سوق القيصرية.. حاضنة المهن الثمينة

ذاكرة الأحساء وخزان ثروتها الحرفية.. أصبح مجرد شاهد على الماضي

جانب من سوق القيصرية في الاحساء («الشرق الأوسط»)
TT

على مدى مئات السنين، كان المهنيون الحرفيون في الأحساء شرق السعودية، يمثلون عصب الاقتصاد المحلي، وكانت متاجرهم الصغيرة التي يطلق على الواحد منها اسم «الحفيز» حاضنة للمهن، وبيوت خبرة، وملتقى اجتماعيا يعبق بالتراث والثقافة والأدب.

أشهر تلك الحواضن، سوق «القيصرية» التاريخية المشهورة، التي تعّدت أهميتها الناحية الاقتصادية التي برعت فيها، وحافظت على نمطها الاقتصادي والاجتماعي، حيث تمثل مكانا للحرف التقليدية التي كانت على مدار الزمان تُعد رافدا اقتصاديا مهما، مثل: المنسوجات، وصناعة البشوت والمشالح، والسيوف والخناجر، والنحاسيات، والجلديات، وصياغة الذهب، وسبك المعادن، ومحلات العطارة، وصناعة العطور، والزل والفرش، وبالطبع تجارة التمور حيث تعد الأحساء أكبر واحة في العالم لزراعة النخيل.

وكانت هذه السوق تضم نخبة من التجار الذين عرفهم عالم المال والأعمال وأصبحت القيصرية تمثل قاعدة انطلاق لتوسيع أعمالهم وتجارتهم في المنطقة.

أما اجتماعيا، فإن القيصرية لم تكن مجرد سوق يرتادها المتبضعون، بل كانت ناديا اجتماعيا يلتقي في أفيائها العمال والفلاحون والمهنيون وتكثر في جنباتها هذه اللقاءات، ومن خلالها تتم عملية نقل الخبرة بين الأجيال، وتوريث المهن الحرفية من الآباء للأبناء، وتعليم الصغار أسرار المهن التي يتقنها آباؤهم، وتعويد المجتمع المحلي الذي يعرف فنون الزراعة والفلاحة طرق وعادات وتقاليد التجارة، ولذلك توارثت عوائل بعينها صناعة البشوت والمشالح، كما توارثت عوائل أخرى سباكة الذهب والعطارة.

تقع سوق القيصرية في وسط الهفوف القديمة في حي الرفعة مقابل أسوار فريق الكوت على مساحة 15 ألف متر مربع، وتضم 420 محلا، وتشكل الحوانيت «المحال» العائدة للبلدية 171 محلا، والباقي ملكيات خاصة، وهي تنقسم إلى قسمين أحدهما الجزء الأكبر يمتد بين شارعي الخباز والحدادين، والثاني بين شارع الحدادين وسوق الحريم أو (البدو). وبهذا الحجم تصبح سوق القيصرية أكبر سوق شعبية مسقوفة في المملكة.

في صورته التاريخية، كانت السوق تمثل مركزا للتبادل التجاري بين الأحساء وبقية المناطق التي تجاروها في الخليج والجزيرة العربية، وعادة ما كان التجار يصلون إلى هذه السوق من أجل التزود ببضاعة ما، أو الترويج لبضاعة أخرى، أما المسافرون الذين يقصدون الأحساء، فكانت هذه السوق محطة هامة يتوقفون فيها من أجل التسوق والتعرف على مظاهر التراث العمراني هناك.

يقول المهندس عبد الله الشايب، الباحث في التراث العمراني: «كانت القيصرية تشكّل إرثا اجتماعيا بتوارث الباعة والحرفيين فيها، كما أعطت نموذجا للتواصل الاجتماعي عن طريق التقارب في المحال، كما أن عدد المحال مع وجود التخصصات المختلفة في مكان واحد يعطي كثافة واستمرارية اجتماعية، وكان كثير من الحوانيت تقدم الشاي والقهوة لزبائنها دلالة على الترابط الاجتماعي».

وفي دراسة له، يعيد الشايب تاريخ هذه السوق إلى نحو ستة قرون خلت، حيث ارتبط وجودها بتاريخ وجود الاستيطان من حولها. وتختلف المصادر في الفترة التي بنيت فيها السوق، وغالبا يعود الاختلاف لظهور كتابات من رحالة سابقين تشير إلى السوق، بينما ترجع هذه المصادر تاريخ بناء هذه القيصرية بطرازها المعماري المعروف لعام 1822. تارة ولعام 1862 تارة أخرى، إلا أن الباحث الشايب يقول: «من المؤكد أن هذه السوق كانت قائمة في القرن التاسع عشر لذكر الرحالة لها في مذكراتهم».

ومن غير المعروف من أين جاءت تسمية السوق بـ«القيصرية»، رغم ورود لفظ «قيسارية» كتسميات شائعة للأسواق في الشام والعراق، لكن لا يوجد اختلاف كبير بأن السوق أخذت طابعها المعماري من الطراز العثماني، وكانت الأحساء عرفت الحكم العثماني لأول مرة أواسط القرن السادس عشر الميلادي، كما احتلها العثمانيون مرة أخرى عام 1818. ويشبه تصميم السوق ذو المحلات المتراصة الممتدة عبر ممرات مسقوفة ومغلقة تصاميم أسواق متعددة في الشام وتركيا والعراق.

يلاحظ المهندس عبد الله الشايب في دراسته عن سوق القيصرية، أن هذه السوق المبنية من «الحجر الجيري والطين.. وعوارض من جذوع النخل أو خشب شجر الجندل عليها حصيرة سعف النخيل تعلوها طبقة طينية وطليت الواجهة بالجص»، تشكل «بيئة عمرانية تسويقية.. كما تمثل أنموذجا فريدا على مستوى الجزيرة العربية من حيث التصميم المعماري».

وبالنسبة لمدينة الهفوف التي تحتضن السوق فقد كانت القيصرية تمثل المركز التجاري للمدينة، وحاضنة الأعمال والحرف فيها، وملتقى أبناء المهن الحرفية وزبائنهم والمتعاملين معهم، وبالتالي فالمدينة «الهفوف»، أصبحت مركزا للتراث والاقتصاد والثقافة والأدب في الأحساء برمتها. وتتكون الهفوف القديمة من ثلاثة أحياء، هي: الكوت والنعاثل والرفعة. وتضم هذه الأحياء مواقع تاريخية ومعالم أثرية قديمة، منها سوق القيصرية، وقصر إبراهيم الأثري، ودار الإمارة، ومدرسة الهفوف الأولى، ومسجد الجبري، ومسجد الدبس، ومدرسة القبة، وبيت البيعة (الملا).

وكانت أمانة الأحساء، قد شرعت منذ سنوات قليلة في تنفيذ مشروع «تطوير وسط مدينة الهفوف التاريخي»، وتحويل المنطقة التاريخية إلى منطقة جذب سياحي، والعمل على تلبية متطلبات تسجيل مركز مدينة الهفوف التاريخي على قائمة التراث العالمي في «اليونيسكو».

اليوم، أصبحت سوق القيصرية في خبر كان، فمنذ نحو ثلاث سنوات والحياة تدب تدريجيا في هذه السوق بعد حريق كبير أتى على جميع محتوياتها ووقع الحريق يوم الخميس 18 أكتوبر (تشرين الأول) 2001. وظل بعدها لعشر سنوات تحت إعادة البناء. وقد عادت السوق مجددا بطرازها المعماري القديم، وبتصميم يضعها في مقدمة أماكن الجذب السياحي في الهفوف وفي الأحساء، إلا أن الخسارة التي نجمت عن الحريق لم تكن في الممتلكات والمباني فقط، فقد حدثت فجوة هائلة وعميقة بين الأجيال التي كانت تتوارث المهن التقليدية والصناعات الحرفية، وهجر العشرات من العمال المهرة حوانيتهم، وطغى نمط اقتصادي مختلف عن السابق، ولذلك فقد بقي العشرات من المحلات بعد إعادة فتح السوق مقفلة، ولجأ آخرون إلى بيع التجزئة لمنتجات صينية وعربية، وتقلصت إلى حد كبير محلات الحرفيين التقليديين التي عرفت بها السوق.

كانت القيصرية تمثل ذاكرة الأحساء، وخزان ثروتهم الحرفية، وأصبح اليوم مجرد شاهد على الماضي.