مسلسلات الرعب على الشاشة الصغيرة.. من ظاهرة إلى موجة ناجحة

التلفزيون الأميركي يعد بيتاً له

(الموتى - السائرون) .. نجاح كبير
TT

في الأول من أكتوبر (تشرين الأول) سنة 1984 تم بث الإرسال الأول لمحطة اكتفت بأحرفها الأولى (AMC). محطة فضائية غير مشفرة ترمز أحرفها الأولى إلى (American Movie Classics)، وهي عنيت بالتخصص في عرض الأفلام القديمة البارزة وسجلت حضورها الأوسع بين جمهور من الذين تقاعدوا أو اعتادوا مشاهدة أفلام الزمن الغابر.

في اليوم الأول من ديسمبر (كانون الأول) عام 1990 أخذت تبث 24 ساعة في اليوم، لكن التطور الحقيقي طرأ في عام 2002 عندما أخذت منهجا جديدا يحث على إنتاج برامج ترفيهية متنوعة، بعضها له علاقة بالأفلام وبعضها الآخر لا يمت إلى «بزنس» السينما إلا لماما.

لكن الخطوة الأساسية وقعت سنة 2006 عندما أقدمت المحطة على أول إنتاج كبير لها، مسلسل تلفزيوني قصير (يسمونه «min – series» وتستمر حلقاته لما بين ثلاثة وخمسة أيام) بعنوان «Broken Trail» الذي قام ببطولته روبرت دوفال وتوماس هايدن تشيرش. النجاح الذي حققه المسلسل لم يكن عاديا لا بين النقاد ولا بين الجمهور ولا بين موزعي الجوائز من «غولدن غلوبس» إلى «إيماي» التلفزيونية. هذا المنهج اشتد عضده حينما أقدمت بعد ذلك على تقديم مسلسل درامي بعنوان «انهيار سيئ» أو «Breaking Bad» الذي أنجز نجاحا مماثلا. لكن النجاح الأكبر هو الذي حققته عندما أنتجت وبثت المسلسل المرعب «الموتى السائرون» أو «The Walking Dead» سنة 2010، والذي قامت إدارة المحطة، وتبعا لنجاح كبير غير مسبوق لها على الأقل، بتجديد عقد إنتاجه للعام التالي بينما لا يزال يحصد المسلسل إقبالا كبيرا من قبل المشاهدين.

الرعب الكوميدي «الموتى السائرون»، الذي يتحدث عن مستقبل قريب يتحول فيه معظم البشر إلى ناهشي أبدان وآكلي لحوم بشر بينما تسعى شخصياته الرئيسة للبقاء على قيد الحياة بكل وسيلة متاحة، هو واحد من برامج الرعب التي أخذت تنتشر سريعا على شتى المحطات العاملة. بعض هذا الانتشار يعود بلا ريب إلى نجاح «الموتى السائرون» والبعض الآخر - يقول مسؤولوه - كان قيد التطوير حتى من قبل عام 2010. لكن بصرف النظر عن هذه الناحية، فإن ظاهرة مسلسلات الرعب التلفزيونية تطورت وأصبحت موجة أو تيارا. اليوم هناك الكثير من هذه البرامج موزعة على أكثر من محطة أرضية وفضائية وتعرض ضمن إطار واضح من الاهتمام والإقبال.

ليس لأن التلفزيون لم يعرض من قبل ما هو مرعب، لكنه مر بمراحل مختلفة في هذا الإطار. بداية، لم يكن ممكنا، في الخمسينات والستينات، عرض أفلام مفزعة على الشاشة الصغيرة. كان الأكثر انتشارا هو الأفلام والمسلسلات البوليسية ورعاة البقر. لكن في الستينات قامت محطة «CBS» الأرضية بإنتاج وبث مسلسل بعنوان «ذا منسترز» الكوميدي الذي قام على استعارة شخصيات رعب كلاسيكية (مثل «الرجل الذئب» و«دراكولا» و«فرانكنستين») ووضعهم في معالجة كوميدية.

في السياق ذاته، قامت محطة «ABC» المنافسة وفي السنة ذاتها ببث حلقات كوميدية أخرى تدور حول عائلة من الشخصيات الشريرة عنوانها «عائلة أدامز». مثل «ذا منسترز» كانت الأجواء الداكنة والشخصيات المخيفة محلاة بالكثير من السكر لأجل تحويلها إلى برنامج ترفيهي ضاحك فقط.

الذي تغير منذ ذلك الحين هو الجمهور. الجيل السابق لم يعد حضوره يشكل كثافة إعلانية. الجيل الوسط وما بعد له ملكية القنوات، وهو جلس في البيت لكي يتابع ما تعرضه صالات السينما من أفلام، بما في ذلك، وربما أساسا، أفلام الرعب والخيال العلمي والأفلام العاطفية الساخنة، بما فيها العلاقات الشاذة بين المثليين.

«الموتى السائرون» لم يكسر تقليدا فقط، بل بدأ موجة استفادت من الانفتاح الاجتماعي غير المسبوق بحيث ما عادت رؤية الدم والعنف والوحشية من الأمور غير المستساغة على الشاشة الصغيرة (بعدما كانت أساسا ممنوعة)، بل من تلك المطلوبة.

استعارات أخرى حاليا ينتقل «دراكولا» إلى الشاشة الصغيرة مزودا بتحديث يأمل من خلاله أن يجلب للجمهور الجديد قليلا من اللون السابق من الرعب، لكن المسلسل الجديد يمر بعنق الزجاجة حتى قبل أن يرسخ وجوده. فهو يأتي في غمار انتشار موجة مصاصي الدماء في كل أشكال الوسطين الفني والترفيهي بحيث وجود دراكولا بينها لم يعد مثيرا كما كان الحال قبل عقود.

إلى ذلك، فإنه مع الرغبة في تحديث الإطار باستخدام المؤثرات التقنية والديجيتال، إلا أن المسلسل اختار لنفسه العودة إلى عام 1896 لكي يحكي عن دراكولا «قديم». صحيح أنه نقل الأحداث من جبال رومانيا وقلاعها إلى لندن وشوارعها، لكن ذلك كرس خطر أن لا يستجيب للمسلسل الجديد إلا فئة النوستالجيين.

الحلقة الأولى منه، التي بثت في الخامس والعشرين من الشهر الماضي، كانت واعدة فنيا، وهو ما لا يمكن أن يقال بثقة عن «موتيل بايتس» الذي هو إعادة صنع لمسلسل سابق تم إنتاجه عام 1986، حينها تم مزج الرعب بالكوميديا والمواقف الدرامية ذات اللون الترفيهي، لكن الحلقات الجديدة هي أكثر جدية. مصدر الفكرة فيلم «سايكو» لألفرد هيتشكوك المأخوذ سنة 1960 عن رواية روبرت بلوك، وما تتمحور حوله هو شخصية الشرير المنفصم نفسيا نورمان بايتس. على الشاشة الكبيرة قام الراحل أنطوني بيركنز بتمثيله (ليشتكي لاحقا من أن هذه الشخصية لاحقته وحدت من تنوع أدواره ونجاحه)، أما الآن فيقوم ممثل شاب باسم فريدي هايمور بتأديته في حين تؤدي الممثلة المعروفة فيرا فارميغا دور أمه. تبعا للفيلم السابق على الأقل، لا نرى الأم مطلقا، بل يوهمنا هيتشكوك بها لأن بطله المعقد نفسيا وجنسيا يرتدي ملابسها ويقتل بإيحاء منها من دون أن يكون لديه إدراك حقيقي لما يقوم به. وجود أمه في هذه الحلقات يعني أن الحكايات التي سنشاهدها تباعا في هذا المسلسل تعود إلى ما قبل بدء حكاية الفيلم نفسه.

مثله على أكثر من وجه، «هانيبال»، فهو بدوره مسلسل مرعب، ومثله مقتبس عن شخصية سينمائية مستوردة من كتاب توماس هاريس، ومثله يحكي حكايات تتجاوز ما ورد على الشاشة الكبيرة. يقوم بالدور هنا ماس ميكلسن، الممثل الدنماركي المعروف. حين سألت الممثل أنطوني هوبكنز، الذي قام بأداء الشخصية ذاتها على الشاشة، رأيه في هذا الاختيار أثنى عليه وقال: «لا أعتقد أن هناك كثيرا من الممثلين الذين يستطيعون تقديم أداء مقنع لشخصية هانيبال لكتور. ماس ميكلسن من القلة».

سبق هذه الأعمال ظهور ناجح آخر لمسلسل ما زال مستمرا منذ عام 2011 هو «قصة رعب أميركية» الذي يوفر لمحبي النوع حكايات مختلفة أبطالها يموجون بين الواقع والخيال كما تتراوح الحلقات ما بين الرعب والخيال العلمي.

على السطح لا يتغير الكثير مما سبق لنا وأن شاهدناه مرارا: حكاية البيت الجديد الذي ينتقل إليه أفراد عائلة صغيرة ليكتشفوا أنه مسكون بالأرواح. لكن الحلقات اللاحقة منحت الفكرة احتمالات كثيرة ووزعت الأحداث بين شخصيات كثيرة بحيث لم تعد المشكلة منحصرة بتلك الشخصيات، بل امتدت لتشمل ما يشبه الحكاية المنفصلة لكل حلقة، وعلى نحو معين، لأكثر من شخصية. وبينما انقسم النقاد حيال البرنامج (البعض اعتبره قاصرا على لوك الحكايات والبعض الآخر اعتبر أنه تجديد جيد لها) توزعت الأدوار الرئيسة على ممثلين جيدين في المقدمة دايلان مكدورمت والممثلة جسيكا لانغ وسارا بولسون.

المخرج ريدلي سكوت، الذي حقق لجانب «هانيبال» في نسخته السينمائية، قال لنا حين سألناه رأيه في هذا الانتشار الواضح لأفلام الرعب على الشاشة الصغيرة: «لم أشأ أن ارتكب خطأ تحقيق (هانيبال) للتلفزيون حين عرض علي الأمر. وقتما تحقق مثل هذا الفيلم للسينما، يتقلص كل شيء آخر وتدرك أنك اخترت الوسيط الصحيح لهذه القصة. لكن هذا لا يمنع من أني أعجبت بالعمل على الرغم من أنه يختلف كمناخ درامي عن السلسلة السينمائية التي تقدمته. أما من حيث الانتشار بحد ذاته فهو، في اعتقادي، لا يزال في حدود الموجة التي قد تتوقف غدا أو تستمر لسنوات قادمة».