هوى صوت الجبل اللبناني ورحل بهدوء

وديع الصافي احتفظ بوعيه حتى اللحظات الأخيرة.. وكان يردد دائما أمام أولاده بأن ساعة الوداع باتت وشيكة

عاش صاحب «عندك بحرية يا ريس» و«على الله تعود» و«يا بني» و«دق باب البيت عالسكيت» وغيرها فترة طويلة رحالة.. يتنقل من بلاد إلى أخرى وأبرزها البرازيل وفرنسا (رويترز)
TT

«أنا رايح لعندو ونيال اللي بموت قبل أولادو». هذه الكلمات لفظها المطرب اللبناني وديع الصافي أمام أولاده قبيل لحظات من وفاته في أحد مستشفيات منطقة المتن وبالتحديد في مستشفى (بيل فو) في المنصورية عن عمر يناهز الـ92.

وحسب ما ذكر الطبيب سامي حداد، زوج إحدى بناته (مارلين) لـ«الشرق الأوسط»، فإن «وديع الصافي تم نقله إلى قسم الطوارئ في المستشفى المذكور بعد ظهر أمس نحو السادسة مساء، إثر إصابته بأزمة قلبية حادة. وبقي الأطباء المختصون يحاولون إنعاشه لمدة ثلاث ساعات إلا أنه ما لبث أن فارق الحياة متأثرا بحالته الصحية المتردية». وقال حداد: «كانت صحته تتراجع باستمرار في الآونة الأخيرة مما جعله مقيما في سريره منذ نحو السنتين». وعن طبيعة المرض الذي أودى بحياته أوضح قائلا: «ليس هناك من مرض محدد، إذ كان في الفترة الأخيرة يعاني من قصور في القلب والرئة وغيرها من الأمراض التي تصيب عادة الشخص بعمره، ولكنه بقي حتى اللحظة الأخيرة يقظا واعيا رغم أن كلامه بدأ يقل مع الوقت إلى أن صار يلوذ أكثر بالصمت».

وعما إذا كان أفراد عائلته بقربه ساعة ما وافته المنية أجاب: «لم يتركه أولاده ولو لحظة واحدة وهو كان يسكن في منزل ابنه طوني في المنصورية حيث أحيط بكل رعاية وعطف».

وأشار د. حداد إلى أنه وعلى الرغم من حالته الصحية المتردية في الفترة الأخيرة، فإنه حافظ على رباطة جأشه، وكان يستقبل جميع زواره ويسميهم بأسمائهم.

وأضاف: «لقد شغله الغناء حتى وهو في هذه الحالة (في بداية مرضه) إذ كان يمسك بآلة العود ويعزف عليها ويدندن للحظات قليلة ثم يضعها جانبا لأنه كان منهكا ومتعبا».

وعما إذا كان قد شعر بدنو رحيله عن هذا العالم رد د. سامي حداد «لقد شعر بدنو أجله منذ فترة طويلة، فكان مدركا لذلك منذ اللحظات الأولى لمرضه، فغالبا ما كان يردد قائلا، (أجا الوقت وصار لازم روح)».

وعن حالة أبنائه إثر سماعهم بخبر وفاته علق د. حداد: «لقد صدمنا جميعا رغم أننا كنا على علم مسبق بأن حالته الصحية صعبة، ولكننا كنا نأمل دائما أن يعيش بيننا أطول فترة ممكنة. فهو كان بمثابة بركة البيت ورأس الهرم فيه».

أما نجل المطرب الراحل جورج صافي، وهو أحد أبنائه المقربين جدا منه، إذ كان يرافقه في حفلاته الغنائية وتسجيلاته الصوتية وحفلات تكريمه حتى سنوات خلت، فقد أصيب بانهيار عصبي إثر وفاة والده (مساء الجمعة)، فأجهش بالبكاء وامتنع عن الرد على المكالمات الهاتفية التي وردته عقب انتشار الخبر على مواقع التواصل الاجتماعي وعلى شاشات التلفزة التي بثته تحت عنوان «خبر عاجل». وبدا جورج متأثرا خلال إطلالة تلفزيونية في ساعة متأخرة مساء أول من أمس، وقال بصوت متهدج: « قلبه لم يستطع التحمل فخانه وكان يقول دائما نيال اللي بروح قبل أولادو».

أحد أحفاد المطرب الراحل (وودي جوليان) الموجود حاليا في ولاية (ميري لاند) في الولايات المتحدة الأميركية، علم بالخبر بالتواتر ومن خلال مواقع الاتصال الاجتماعي قبيل أن يتصل به والده شخصيا ليخبره بالأمر. وفي اتصال معه أكد لـ«الشرق الأوسط» أنه ما زال لا يستوعب خبر وفاة جده الذي كان يستمتع بالجلوس معه لأوقات طويلة، وأنه لطالما افتخر به وبالمدرسة التي أسسها في الغناء في العالم العربي وقال: «كان يملك صوتا فريدا من نوعه وما زلت أذكر حتى اليوم حادثة حصلت معي وحفرت في ذهني، عندما كنت متوجها إلى منزله فسمعت صوته من بعيد ينشد إحدى الأغاني. لقد كان في استطاعة كل أهل الحي سماعه أيضا، والمفاجأة كانت أنه كان يغني من دون ميكروفون من داخل غرفة الجلوس التي يحب تمضية أطول وقت ممكن فيها».

وزير الثقافة غابي ليون كان أول الواصلين إلى المستشفى حيث رقد عملاق الغناء العربي معزيا عائلته.

والمعروف أن وديع الصافي واسمه الحقيقي وديع فرنسيس، ولد في عام 1921 ولم يكن بعد قد أكمل السنتين من عمره عندما أذهل خاله نمر العجيل بقوة صوته ونقاوته. كان يطيب له أن يمسك بيده ويجول وإياه في إحياء بلدة نيحا في البقاع حيث مسقط رأسه وعند سماع صياح الديك كان الطفل يتوقف لبرهة ويصيح بدوره مقلدا الديك ببراعة، فيربت الخال على كتفه إعجابا وهو يتمتم «مش معقول ولد بها العمر بيملك هالصوت».

أول أجر قيم تقاضاه وديع الصافي في بداية مشواره الفني كان ثماني ليرات ذهبية من الست نظيرة جنبلاط والدة الزعيم الدرزي الراحل كمال جنبلاط، وذلك لقاء غنائه لها وهي طريحة الفراش وكان يومها لا يتجاوز الـ11. عام 1938 انتقلت عائلة فرنسيس إلى بيروت وهناك لعبت الصدفة دورها، عندما دخل عليه شقيقه توفيق يحمل قصاصة ورق عن إعلان لمسابقة غنائية تنظمها إذاعة لبنان الرسمية والمعروفة حينذاك بإذاعة الشرق الأدنى. ويقال إن أغنيتي «ولو» و«ندم» كانتا بمثابة باب جديد تنطلق منه الأغنية العربية فاستوحيت منهما أغاني كثيرة بينها «أيظن» من شعر نزار قباني، التي غناها محمد عبد الوهاب وبعده نجاة الصغيرة، وتتمحور حول قصة تحاكي المستمع وتداعب خياله.

عاش صاحب «عندك بحرية يا ريس» و«على الله تعود» و«يا بني» و«دق باب البيت عالسكيت» وغيرها فترة طويلة رحالة، يتنقل من بلاد إلى أخرى وأبرزها البرازيل وفرنسا، حيث بقي فيها طيلة فترة الحرب اللبنانية. تعرض لأكثر من نكسة صحية عندما أصيب بمرض في رئتيه عام 1979 ومرة أخرى عام 1989 عندما خضع لعملية قلب مفتوح. وفي عام 2003 أضاء اللبنانيون الشموع من أجله بعد أن أصيب بوعكة صحية ألمت بقلبه المتعب بقي على إثرها فترة في المستشفى.

كرمه أكثر من رئيس جمهورية وحمل أكثر من وسام استحقاق منها خمسة أوسمة لبنانية نالها أيام كميل شيمعون، وفؤاد شهاب، وسليمان فرنجية، وإلياس الهراوي. أما الرئيس اللبناني إميل لحود فقد منحه وسام الأرز برتبة فارس.

حمل ثلاث جنسيات المصرية والفرنسية والبرازيلية، إلا أنه يفتخر باللبنانية ويردد أن الأيام علمته بأن ما أعز من الولد إلا البلد.. وهو مستعد للبسمة في أي لحظة ويصفه ابنه أنطوان أنه «يضحك بالعرض» أي من كل قلبه. من أحب الأغاني إلى قلبه «الليل يا ليلى».. ووصيته الدائمة لأولاده أن يتسلحوا بالمحبة: «لتكن المحبة زادكم اليومي وأنتم تعملون.. وأنتم تأكلون وأنتم تتحدثون وأنتم تغنون».

وانشغل الوسط الفني في لبنان بخبر رحيل وديع الصافي، وطالبت المطربة نجوى كرم الدولة اللبنانية بإعلان يوم حداد رسمي لفقدانها «فنانا لن نشهد مثيلا له إلا كل مائة عام». وشاركها الرأي الملحن هشام بولس. فيما شن الإعلامي نيشان ديرهاروتونيان انتقادا لاذعا على المحطات التلفزيونية التي تابعت عرض برامجها ليلة وفاة وديع الصافي بشكل طبيعي. وعلق قائلا: «لو أي زعيم جرح إصبع يده لكانت التلفزيونات انعجقت وقطعت برامجها لمتابعة الخبر، فغياب وديع الصافي لم يعكر صفو برامجهم وكأن البلد في غيبوبة». أما نانسي عجرم فغردت على حسابها الخاص في «تويتر» قائلة: «لبنان في حالة ألم وكلنا كذلك. وديع الصافي رمز لبنان ارقد بسلام». أما فارس كرم فكتب على صفحته الخاصة «فيس بوك» «وديع الصافي... الكبار ما بيرحلوا». أما الموسيقي زياد سحاب فقال: «سلم عا زكي.. والأخوين رحباني وفيلمون وهبي». ونعت الفنانة نوال الزغبي الراحل الكبير على طريقتها فقالت: «للأسف الشديد هرم وجبل من لبنان خسرنا منذ لحظات.. العملاق الكبير وديع الصافي الله يرحمه.. خبر محزن». أما إليسا فعلقت على الخبر قائلة: «خسارة كبيرة وحزن عميق تجاه أسطورة عظيمة.. رح تعيش بذكرياتنا وقلوبنا.. الله يرحمك وديع الصافي».

وكان لصباح كلمة رسمية بالمناسبة قالت فيها: «أرزة من أرزات لبنان هوت اليوم وجبال لبنان انحنت حزنا واتشحت بالسواد على رحيل هذا العملاق الكبير». وتابعت: «الله يرحمك يا أستاذ وديع تغمدك الله بواسع رحمته وجعل مثواك الجنة إلى جانب الأبرار.. الله معك يا كبير.. سوف تبقى خالدا في قلوبنا وخالدا بفنك الأصيل وبأغانيك وبأعمالك العظيمة التي ستبقى محفورة على جدار الزمن وفي تاريخ الفن اللبناني العريق.. فلتسترح نفسك في السماء.. الراحة الدائمة أعطه يا رب ونورك الأزلي فليضئ له».

يذكر أن مراسم وداع وديع الصافي ستقام في الثالثة من بعد ظهر غد، في كاتدرائية مار جرجس وسط بيروت.