أصوات نسائية مسلمة ويهودية ومسيحية تحتفي في الصويرة بالإرث المشترك

نجمات أضأن سماء مهرجان «الأندلسيات الأطلسية» المغربي

آندريه أزولاي مستشار العاهل المغربي الملك محمد السادس والرئيس المؤسس لـ«جمعية الصويرة موغادور» متفاعلا مع فقرات من الدورة العاشرة لـ«مهرجان الأندلسيات الأطلسية» («الشرق الأوسط»)
TT

بقدر ما أكدت الأصوات الرجالية علو كعبها، فأمتعت جمهور مهرجان «الأندلسيات الأطلسية» بأداء راق وحضور قوي، كانت الأصوات النسائية على الموعد، لتمنح الحضور، متعدد اللغات والأعراق والديانات، لحظات من المتعة الفنية، ومن الإبهار، الذي لم يملك معه المستمعون إلا التصفيق والوقوف مطولا عند انتهاء كل وصلة موسيقية، تقديرا واعترافا بالقيمة الفنية: أصوات نسائية مغربية (أو من أصول مغربية) أو إسبانية، لفنانات مسلمات الديانة، مثل عبير المالك، وزينب أفيلال، ونهيلة القلعي، أو يهوديات الديانة، مثل فرانسواز أطلان، ونطع المقام، أو مسيحيات الديانة مثل استريللا مورينتي.

لقاء نسائي مبهر وعناق فني بين العبرية والعربية والإسبانية، في مهرجان «أندلسي» الروح والهوى، في مدينة قال عنها الكاتب المغربي الراحل، محمد زفزاف، ذات شهادة: «مدينة الصويرة كالمرأة، والمرأة هي القفل والمفتاح معا»، وكتب عنها الشاعر المبدع محمد الصالحي، تحت عنوان: «الصويرة... تلوح كباقي الوشم».. إنك تجد «المدينة السعيدة»، كما يصفها الكاتب المغربي اليهودي الراحل إدمون عمران المالح «نائمة على سرير من حنين وتاريخ».

فعلا، كل شيء في الصويرة يحمل معاني الحنين إلى تاريخ مضى، انسل من بين الأصابع إلى درجة النسيان، قبل أن تتعهده المهرجانات الفنية واللقاءات الثقافية بالعناية، فتستعيده، مثالا ونموذجا في التعايش والحوار، ودافعا لـ«إنعاش الذاكرة واسترجاع نفحات حضارية مشرقة من فترات التعايش والتمازج الثقافي، بدل الصور الكارثية التي أصبحت تتصدر وسائل الإعلام»، كما يقول آندريه أزولاي، مستشار العاهل المغربي الملك محمد السادس، والرئيس المؤسس لـ«جمعية الصويرة موغادور».

تألقت عبير المالك (21 سنة)، القادمة من مدينة طنجة، حيث اكتشف فيها الحضور صوتا مبهرا، قادما بقوة نحو الأضواء والتميز، تماما كما كانت الحال مع نهيلة القلعي (14 سنة)، القادمة من فاس، وزينب أفيلال (23 سنة)، القادمة من تطوان، التي تألقت برفقة فرانسواز أطلان، الفنانة المتميزة والمديرة الفنية للمهرجان، التي أمتعت بعذوبة وسحر صوتها، وهي تؤدي صنائع من نوبات فن المطروز، مزجت ببراعة بين العربية والعبرية، وأمتعت بجمالية الحضور وروعة الأداء.

حضور الفنانة الإسبانية إستريلا مورينتي، مكن جمهور المهرجان من الاستمتاع بموهبة وقيمة الأداء القوي، لمغنية الفلامينغو، عبر أداء تميز بالشدة والرقة والصخب والهدوء والتغيير في خامة الصوت، وظفت خلاله إستريلا جميع الإمكانات الصوتية التي تمتلكها بشكل تعبيري متفرد.. هي الفنانة التي تنحدر من أسرة فنية، فوالدها هو مطرب الفلامينغو الشهير إنريكي مورينتي، ووالدتها هي راقصة الفلامينغو، أورورا ثيربونيل.

جمهور مهرجان «الأندلسيات الأطلسية»، الذي صفق بحرارة للإبداع المتميز، عبر مقاطع المطروز، ذلك الفن القائم على براعة الكلمات المنسوجة، في تناغم مستوحى من إرث فني أندلسي متعدد، استمتع بالحضور القوي لصوت أطلان، «الطري» و«الحارق»، في الآن نفسه، الذي يلامس القلوب، مؤكدا قيمة الصوت وتميز صاحبته.

وتعد أطلان من أبرز الأصوات القوية التي تميزت في أداء أغاني التراث العربي اليهودي الأندلسي، وقد اعتادت استضافتها في عدد من المواعيد الموسيقية العالمية الكبرى. وبفضل ثقافتها المزدوجة وتخصصها الفني وقوة صوتها وأسلوبها المميز في الأداء، واستفادتها من أصولها، وحسن توظيفها التراث الصوتي الموسيقي الأندلسي، استطاعت أن تحصل على جوائز بصيت عالمي.

الأصل المغربي للفنانة الشابة، يهودية الديانة، نطع المقام، كان له، هو الآخر، حضور لافت في أدائها الفني المتميز، حيث اكتشف فيها الجمهور وجها فنيا يندمج إلى أقصى حد مع الأداء والطرب، مستعيدا جذوره، خاصة عند أدائها أغنية «الدار البيضاء»، التي أهدتها، من الصويرة، إلى جدها، الذي عشق مدينة يصفها عدد من المغاربة بـ«قلب المغرب وكبرياؤه». في أغنيتها، أنشدت نطع المقام، بفرح غامر وجسد غارق في الحياة، تتلاعب به الإيقاعات المغربية الجميلة، أن «بلادي ما أحلاها.. بلادي ما أنساها». وحين تتحول الأغنية، في بعض اللحظات، إلى شريط يستعيد تاريخا مضى، بناسه وأحداثه ودفئه، نكون مع عبارة عربية اللغة بنكهة عبرية، تقول: «عيشة لْذيذة (بتسكين اللام) وأيام سْعيدة (بتسكين اللام)... في الدار البيضاء».

وعن سر الحضور المتميز للأصوات النسائية المشاركة، قالت فرانسواز أطلان، لـ«الشرق الأوسط»، إن ذلك «يدخل ضمن الفلسفة العامة للمهرجان، الذي هدف، منذ بدايته، إلى إبراز أهمية الوحدة ضمن التعدد، التي ميزت تاريخ المغرب»، مشددة على أن «المغرب محظوظ بتنظيم (مهرجان الأندلسيات المتوسطية)، الذي لا يمكن أن تجد له مثيلا في أي مكان آخر من العالم، يتقاسم، خلال فعالياته، فنانون مغاربة، من الديانة اليهودية ومن الديانة الإسلامية، الخشبة نفسها والمتعة الفنية نفسها، مستعيدين تاريخا ميز منطقة الغرب الإسلامي، عاش خلاله اليهود والمسلمون في وئام وتناغم وتقاسم».

ورأت أطلان أن ما يقدم في الصويرة يبقى أشبه بـ«المعجزة»، كما أن الحدث «حقق حلم عدد من المغاربة، ذوي الديانة اليهودية، في زيارة المغرب والمشاركة في مهرجانات بلد لم يقطعوا معه الصلة، حيث يتمكنون من التشبع بثقافة المغرب وإغناء رصيدهم الفني، من خلال اللقاء برموز الموسيقى الأندلسية والتعرف إلى شبابها الصاعد. فإلعاد ليفي، مثلا، ينحدر من (تارودانت) ونطع المقام تنحدر من (تنغير)، بالمغرب، ومشاركتهما في مهرجان الصويرة، مكنتهما من العودة إلى الجذور والتعرف، عند قرب، على مميزاتها الثقافية والحضارية».

وعن هذا العناق الفني بين اللغات والديانات، قالت أطلان: «ما تأكد من خلال تعامل الفنانين فيما بينهم وطريقة تفاعل الجمهور مع الحفلات المبرمجة أن كل واحد منا يحمل داخله شيئا من الآخر، فداخل المغربي المسلم يوجد شيء من اليهودية ومن العبرية، وكذلك المغربي اليهودي، يوجد داخله شيء من الإسلام وكثير من العربية. وقبل كل هذا وبعده هناك المغرب؛ الأرض التي نتقاسمها جميعا، الغنية بحضارتها وتسامحها وطريقة التعايش التي ميزتها، على مدى عصور من تاريخها».

ولم يقتصر الحضور النسائي اللافت، الذي عرفته الدورة العاشرة من مهرجان «الأندلسيات الأطلسية»، على الغناء، بل برزت، أيضا، فقرة «صباحيات المنتدى»، حيث جرى تقديم المسار الفني للسينمائية المغربية، يهودية الديانة، إيزا جنيني، من خلال عرض ثلاثة من أفلامها: «مدح وثناء» و«تراتيل المطروز» و«قرع الطبول». إيزا، التي جعلها إحساسها بالانتماء إلى البلد الذي قضى فيه أجدادها وآباؤها حياتهم وقضت فيه طفولتها، تنجز ما يناهز 17 شريطا وثائقيا حول المغرب وثقافته. وولدت إيزا سنة 1942، بالدار البيضاء، وانتقلت إلى فرنسا سنة 1960، وهناك درست الآداب واللغات، وفي منتصف عقد الثمانينات من القرن الماضي، انخرطت في الإخراج السينمائي، خاصة الأفلام الوثائقية. ومن أبرز أفلامها نجد: «البحث عن أولاد مومن»، الذي تحكي فيه تاريخ عائلتها التي كانت تقطن منطقة «أولاد مومن»، قرب «واد الحجر» بنواحي مراكش، التي انتقلت إليها من منطقة الرحامنة، قبل أن تنتقل منها إلى بلدة الكارة، ثم إلى الدار البيضاء، لتوزعها مناطق مختلفة من العالم، من المكسيك إلى أوروبا، مرورا بكندا.