ثلاثة أفلام عن المهمشين في ربوع الأرض.. زرافة فلسطينية وثأر كردي وضياع ثوري

مهرجان أبوظبي السينمائي ـ 5

في مطلع الرحلة: «قبل الثلج»
TT

تجمع تظاهرة «آفاق جديدة» طموحات المخرجين الجدد الطامحين إلى العمل السينمائي. لذلك، هي خاصة بالأفلام الأولى أو الثانية لمخرجيها. ليس أنها تظاهرة يختص بها المهرجان، فهناك مثيل له في أكثر من مهرجان حول العالم، كما هناك مهرجانات متخصصة أساسا بهذا النوع من العمل.

المخرج الفلسطيني - الأردني رائد أنضوني، الموجود في المهرجان من دون فيلم هذا العام، وهو الذي شارك في مهرجانات عربية وغير عربية بأفلامه الوثائقية فلسطينية المضمون، يكشف عن موضوع مهم حين يقول لنا ردا على سؤال حول إذا ما كانت مرحلة ما بعد البداية أسهل، على المخرج الباحث عن التمويل، من مرحلة البداية ذاتها. يرد:

«على المخرج كمنوال عمل، نعم.. بات أكثر خبرة. لكن على مستوى الإنتاج، تصبح المرحلة أصعب حين يريد تحقيق فيلمه الثالث أو الرابع».

عن السبب في ذلك يقول:

«لأن الاهتمام منصب على المخرجين الجدد وأفلامهم الأولى والثانية أساسا. إذا كنت مخرجا جديدا فهناك من يريد تشجيعك، لكن حين تنطلق لاحقا تجد أن البحث عن التمويل الكافي أصعب من ذي قبل».

ويتحدث عن تجارب مختلفة معه ومع آخرين، يخلص منها إلى الرأي التالي:

«الجهة الوحيدة التي تبقى أمامك هي الجهة الأجنبية. وهذه تحكم بمنطق يستند إلى أساس تسويقي. بصرف النظر عن الموضوع الذي يطرحه العربي، لدى الممول الأجنبي مطلب مهم هو ألا يكون الطرح متطرفا في أي اتجاه، لأن الغاية هي إرضاء كل فئات المشاهدين كشرط لاسترجاع التكلفة».

سألته إذا ما كان يوافق على أن الدعم الممنوح من قـبل المهرجانات العربية تسبب أو كاد في إلغاء دور المنتج العربي، فأجاب:

«إلى حد بعيد. في اللقاءات التي تعقدها المهرجانات بين السينمائيين العرب والمنتجين المحتملين الأجانب لا تجد منتجين عربا، بل مخرجين فقط - لكن عمل كل منهما منفصل تماما والمخرج ليس عليه أن يحل محل المنتج أو العكس».

من أجل زرافة طبعا، ليست كل أفلام قسم «آفاق جديدة» من إنتاج مؤسسة «سند» (ولا كل الأفلام المشتركة في شتى العروض الرسمية)، لكن بعضها يتيح لك أن تسأل السؤال البديهي: لماذا وكيف جرت الموافقة على تمويله؟ هل هناك من لا يحسن قراءة المشروع فيتسبب في منح الضوء الأخضر تمهيدا لنتيجة كتلك التي تأتي بها بعض الأفلام؟

فيلمان جيدان في هذه التظاهرة، حملا الكثير من الإمعان في حياة أناس عاديين أو ما دون. أناس قد لا يحدثون أي رهج أو يتسببون في إثارة أي خبر فيما لو كانت قصص أصحابها حقيقية. رغم ذلك، هي حكايات واقعية معالجة بحياكة طبيعية ليست بعيدة عن الرصد والتوثيق، علما بأنهما أبعد ما يكونان عن السينما التسجيلية.

«زرافاضة» لراني مصالحة (مولود في فرنسا من أم مصرية وأب فلسطيني) هو الفيلم الأول لمخرجه. وهو إنتاج عالمي على أكثر من نحو، تدخـلت فيه شركات إيطالية وفرنسية وألمانية وتداخلت. الكلمة ذاتها هي أيضا مزيج من كلمتي «زرافة» و«انتفاضة»، فالحكاية تتمحور حول طبيب بيطري يعمل في حديقة الحيوان التي في مدينة قلقيلية وجوارها. في ظل الظروف الصعبة للاحتلال، يحاول الطبيب (صالح بكري) تأمين العلاج لحيوانات هذه الحديقة. بين الحيوانات زرافتين أنثى وذكر. ابنه الذي يساعده في العناية بحيوانات الحديقة يحب هاتين الزرافتين، لذلك حين تتسبب غارة جوية إسرائيلية على القطاع في إصابة ومقتل الزرافة الذكر لا يصيب الحزن الزرافة الأنثى فتمتنع عن الطعام فحسب، بل الصبي (أحمد بياترا). الوضع يصيب علاقة الابن بأبيه وهذا الثاني يحاول جهده البحث عن وسيلة يجبر بها الزرافة الباقية (وهو يكتشف أنها حبلى) على أن تأكل. في النهاية، يعتمد على معونة طبيب بيطري في حديقة حيوان داخل إحدى المدن الإسرائيلية ويقنعه بتهريب زرافة ذكر إلى قلقيلية. كيفية تهريب الزرافة تتحول إلى جانب من الحكاية هو أكثرها تشويقا، خصوصا أن الطبيب الفلسطيني وابنه والصحافية الفرنسية التي تعاونهما باتوا عرضة لمخاطر الطريق (بما في ذلك مشهد هجوم مستوطنين يهود على السيارة التي تقلهم حال اكتشاف وجودهم).

هناك مشهد يقع مباشرة قبل النهاية (جرى تنفيذه ديجيتال على الشاشة الخضراء) للزرافة الجديدة وهي تسير في شوارع المدينة وراء الصبي الذي يتـجه بها إلى بوابة الحديقة لضمـها والزرافة الأخرى. لكن المشهد التالي لانتفاضة صغيرة (تستطيع أن تقول: «ميني - انتفاضة») للمواطنين العرب الذين يحاولون التدخل لإنقاذ الطبيب من أيدي القوات الإسرائيلية لا داعي لها ليس لأنه من غير المحتمل وقوعها، بل لأن تنفيذها يشبه «الموديل» أكثر مما يعبر عن واقع، وذلك بسبب حجم الإنتاج المحدود للغاية.

في عمومه، ينتهي الفيلم بأفضل مما بدأه، وذلك نظرا لتصاعد الخط الدرامي له. لكنه، بعضه على بعض، مقبول ولا يخلو من لمعات جيـدة. وعلى نحو إجمالي أيضا، هو فيلم خال من أسلوب فني مميـز معتمدا على السرد والطرح وحديهما وليس على الكيفية التي بإمكانها صنع فيلم أكثر تأثيرا وأفضل تنفيذا.

هجرة كردية ما يعالجه هذا الفيلم هو كيف تمضي الحياة تحت وطأة الاحتلال وأمام حواجز الطرق وفي مواجهة فوهات البنادق أو عند الجدار العالي الذي، كما يقول أحد المواطنين، أدى إلى احتلال المستوطنين الأراضي الفلسطينية التي بات أصحابها يعيشون في الجانب الآخر. وهذه الحياة المدهوسة هي فحوى فيلم رائع لمخرج اسمه هشام زمان بعنوان «قبل سقوط الثلج» يتناول فيه حكاية رحلة ذات أسباب مختلفة. هنا، ليس بحثا عن زرافة تحل محل زرافة أخرى، بل عن شقيقة ذلك الشاب الكردي التي أحبـت غير من انتخبه لزواجها وهربت معه إلى ضواحي أوسلو. بطل الفيلم لا يملك، تبعا للتقاليد والمتوارثات، سوى الاختباء داخل صهريج نفط يجتاز الحدود التركية إلى إسطنبول، حيث حاولت شقيقته الاستقرار هناك أولا. في حاضرة مدينة تعج بالمهاجرين أمثاله (أكراد وعرب ومن سواهم)، يعيش في أزقـة أكثر الأحياء تواضعا، حيث يتعرف على فتاة ترتدي زي الأولاد الذكور تجنـبا للتحرش. يبدأ الاهتمام بها، وقد أدرك حقيقتها، ويعرض عليها الهرب معه إلى النرويج، حيث جاءه النبأ أن شقيقته، التي أخفق في قتلها بإسطنبول، استقرت هناك. إنها رحلة مثيرة وطويلة أخرى يدفع فيها ما بقي معه من مال لكي يصل والفتاة إلى ذلك البلد الثلجي النائي. حين مداهمة شرطة الحدود المجموعة المتسللة، يأمر قائد الفرقة الجميع بخلع ملابسهم. الفتاة - التي لا تزال تتنكر في زي صبي، تبدأ بالبكاء خوفا من الفضيحة. ينبري بطل الفيلم للوشاية بمنظـم عملية التهريب مقابل إطلاق سراح الجميع. الباقي بداية لي الأحداث لتشكيل الخاتمة. سيجد شقيقته وسيواجهها بمسدسه يريد قتلها، لكنه سواء لأنه أخذ يعرف معنى الحب بدوره، أو لأن حبـه لشقيقته طغى في اللحظة المناسبة يتركها تمضي، فقط لكي يلقى حتفه على يدي واحد من العصابة المنظـمة لعمليات التهريب انتقاما لمن جرى القبض عليه.

هناك معايشة حقيقية وموضوعية من المخرج الجديد هشام زمان الذي كان نال جائزة هنا قبل ثلاث سنوات عن فيلم قصير وعاد هذه المرة بإنتاج نرويجي - ألماني (ولو أنه يحمل هوية المخرج العراقية أيضا). هذه المعايشة راصدة لمتاعب وآمال وآلام بطله على نحو حافل بالملاحظات. تطالعك متاعب الحياة بالنسبة لشخصيات من المهاجرين بحثا عن كل شيء ولا شيء بالتحديد. سنوات من الحياة المستعارة في بلد آخر وثقافة غريبة عن المنشأ ورغبات شخصية تنضح بالسلوك المتأثر بالتقاليد التي تصارع لأجل البقاء. للمخرج دراية جيـدة بقيمة الصورة وتأليف عناصرها ومحتوياتها. بطل الفيلم موجود في كل لقطة، لكنه من الامتزاج بشخصيـته بحيث لا يرهق وجوده (ولا قضيـته) المشاهد بل يفيده.

قوة بصرية هذا ما يدلف بنا إلى الفيلم المصري «فرش وغطا» لأحمد عبد الله. سابقا ما قدم هذا المخرج فيلم «ميكروفون» الذي نال مديح معظم نقادنا على عكس هذا الفيلم الذي استقبل بفتور من معظم النقاد العرب الموجودين. لكن إذا ما جرى قبول «ميكروفون» على أساس أنه فيلم مستقل ومختلف ويحمل أسلوب عمل غير معتاد، فإن هذا الفيلم الجديد يحتوي على كل تلك الخصال، مما يجعل من الإعجاب بالأول والنفور من الثاني أمرا ملتبسا.

هذا أيضا فيلم مهمـشين ربما أكثر من أي فيلم مهمـشين آخر. الممثل آسر ياسين يختزن قدرات تعبيرية صامتة معظم الوقت. الفيلم بلا حوار إلا في مناسبات محدودة يراها المخرج ضرورية. وبعض النقد الموجـه إليه هو اختياره أن يكون العمل شبه صامت على أساس أن آخر ما يمكن أن يكون حدث خلال ثورة الربيع المصرية (التي يتعامل مع تبعاتها هذا الفيلم) هو الصمت، فهي كانت ضاجـة وفوضوية وصارخة بحيث يأتي اختيار عبد الله لإلغاء الحوار في غير محلـه.

لكن الاختيار ملك المخرج، والمرء عليه أن يحكم فقط على ما إذا نجح المخرج في اختياره أو فشل. بالنسبة لهذا الناقد أنجز أحمد عبد الله عملا جديرا بالتقدير والاحترام. اللا - حوار (لأن الفيلم ليس صامتا لوصفه بذلك) إضافة فنيـة مهمـة تكثـف الجزء البصري من الفيلم وتجعل المخرج أمام ضرورة الاتكال على الحدث، ومن ثم المشهد واللقطة، لأجل التعبير عن مقصده ولأجل سرد حكايته بلا مساعدة من حوار لم يكن ليضيف شيئا يـذكر.

بطل الفيلم واحد من الذين جرى تهريبهم من السجون أيام المظاهرات التي عمـت مصر سنة 2011، ومن مطلع الفيلم يـحسب للمخرج أنه لم يكترث لاتخاذ موقف مؤيد أو معارض لأي جهة. قوات الحكومة تتعقـب من جرى إطلاق سراحهم و«الثوار» يعاملونه كغرباء. حين يصل بطل الفيلم إلى الحي الذي سيمضي به بعض الوقت يـستقبل بزفـة ضرب مبرح من حراس الحي قبل أن ينقذه واحد تعرف عليه. بعد فترة من العيش مع عائلته، ينطلق لإيصال رسالة. فأحد الهاربين من السجن هو مسيحي (قبطي) أودعه رسالة إلى أهله قبل موته. بعد بحث يأخذ بطلنا بين القبور وساكنيها والأنفاق والأزقـة التي لا يدخلها نور الشمس يوصل الرسالة، لكنه في الوقت ذاته يدرك أن الرسالة التي أوصلها بعثت فيه رسالة خاصـة حولته من مجرد متابع لما يدور حوله إلى شريك عندما تقع معركة بين المسلمين والمسيحيين ويشترك فيها.

حال الضياع واضحة. حياة الحضيض أوضح. والشخصية الرئيسة في هذا الفيلم تعيش الحالتين جيـدا. ربما كان الفيلم يحتاج إلى إضافة مختلفة في شكل شخصية متغايرة عن الشخصيات الأخرى تكشف عن بعد مواز، أو لشعور بخطر مدهم من جراء الحياة المدقعة التي يعيشها بطل الفيلم والبيئة بأسرها، لكنه عمل جيـد كما يحل على الشاشة ومختلف عن أي فيلم مصري آخر. طبعا، سيبقى هناك مكان لاقتراحات تتعلـق باختيار المخرج طريقة معالجته (كم الحوار أهمـها)، لكن المخرج الشاب نجح فيما أمـه مانحا الفيلم قوة بصرية لا تنضح بالجديد أو غير المألوف، لكنها صادقة.

في الوقت ذاته، هذا فيلم ديجيتال من تصوير طارق دفني وفي مناطق كثيرة تخون تقنية الديجيتال البعد الذي كان من الممكن لكاميرا 35 مم تحقيقه.