أسئلة في فيلمين عراقيين إجاباتها موجودة في فيلم بوسني

مهرجان أبوظبي السينمائي ـ 6

مشهد من «تحت رمال بابل» لمحمد الدراجي
TT

في حين أن الفيلم العراقي «همس المدن» لقاسم عبد جرى تنفيذه بميزانية محدودة، قيل أكثر من مرة إن الفيلم العراقي الآخر «تحت رمال بابل» لمحمد الدراجي كلـف مليون دولار. على الشاشة الفيلمان متساويان تقريبا كنوعية. لكن بينما لا يشي «همس المدن» بأنه كلـف أكثر من الكاميرا ومونتاج الصوت «وبعض التوليف الصوري»، فإن الفيلم الثاني لا يعكس شيئا من ذلك الإنتاج الكبير على الشاشة. تتساءل أين ذهب ذلك المليون عندما تطالعك صورة ما زالت فقيرة. «تحت رمال بابل» و«همس المدن» - كذلك بعض الأفلام العراقية الأخرى ومعظمها أفضل عملا ومنها «بلادي الحلوة.. بلادي الحارة» و«قبل سقوط الثلج» - تمتـعا بدعم من صندوق «سند» الذي أسدى ولا يزال خدمة كبيرة لمخرجين عديدين، لكن الاختيارات ليست دائما موفـقة. المناسبة المتاحة لمشاهدتهما هي مهمـة بحد ذاتها. الموقف حيالهما لا علاقة له بالمصدر أو بميول شخصية من أي نوع، بل مجرد محاولة لقراءة الصورة ومطالعة الفيلم من جوانبه التي اختارها لنفسه، كما على الناقد أن يفعل. كذلك ليس المقصود تعميم الصورة خدمة للاعتقاد بأن هناك موقفا مسبقا من شيء معيـن.

«همس المدن» فيلم تسجيلي يقول مخرجه إنه صور في عشر سنوات، وتقول مصادر مقربة بأن التصوير جرى بتقنية الهاتف الجوال، لذلك يطالعنا السؤال حول حقيقة هذا الأمر على أساس أن الهواتف الجوالة ذات الكاميرا لم تكن متوفـرة قبل عشر سنوات فكيف تسنى للفيلم أن يصور بكاميرا هاتفية؟

إذا ما تجاهلنا هذا السؤال المحق (الذي لا بد من أن له تفسيرا مقنعا) فإن السؤال الآخر الأهم هو لماذا جرى تصوير هذا الفيلم؟ أين المبرر؟ أين السبب؟ لماذا على المشاهد أن يجلس في الصالة ليراقب مشهدا واحدا يمتد لأكثر من ساعة؟

«همس المدن» فيلم لمخرج سبق أن قدم فيلما واعدا بعنوان «الحياة بعد السقوط». لم يكن فيلما بلا أخطاء أو خاليا من السلبيات، لكن جميع التعليقات المسموعة من نقاد عراقيين، قبل سواهم، أنه كان أفضل من الفيلم الجديد الذي أشيع عنه أنه من أفضل ما جرى تحقيقه من أفلام تسجيلية، لا للمخرج فحسب بل للسينما العربية.

في فيلمه الجديد يضع المخرج تلك الكاميرا على حافة نافذة أو على حافة سطح ويفتحها على الشارع تحته. ليس شارعا واحدا في مدينة واحدة، بل هناك نحو عشر دقائق في رام الله، ونحو 40 دقيقة في بغداد، ثم نحو عشر دقائق أخرى في مدينة أربيل. السؤال حول لماذا رام الله وليست بيت لحم؟ أو لماذا أربيل وليست كركوك؟ هو سؤال جائز، إنما لا جواب له في الفيلم. طبعا ربما يعود السبب إلى تسهيلات ما هنا أو هناك، لكن هذا ليس عذرا وعلى أي فيلم أن يبرر وجود المكان قبل سواه.

الكاميرا في المدن الثلاث لها مهمـة واحدة: تصوير ما يحدث في الشارع من فوق (معظم اللقطات فوقية: بائع الكعك الفلسطيني، والشحـاذة ورجل شرطة المرور في بغداد، بائع البسطات وتلاميذ المدرسة في أربيل). والكثير من السيارات وحالات السير. أكثرها فوضى هي تلك التي في المغرب: سيارات تتوقـف عند شارة السير، سيارات تمضي رغم طلب الشرطي توقـفها. سيارات قادمة عكس السير. سيارات إسعاف وسيارات بوليس تتجاوز الجميع. سير ماش وسير واقف والمزيد من السيارات. ثم... مطر. تمطر في رام الله وتمطر في بغداد وتمطر في أربيل فماذا بعد؟

ما الغاية؟ ما المفاد؟ ما السبب؟ ولماذا الفيلم؟ لا يجيب الفيلم. ربما هناك جواب في خلد المخرج لكنه ليس على الشاشة والحكم هو ما على الشاشة. وحين تتوالى هذه الصور من دون ترتيب وبتتابع مضجر وبغياب سياسة مونتاج، فإن المعنى الوحيد لوجودها هو أن المخرج كان أكثر كسلا من أن يتدخل لفرض رؤية أو العمل على تكوين فني ما. هذا في أفضل الأحوال.

* تصفية حساب

* مع فيلم محمد الدراجي هناك حالة أخرى. أفلام هذا المخرج السابقة («أحلام» و«ابن بابل» و«في أحضان أمي») دارت كلـها عن فترة صدام حسين وما حدث خلالها (أو بعدها مباشرة). «ابن بابل»، أكثر من سواه، بدا كما لو أنه تصفية حساب بين المخرج ونظام صدام حسين. طبعا لا يمكن الدفاع عن نظام ديكتاتوري عنيف وباتر، لكن الأفلام المذكورة خصـت تلك الفترة وجمعت لها ما يكفي دهرا من النقد متمحورة حول ذكريات الذات في مواجهة الذاكرة العامة، وعلى الأذى الذي أصاب طائفة معيـنة أكثر من سواها، كما لو كان نير المرحلة المذكورة أصابها دون سواها. لذلك بدا الأمر تصفية حسابات شخصية وليس معالجة سياسية شاملة.. نواحي من المآسي وليس تحليلا لوضع.

«تحت رمال بابل» لا يختلف عنها: قبل أي شيء آخر (قبل العنوان، قبل شركات الإنتاج، قبل اسم الموقع الذي يشغله المشهد الأول) يطالعنا اسم المخرج «فيلم لمحمد جبارة الدراجي». وبعد قليل يأتينا صوته ليقدم لنا حكاية المخرج مع صورة شاهدها منشورة لأم ترفع صور أبنائها المفقودين الأربعة بيد وترفع يدها الأخرى للسماء تطلب العون. وكيف أن هذه الصورة دفعت المخرج لكي يبحث عما حدث لأولادها رغم أن ما سنراه لساعة ونصف الساعة ليس عنهم تحديدا، بل عن جندي اسمه إبراهيم ألقي القبض عليه في الصحراء الجنوبية بعد الانسحاب العشوائي من أرض الكويت، فزج به في السجن العسكري، حيث جرى تعذيبه وضربه بلا هوادة هو وكل من معه. التهمة هي احتمال أن يكون شارك في «تمرد المنصورية»، وهي منطقة شيعية جنوبية تم إخماد تمردها وزج من وصلت إليه أيادي السلطة في السجون، ولاحقا ما أبادته أو تركتـه مدمرا من الداخل أو الخارج. ينتقل الفيلم بين تعذيب إبراهيم وجنود وأفراد آخرين، وبين استجواب المخرج لثلاث شخصيات تسرد تجاربها. هذه الشخصيات ليست بدورها واقعية (على ما يبدو) بل من المرجـح أنها لممثلين، ما يجعل القول بأن هناك جزءا تسجيليا من الفيلم غير صحيح.

هذا الانتقال بين حدث واستجواب لا يخدم صيغة درامية متصاعدة، بل يشكـل حلا اختاره المخرج من باب التفنن، وكان يمكن له أن يكون فنـا في الواقع لو أن عناصر العمل كانت مكتملة. عوض أن تكون، تأتي المشاهد التي أريد لها أن تبدو تسجيلية كتدخل غير مناسب لما يقع في الجانب الأول. إلى جانب أنه يطيل مدة العرض، ليس هناك فيه ما يستحق - بصريا - التمييز. نعم يختار المخرج تصوير هذه الشخصيات من الخلف أولا ثم يقدمها من الوجه لكن هذا يصنع طريقة ولا يؤدي بالضرورة إلى تعزيز الحدث الأول. ذلك الحدث الأول لا يملك حكاية، بل موقفا دراميا متكررا بدوره. الناتج هو فيلم من مشاهد المناجاة والتعذيب وتكرار إظهار صور العنف السلطوي على هؤلاء المساجين. ومع أن هناك طوائف أخرى نعرفها من أسمائها (عبد الرحمن، عمر إلخ...) إلا أن محور هذه الشخصيات هو إبراهيم الذي لم يرتكب ذنبا (كما سواه في الغالب) على أمل أن يؤدي وجوده إلى الإشارة إلى أن السـلطة خصـت - كما الفيلم - تمرد «الشعبانية» (كما أعتقد أنه سمـي كذلك) بالقوة المفرطة والتعذيب الجانح. يتمنـى المرء، كما كانت الشكوى من قبل، لو أن موقف الفيلم (ومخرجه) من العنف موقف يمتد ليشمل رؤية سياسية شاملة. العنف السلطوي ما زال موجودا. جلادو الأمس رحلوا وهناك آخرون حلوا مكانهم. والسجون النظامية حاليا مليئة بالمعتقلين الذين لا يأكلون سوى العلقات الساخنة ولا ينالون إلا التحقير والاعتداءات. لماذا إذن التخصص في فترة واحدة دون سواها؟

هناك جواب مقنع وإزاءه لا يمكن إلا الموافقة ولو على مضض: لأن هذا اختيار المخرج وعلينا منحه حرية هذا الاختيار. لكن المسألة تنتقل بالضرورة إلى سؤال آخر: لماذا إذن على الفيلم أن يقتصر على التعامل العاطفي؟ ولماذا لا يحمل معالجة فنيـة أسمى وأكثر حضورا؟

ربما لأن الجهة المانحة لمعظم التمويل عراقية تتبع النظام؟ وماذا، مرة أخرى، عن ذلك المليون؟ وأين ذهب؟

* سكون مهيمن

* بعض المسألة أن أحدا لم يعد يتحمـل النقد. معظم المخرجين العرب واثقون من أنهم ولدوا بلا أخطاء وأنهم ينجزون تحفا تحيا للأبد. لكن هناك ما يبدد هذا الاعتقاد على الفور، وفي إطار فيلم يتحدث بدوره عن التعذيب وسقوط طائفة من الناس تحت ويلات وقسوة طائفة أخرى. تعال قارن بين الفيلمين تجد أن هناك أكثر من سبيل للتعبير عن مأساة عراقية أو سواها، وما أكثر مآسينا، والفيلم الآخر يتقن واحدة من هذه السبل وبميزانية لم تتجاوز الخمسين ألف دولار.

الفيلم هو «أولئك الذين لا يبوحون بالحكايات» للمخرجة البوسنية ياسميلا جبانفيتش. ينطلق من وصول امرأة أسترالية كسائحة إلى قرية صربية على الحدود البوسنية. تأتي للتعرف على الجمال الطبيعي، ولكي تتمتـع بهدوء المنطقة لتنتقل منها إلى أخرى. ما تكتشفه هو أفظع مما تستطيع تحمـله: السرير في الفندق الذي تنام فوقه هو واحد من أسرة عديدة تم اغتصاب النساء المسلمات اللاتي ألقي القبض عليهن في مطلع الحرب. الجسر الذي تقف عليه هو نفسه الذي تم قتلهن وقتل رجال بوسنيين فوقه حتى «لم يعد بالإمكان السير فوقه بسبب الدم النازف». عند هذا الحد، لم تستعن المخرجة بمشاهد دموية، ولا حتى بشريط صوت يحمل صرخات النساء مثلا. لم توقف العرض السلس والمدهم من باب التفنن في السرد أو المعالجة. الفيلم من أوله (مشاهد للمنطقة والنهر الكبير الساكن) وحتى نهايته (ذلك النهر والجبال الساكنة المحيطة) مرورا بأقسى مراحله يخلو من السذاجة في التضمين أو في التعبير. ما هو مطروح، بفضل معالجة بصرية نافذة ودراية تقنية رائعة، يمر مثل مياه ذلك النهر. الفيلم يحمل هواجس المكان. ذلك السكون الصامت والمخيف. لا مشاهد التحقيق حين يوقف البوليس تلك المرأة الأسترالية فرصة للنيل من نظام، ولا يتحول إلى حساب خاص تفتحه المخرجة البوسنية المسلمة لتقتنص من عنف تعرضت طائفتها إليه على أيدي صربيين مسيحيين. فجأة في فيلم «همس المدن» (الذي هو لا همس ولا مدن) يطلع صوت أنشودة دينية تتقدمها عبارة «يا سيدي الحسين». هذا مفهوم حين يكون الفيلم حول موضوع شيعي بالقصد (لم لا؟) لكن كيف يـنظر إليه حين يخرج بلا سبب على الإطلاق؟ أما زلنا في حضرة فيلم سينمائي، أو دخلنا خطابا طائفيا آخر؟

كلا المخرجين، قاسم عبد ومحمد الدراجي، بل كل مخرج ما زال طريا في مشواره المأمول سيستفيد من مشاهدة «أولئك الذين لا يبوحون بالحكايات» ليدرك أن الشكل عليه أن يأتي أولا. المضمون والنص ثالثا، وبين الاثنين معرفة المخرج بالسبب الذي من أجله يريد أن يصبح مخرجا.