المسجد يحمل اسمها.

وكما خلد الشوام شجرة الجوز في تراثهم المادي فإنهم خلدّوها أيضا في تراثهم الشفوي حيث هناك الكثير من الأمثال الشعبية اللطيفة التي ما زالت متداولة بين الدمشقيين وتدخل فيها شجرة الجوز ومنها (بس يطلع الكر ع الجوزة) ومن الموروثات الشعبية إضافة ثمار الجوز إلى الكراوية وتعطى للوّلادة (من وضعت مولودا)، وكذلك لمن يأتون للتهنئة، كما توضع مع الحليب وتعطى للمرضع لزيادة إفراز الحليب وهناك المثل الشعبي: (الله بطعمي الجوز للي ما إلو أسنان).‏