ناظم الغزالي ما زال محلقا في سماء نجوم الطرب العراقي والعربي

بمناسبة الذكرى الخمسين لرحيل سفير الأغنية العراقية

ناظم الغزالي
TT

رغم مضي نحو خمسين عاما على رحيله، ما زال مطرب العراق الكبير ناظم الغزالي متربعا على عرش الأغنية العراقية، ويحتل بجدارة لقب سفير الأغنية فيها، وكذلك أغنياته التي ما زالت حاضرة في ذاكرة الأجيال تحكي زمن الفن الجميل الذي لا يتكرر بحسب آراء نقاد وفنانين احتفلوا بذكرى مرور خمسين عاما على وفاته الذي يصادف 21 أكتوبر (تشرين الأول) 1963.

ويعد ناظم الغزالي (1921 - 23 أكتوبر 1963) من أشهر مطربي العراق في الخمسينات والستينات، كما أنه لم يكن مطربا عراقيا فحسب، بل كان عربيا بامتياز، ويرسل بطلبه في جميع أنحاء الوطن العربي سواء في الكويت ودول الخليج العربي الأخرى ولبنان والشام ومصر وغيرها. وكان يعمل بجهده ويسافر بماله الخاص ليس إيفادا من الدولة لذلك بنى مجدا شخصيا لنفسه ولبلاده العراق.

يقول الفنان محمد هادي، بمناسبة احتفالية استذكاره: «الغزالي فنان كبير له بصمة مهمة في الأغنية العراقية كما قام بنقلها إلى خارج العراق، وكان رحالا باستمرار لتقديم فنه الراقي في الدول العربية».

وأضاف: «يعتبر ناظم الغزالي سفيرا بحق للأغنية العراقية، ولكثرة المحطات التي يمكن الوقوف أمامها في مسيرة الراحل سنحاول أن نقتنص اللحظات للحديث عن فنه إلى جانب الأغاني التي سيقدمها المطربون الشباب».

ثم قدم هادي للجمهور فنانا عراقيا قال إنه غنى للغزالي كثيرا من أغنياته، كما أسس فرقة خاصة باسم فرقة ناظم الغزالي لتخليد فن هذا المعلم العراقي المهم، وهو الفنان نجاح عبد الغفور شقيق الفنان الكبير الراحل صلاح عبد الغفور».

ونجاح جاء خصيصا من أربيل مقر إقامته إلى بغداد ليغني من أجل ذكرى ناظم الغزالي، وطلب أن يكون فقرة الافتتاح وأول من يغني للغزالي، وهذا ما حصل إذ انطلقت أجمل أغنيات الغزالي داخل القاعة التي شهدت حضورا كبيرا وراح الجمهور يشدو مع الأغنيات (ميحانا ميحانا.. يا أم العيون السود ماجوزن أنا.. وعيرتني بالشيب) وغيرها من أغنيات حفظها الكبار والصغار عن ظهر قلب.

الباحث فلاح الخياط، استعرض مقامات أغنيات الغزالي وبعض أغنياته بالقول: «الغزالي لم يغن الأغنية العاطفية والمقام والأغنية البغدادية والموال بحسب، بل أدى كثيرا من الأغاني الوطنية منها أغنيات أحتفظ بتسجيلاتها شخصيا وهي غير موجودة حتى في الإذاعة. من تلك الأغاني (تسلم يا عبد الكريم) و(يا ابن البطولة) وهناك أغنية لا أتذكر اسمها اداها مع الفنانة أحلام وهبي (دويتو) وقدمها في عام 1960، كذلك غنى أوبريتا من ألحان رضا علي».

ولد الغزالي في منطقة الحيدر خانة، في وسط العاصمة بغداد يتيما، لأم ضريرة تسكن في غرفة متواضعة جدا مع شقيقتها. بمنتهى الصعوبة استطاع أن يكمل دراسته الابتدائية والمتوسطة في المدرسة المأمونية. وكان الفقر ملازما له، وزاد الفقر حدة بعد وفاة والدته، ورعاية خالته له، وهي التي كانت تتسلم راتبا لا يتجاوز الدينار ونصف الدينار. وبعد تردد طويل التحق بمعهد الفنون الجميلة قسم المسرح، ليحتضنه فيه فنان العراق الكبير حقي الشبلي نجم المسرح وقتها، حين رأى فيه ممثلا واعدا يمتلك القدرة على أن يكون نجما مسرحيا، لكن الظروف المادية القاسية التي جعلته يتردد كثيرا في الالتحاق بالمعهد نجحت في إبعاده عنه، ليعمل مراقبا في مشروع الطحين بأمانة العاصمة.

أبعدته الظروف عن المعهد، لكنها لم تمنعه من الاستمرار في قراءة كل ما تقع عليه يداه، والاستماع إلى المقام العراقي المعروف بسلمه الموسيقي العربي الأصيل، كما كان يستمع أيضا إلى أم كلثوم، ومحمد عبد الوهاب وفريد الأطرش وأسمهان وليلى مراد ونجاة علي، وكانت أغنياتهم وقتها تملأ الأسماع في مناخ كان يدعو كلا منهم إلى الاجتهاد والإجادة لإمتاع متذوقي الطرب، ولجعل ناظم يتعلق أكثر فأكثر بالغناء ويحفظ أغنياتهم عن ظهر قلب، ليكتشف ويكتشف المحيطون به أن هناك موهبة غنائية لن تكرر في حنجرة مراقب مشروع الطحين. هذه الفترة، أكسبته طموحا غير محدود وعنادا وإصرارا على إكمال الطريق الذي اختاره رغم الصعاب المالية والنفسية، التي واجهته، وجعلته حين يعود للمعهد يبذل قصارى جهده ليحصل على أعلى الدرجات. أما قراءاته فجعلته يمتاز عن زملائه بثقافته، تلك الثقافة التي ظهرت عام 1952 حين بدأ ينشر سلسلة من المقالات في مجلة «النديم» تحت عنوان «أشهر المغنين العرب»، وظهرت أيضا في كتابه «طبقات العازفين والموسيقيين من سنة 1900 - 1962». كما ميزه حفظه السريع وتقليده كل الأصوات والشخصيات، وجعلته طوال حياته حتى في أحلك الظروف لا يتخلى عن بديهته الحاضرة ونكتته السريعة، وأناقته الشديدة حتى في الأيام التي كان يعاني فيها من الفقر المدقع.

عاد ناظم الغزالي إلى معهد الفنون الجميلة لإكمال دراسته، ليأخذ حقي الشبلي بيده ثانية ويضمه إلى فرقة «الزبانية» ويشركه في مسرحية «مجنون ليلى» لأمير الشعراء أحمد شوقي في عام 1942، ولحن له فيها أول أغنية شدا بها صوته وسمعها جمهور عريض، أغنية «هلا هلا» التي دخل بها إلى الإذاعة، والتي حول على إثرها ناظم اتجاهه، تاركا التمثيل المسرحي ليتفرغ للغناء، وسط دهشة المحيطين به الذين لم يروا ما يبرر هذا القرار، خصوصا أن ناظم كان يغني في أدواره المسرحية، إلا أن وجهة نظرة كانت أنه لكي يثبت وجوده كمطرب فإنه لا بد أن يتفرغ تماما للغناء.

تقدم إلى اختبار الإذاعة والتلفزيون، وبين عامي 1947 و1948 انضم إلى فرقة الموشحات التي كان يديرها ويشرف عليها الموسيقار الشيخ علي الدرويش والتي كان بها عدد كبير من المطربات والمطربين.

تميز الغزالي بانفتاح حنجرته وقدرته غير العادية على إجادة الموال باعتراف النقاد وكبار الموسيقيين الذين عاصروه، وما كان يميزه في ذلك معرفته وتعمقه في المقامات العراقية وأصولها إضافة إلى ذلك انفتاح حنجرته وصفاؤها، وكذلك جوابه المتين وقراره الجيد في مختلف ألوان المقامات وأنواعها.

في فلسطين مع جنود العراق لم ينته عام 1948 حتى سافر ناظم للمرة الأولى خارج العراق، وكانت فلسطين هي أولى محطاته، إذ ذهب مع الوفد الفني للدعم المعنوي وشحذ همة الجيش العراقي والجيوش العربية الموجودة في فلسطين لمحاربة إسرائيل، والتقى هناك بعبد السلام عارف الذي أصبح لاحقا رئيسا للجمهورية العراقية بعد انقلاب 1963، حيث تمتنت علاقة الصداقة بينهما بسبب حب عارف لفن الغزالي والمقام العراقي عامة، وأخذا يلتقيان في فترات متباعدة لم تنقطع حتى بعد تولي عارف رئاسة الجمهورية.

ومنذ بداية الخمسينات بدأت أغنيات الغزالي تعبر الحدود، فسافر إلى عدة دول، وأقام عدة حفلات في كثير من الدول العربية، وأصبح سفيرا للأغنية العراقية. وبداية الخمسينات هي الفترة التي شهدت تطورا وربما انقلابا ملحوظا في غالبية مقاييس الغناء في العراق ومواصفاته، وبدأت بوادر الأغنية المتكاملة تظهر مع أغنيات ناظم التي نفاجأ اليوم حين نسمعها بوجود لوازم موسيقية ضمن توزيع موسيقي تعدد فيه الآلات الغربية والشرقية، لقد قلب الغزالي غالبية مقاييس الغناء في العراق.

وكذلك غنى لأشهر الشعراء العرب مثل إيليا أبو ماضي، وأحمد شوقي، وأبو فراس الحمداني. غنى لأبي فراس الحمداني: «أقول وقد ناحت بقربي حمامة»، ولأحمد شوقي: «شيعت أحلامي بقلب باك» وللبهاء زهير «يا من لعبت به شمول»، ولإيليا أبي ماضي: «أي شيء في العيد أهدي إليك يا ملاكي»، وللمتنبي: «يا أعدل الناس»، وللعباس بن الأحنف: «يا أيها الرجل المعذب نفسه»، ولغيرهم من كبار شعراء العربية. ولولا وفاته المبكرة ربما لم يكن ليترك كلمة في عيون تراث الشعر العربي إلا وغناها وأمتعنا بها. هكذا أخرج القصائد من دواوينها وجعلها تجري على لسان أبسط الناس الذين أحبوا كلماتها، وأحبوا أكثر الصوت الذي نقلها إلى آذانهم بنبرة الشجن الشائعة في الأصوات العراقية، وإن زاد عليها نبرة أكثر حزنا بأدائه الدرامي الذي اختلطت فيها الحياة القاسية التي عاشها، وما درسه بمعهد الفنون الجميلة.

خرج الغزالي على الشكل التقليدي في أداء الأغنية، فانتشرت كثير من أغانيه في العالم العربي كله رغم خروجها من بيئة ذات طبيعة شديدة الخصوصية، مثل «طالعة من بيت أبوها»، و«ماريده الغلوبي»، و«أحبك»، و«فوق النخل فوق» و«يا أم العيون السود» وكلها كتبها جبوري النجار، ولحنها ناظم نعيم، ووزعها جميل بشير، والتي يرجع فضل انتشارها إلى أن ناظم لم يؤدها وإنما خرج فيها على الأصول المتبعة ليجعل منها أغنية عذبة سهلة التداول والحفظ.

أما الفضل في حفظها إلى الآن فيعود إلى شركة «جقماقجي» التي بدأت منذ منتصف خمسينات القرن الماضي في تسجيل أسطوانات كبار المطربين والمطربات العراقيين، وطبعا كان ناظم منهم إن لم يكن أولهم؛ إذ كان وقتها المطرب الأكثر شهرة في سماء العراق. وكان بريق نجمه يمتد ليشمل العالم العربي كله، الأمر الذي دفع محمد عبد الوهاب أن يطلب من شركة «كايروفون» أن تنتج لناظم عددا من الأسطوانات يضع بنفسه ألحانها، وكاد المشروع الكبير يتم لو لم يمت ناظم.

قبل وفاته سافر إلى بيروت، وأقام فيها 35 حفلا، وسجل كثيرا من الأغاني للتلفزيون اللبناني، ثم إلى الكويت، وسجل قرابة عشرين حفلا بين التلفزيون والحفلات الرسمية. وفي العام نفسه اجتهد وبذل جهدا كبيرا ليتمكن بسرعة من أن ينتهي من تصوير دوره في فيلم «مرحبا أيها الحب» مع المطربة نجاح سلام، وغنى فيه أغنية «يا أم العيون السود». هناك رواية أنه أفاق في صباح 23 أكتوبر 1963 وطلب قدحا من الماء الساخن لحلاقة ذقنه، لكنه سقط مغشيا، وبعدها فارق الحياة، في الساعة الثالثة ظهرا. كسرت إذاعة بغداد القاعدة، وقطعت إرسالها لتعلن الخبر الذي امتد تأثيره ليصيب العالم العربي كله بحزن بالغ. كان قطع البث الإذاعي يلازمه دائما إعلان «البيان الأول» لأحد الانقلابات العسكرية، ولم يكن قد مر سوى 7 أشهر على انقلاب فبراير (شباط)، لكن هذه المرة اختلف الوضع واستمع من تعلقت آذانهم بجهاز الراديو إلى الخبر الذي أحدث انقلابا في نفوسهم، وأبكاهم طويلا، «مات ناظم الغزالي».