«رحلات الحج».. توثيق أدبي وسجل ثقافي

باحث سعودي يرصد 30 رحلة من ناصر خسرو قبل ألف عام إلى الياباني محمد صالح قبل 83 عاما

الكعبة بداية موسم الحج كما صورها محمد السعودي
TT

تعد رحلات الحج التي دونها الكثير من العلماء والأدباء والمؤرخين والرحالة، الذين قصدوا الديار المقدسة لتأدية الركن الخامس من أركان الإسلام، سفرا خالدا وسجلا ثقافيا لخدمة الأدب والتاريخ. وعلى مدى القرون الماضية قام عدد من الرحالة بتأدية فريضة الحج من خلال رحلات متباينة على مدى الألف سنة الماضية، وحظيت هذه الرحلات بعناية خاصة من قبل أصحابها، ودار حولها الكثير من المؤلفات، وقد رصد عبد الله الحقيل المؤرخ والباحث والمؤلف الأمين العام السابق لدارة الملك عبد العزيز 30 رحلة للحج بدأت أولاها منذ ألف عام.

وكشف لـ«الشرق الأوسط» أن الرحلة الأقدم كانت للرحالة الفارسي ناصر خسرو شاه، ثم رحلة ابن جبير الأندلسي، وابن بطوطة، وعبد القادر الجزائري، وغيرهم، ثم الياباني تاكيشي سوزوكي، المعروف باسم محمد صالح، قبل نحو 83 عاما.

حول رحلة ناصر خسرو شاه عام 442 هجرية، يوضح الحقيل الذي يعنينا من هذه الرحلة الطويلة ما يتصل بالحج، حيث يصف مكة المكرمة قائلا: «تقع مكة بين جبال عالية، ولا ترى من بعيد، من أي جانب يقصدها السائر، وأقرب جبل منها هو جبل أبي قبيس، وهو مستدير كالقبة، لو رمي سهم من أسفله لبلغ قمته، وهو شرق مكة، فترى الشمس من داخل المسجد الحرام وهي تشرق من فوقه في شهر (ديسمبر)، وقد نصب على قمته برج من الحجر يقال إن إبراهيم عليه السلام رفعه عليه».

ابن جبير الأندلسي أما ابن جبير الأندلسي فقد حج عام 578 هجرية متوجها من غرناطة إلى جدة. وهو يقص رحلته وحجه إلى بيت الله الحرام، ويصف لنا مشاهد كثيرة، ويرسم الطريق إلى مكة، منازله ومناهله، رسما بارعا، وتصويرا دقيقا، متقصيا أحوال مكة من جميع جهاتها. يقول: «في مساء يوم الثلاثاء الحادي عشر من ربيع الأول 578هـ، تركنا جدة متوجهين إلى مكة بعد أن ضمن الحجاج بعضهم بعضا، وبعد تسجيل أسمائهم في سجل لدى قائد جدة علي بن موفق، فواصلوا السير ليلا حتى وصلوا (القرين) مع طلوع الشمس، والمسمى اليوم (بحرة)».

ويفيض ابن جبير في وصف الكعبة والحرم والآثار، ولا يكف عن إحصائياته ومقاييسه مستعملا الشبر، ويصف موضع الطواف بأنه «مفروش بحجارة مبسوطة كالرخام حسنا، أما سائر الحرم فهو مفروش بالرمل الأبيض، وطواف النساء في آخر الحجارة المفروشة».

ويصف حجر إسماعيل وصفا بديعا، ويذكر مساحاته وأقيسته، ويصف قبة زمزم، وأن البئر في وسطها، وعمقها إحدى عشرة قامة حسبما ذرع ابن جبير بنفسه. أما عمق الماء فيقول عنه: «وعمق الماء سبع قامات على ما يذكر».

ابن بطوطة أما ابن بطوطة فقد جاء في وصف رحلته إلى الحج عام 726هـ حديثه عن قرع الطبول إيذانا ببدء أيام الحج، ويقول: «وإذا كان أول يوم شهر ذي الحجة تضرب الطبول والدباب، في أوقات الصلوات، بكرة وعشية، إشعارا بالموسم المبارك، ولا تزال كذلك إلى يوم الصعود إلى عرفات، فإذا كان اليوم السابع من ذي الحجة خطب الخطيب إثر صلاة الظهر خطبة بليغة يعلم الناس فيها مناسكهم، ويعلمهم بيوم الوقفة، فإذا كان اليوم الثامن بكر الناس بالصعود إلى منى، وأمراء مصر والشام والعراق وأعلام العلم يبيتون تلك الليلة بمنى، وتقع المباهاة والمفاخرة بين أهل مصر والشام والعراق في إيقاد الشمع، ولكن الفضل في ذلك لأهل الشام دائما، فإذا كان اليوم التاسع رحلوا من منى بعد صلاة الصبح إلى عرفة، فيمرون في طريقهم بوادي محسر ويهرولون، وذلك سنة».

أما الكعبة المشرفة، فيتحدث عنها ابن بطوطة تاركا وصفا حيا للمسجد الحرام ومكة المكرمة بقوله: «وفي هذه الأيام تفتح الكعبة الشريفة في كل يوم للعراقيين والخراسانيين وسواهم ممن يصل مع الركب العراقي، وهم يقيمون بمكة بعد سفر الركبين الشامي والمصري أربعة أيام، فيكثرون فيها الصدقات على المجاورين وغيرهم، ولقد شاهدتهم يطوفون بالحرم ليلا، فمن لقوه في الحرم من المجاورين أو المكيين أعطوه الفضة والثياب، وكذلك يعطون للمشاهدين الكعبة الشريفة».

ياباني في مكة وبخصوص رحلة «ياباني في مكة» أو «الحج إلى مكة المكرمة» للحاج محمد صالح (تاكيشي سوزوكي)، يشير الحقيل إلى أن هذه الرحلة تعد نموذجا للنمط الأدبي المعروف بـ«أدب الرحلات»، وهو رافد من روافد الثقافة والمعرفة من الأدب والتاريخ، يستفيد منه كتّاب السيَر، وعلماء الجغرافيا، وعلماء الاجتماع، والتربية، وعلماء اللغة وغيرهم، إفادة كبيرة. وهذه الرحلة التي ترجمها الدكتور سمير عبد الحميد إبراهيم، وسارة تاكاهاشي سنة 1419هـ تضم بين ثناياها جميع أقسام الرحلات المعروفة لدى الباحثين في أدب الرحلة، فهي قبل كل شيء رحلة أدبية، وفن من فنون القول الأدبي، اعتمد فيها المؤلف، بالإضافة إلى المشاهدات العينية، على ما سمعه من أخبار، وعلى مطالعة الرحلات السابقة التي كتبها غيره.

لا يقف الكتاب على الجانب الحرفي لأدب الرحلات، ولكنه يجيد تصوير مشاعر مسلم من بيئة مختلفة تلامس قلبه وروحه معاني الحج الإنسانية فيستجيب لها بشغف ويتلمس معانيها بشاعرية. فمناسك الحج وشعائره المختلفة تمثل ثقافة مختلفة يسعى الياباني إلى استيعابها فاتحا قلبه لسيل متدفق من المضامين التي قد لا يعيها آلاف الحجاج الآخرين.

في تلك الرحلة التي كانت في عام 1938 سافر تاكيشي سوزوكي إلى مكة المكرمة بالباخرة من مرفأ كوبة في اليابان وانتقل إلى مصر مرورا بقناة السويس على باخرة مصرية، ثم صوب وجهه نحو السعودية لأداء مناسك الحج والإحرام.

ولقد بدأ المؤلف رحلته بمقدمة عن الإسلام ومبادئه، ثم بمقدمة أخرى عن الرحلة ذاتها، والظروف التي دفعته إلى القيام بها، وركز على الأمور الجغرافية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية والعمرانية، ووصف الطرق والعمران، والمرافق والظواهر المناخية، ووجه عناية خاصة للأمور الاجتماعية، فتحدث عن البشر، فئات المجتمع وطبقاته، ووضع الرجال والنساء في المجتمع، وغير ذلك، ولم تخلُ رحلته من ذكر رجال الدولة والعلماء، وعلى رأسهم مؤسس المملكة العربية السعودية الحديثة الملك عبد العزيز (طيب الله ثراه)، وقد أفرد فصلا كاملا عنه.

في الفصل الثاني يتحدث عن وصوله إلى الجزيرة العربية، وارتدائه ملابس الإحرام، يصف لحظة ارتدائه لملابس الإحرام: «حين حانت ساعة ارتداء ملابس الإحرام، كان جميع الحجاج في سعادة غامرة، وانطلقت ألسنتهم بالتلبية والتكبير، بينما كانت دموع الفرح والسعادة تنهمر أحيانا من عيون بعضهم.. لا يمكن أن أشاهد في أي مكان آخر مثل هذه المشاعر الجياشة، والأحاسيس العميقة، والعواطف الحارة، إلا في هذا المكان، وفي تلك اللحظات بالذات.. كان الحجاج يرتدون ملابس الإحرام، لا فرق بين غني وفقير، كنا جميعا نرتدي نفس الملابس، المصنوعة من قطعتين من القماش الأبيض، ففي الحج يتساوى الجميع».

في طريقه من الفندق الذي سكنه بجوار البيت الحرام، كان يمشي في درب ضيق تحيطه الجبال والبيوت، ويقول إنه كان يتلمس الأرض بخشوع وهو يستحضر التاريخ الإسلامي ويشعر أن «هذا الطريق الضيق المظلم موجود منذ 1330 سنة يقود المسلمين المؤمنين إلى طريق الكعبة».

لقد رسم المؤلف في كتابه هذه صورة للملك عبد العزيز الذي شاهده عن قرب والتقى به، وقد خصه الملك دون غيره من الحجاج باللقاء أطول وقت ممكن، بل أوقفه بجانبه طوال مدة مصافحته لوفود العالم الإسلامي التي قدمت للسلام عليه في الحج، وقد رسم المؤلف للملك عبد العزيز صورة دقيقة الملامح، جميلة القسمات، خطها بأصدق الكلمات، وأوضح العبارات، دون رياء أو مجاملات.

* توثيق بالكاميرا للمشاعر المقدسة قبل قرن من الزمان

* الدمام: «الشرق الأوسط»

* يمثل الكتاب «مصور في الحج» الصادر عن مشروع «كلمة» التابع لهيئة أبوظبي للسياحة والثقافة، أحد أهم كتب التوثيق المصور لرحلة الحج باستخدام الكاميرا والصورة، بعد أن كان الرحالة يعتمدون على التوثيق بالكتابة والوصف. وهذا الكتاب يروي رحلة الحج بين عامي (1904 - 1908) من تأليف فريد قيومجي كحيل وروبرت غراهام، وقام بترجمته الدكتور سري خريس.

أما المصور وكاتب اليوميات فهو محمد علي أفندي السعودي، وقد قام برحلتي حج ضمن حاشية أمير الحج الرسمية الممثلة في قافلة الحجاج المصرية التي تصاحب «المحمل» أو «كسوة الكعبة». وهو مصري عاش إبان التحولات الهامة التي مرت بها مصر ومنطقة الشرق الأوسط بداية القرن العشرين، وشهدت تلك المرحلة ضعف سيطرة الإمبراطورية العثمانية، ونشأة حركة الأتراك الشباب في تركيا، وتزامنت رحلته مع تشييد سكة الحجاز الحديدية التي امتدت من دمشق إلى المدينة المنورة، والتي غيرت طرق الحج المعتادة بعد ذلك.

وكان السعودي على صلة بالشيخ محمد عبده، وبحسب الكتاب فقد كلفه بتزويده بوصف مفصل للتاريخ الديني لكل الآثار المحيطة بالحرم، والمنتشرة في البقاع المقدسة في كل من مكة والمدينة، وكان هذا التكليف قبل أن يخرج السعودي في رحلته الأولى لأداء فريضة الحج، وعند عودته سلم السعودي نتائج رحلته للشيخ محمد عبده، وخاطبه واصفا إياه بمفتي الديار المصرية، قائلا: «أقدم لك، بناء على طلبك، ما استطعت كتابته بقلم الرصاص في هذه المرحلة، وسأزودك بما تبقى من معلومات بعد الانتهاء من كتابي الذي يتحدث عن رحلة الحج ووصف الحجاز، بإذن الله».

وتعكس يوميات المصور محمد أفندي السعودي رؤية نادرة لرحلة الحج التي قامت بها الحملة المصرية في مطلع القرن العشرين، ويروي المؤلف تفاصيل رحلته الثانية إلى الديار المقدسة، برفقة إبراهيم رفعت باشا، أمير الحج المسؤول عن قافلة الحج المصرية آنذاك. كما ينقل الأخطار التي واجهها الحجاج في رحلتهم البرية، والمصاعب المرتبطة بعملية التقاط الصور الفوتوغرافية ذاتها.

* «الطريق إلى مكة».. فيلم عالمي بتمويل سعودي

* مكة: «الشرق الأوسط»

* ضمن التجارب النادرة لتوثيق رحلات الحج القديمة سينمائيا، يأتي فيلم «الطريق إلى مكة» الذي يتخذ من رحلة ابن بطوطة في القرن الرابع عشر موضوعا له، يحكي الفيلم في 45 دقيقة رحلة ابن بطوطة من بلدته طنجة في المغرب وعبر الصحراء على امتداد آلاف الأميال إلى مكة لأداء الحج، كما يتطرق الفيلم للمخاطر والصعاب التي تعرض لها ابن بطوطة خلال رحلته الطويلة التي أخذته إلى القاهرة ومن ثم التوجه إلى دمشق ليصحب الركب المسافر إلى الحجاز، ويمزج الفيلم بين الصورة التي كان عليها الحج في الماضي وتلك التي يبدو عليها الآن.

أنتج الفيلم بالتعاون بين مؤسسات سعودية ثقافية وخاصة، بينها مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية ومكتبة الملك عبد العزيز العامة، ومجموعة «الزامل». وشارك في الفيلم الممثلون حسام جانسي ونديم صوالحة ونبيل الوهابي، ولعب دور ابن بطوطة الممثل شمس الدين زينون، ومن إخراج بروس نيبور، واستغرق تصوير الفيلم أربع سنوات في المغرب والسعودية، وبلغت ميزانية الفيلم نحو 60 مليون ريال.

وعرض الفيلم لأول مرة في مركز سلطان بن عبد العزيز للعلوم والتقنية «سايتك» بالخبر شرق السعودية في يونيو (حزيران) 2011، كما عرض على هامش معرض الكتاب في الرياض، وضمن فعاليات منتدى جدة الاقتصادي في دورته الثانية عشرة، كما عرض في أكثر من 50 مدينة حول العالم، وترجم إلى لغات عدة، منها الفرنسية والروسية والتركية والإنجليزية، وحاز على الكثير من الجوائز بينها جوائز مهرجانات في هيوستن، وبوسطن، وباريس.

وأنتج الفيلم السينمائي الكندي الراحل جيك ايبرتس، الذي أنتج أو مول خمسين فيلما حازت على 37 أوسكار، من بينها «عربات النار»، و«غاندي»، و«اسم الوردة»، و«الرقص مع الذئاب»، و«مدينة الفرح»، و«المخادع»، و«الطريق إلى مكة».