النسابة الكيلاني: ورثنا منذ قرون مستندات ورقع الأنساب في المنطقة والجزيرة العربية

حفيد أشراف بغداد يقترح على السعودية إنشاء أكاديمية متخصصة في علم الأنساب

النسابة ميعاد الكيلاني في مكتبته ببغداد («الشرق الأوسط»)
TT

يعتبر علم الأنساب، أي إعادة الشخص إلى أصله وفصله ومعرفة جده الأول ونسبه، من العلوم المعقدة والمتداخلة مع اختصاصات واهتمامات ووثائق تاريخية. فنحن مثلا نعرف أن فلانا أصله من القبيلة أو العشيرة الفلانية، وأن جده الأول فلان، لكننا لا نعرف كيف تمت إعادته إلى نسبه، وكيف تم رسم شجرة عائلته، وعلى أي وثائق تم الاعتماد من أجل تصديق هذا النسب أو ذاك. الأكثر من هذا أن الإعلام لم يتناول الحديث عن علم الأنساب بإسهاب ليعرف المتلقي بأهمية هذا العلم، لا سيما في منطقتنا العربية التي تحتكم للمجتمع العشائري وأخلاقه، ويهمها نسب أفراد هذه المجتمعات.

النسابة العراقي، وهكذا يلقب من يتبحر بهذا العلم ويعيد أنساب الأشخاص والناس إلى أصولها، ميعاد شرف الدين الكيلاني، الذي يعود أصله إلى الشيخ عبد القادر الكيلاني، يفتح أمام قراء «الشرق الأوسط» أبواب التعريف بطلاسم وأسرار هذا العلم الثمين، فهو حفيد زكريا الكيلاني، نقيب أشراف بغداد المتوفى سنة 1814 في بغداد «وكان متوليا لأوقاف الحضرة القادرية من آل شامية الكيلاني الحسني البغدادي»، معرفا بنفسه بأنه «من مواليد بغداد سنة 1956، ولي من الأجداد أحد عشر نقيبا تولوا نقابة أشراف بغداد من سنة 1638، وحتى سنة 1842، وذكرت تفاصيل سيرتهم في كتابي (تاريخ النقباء) الذي صدر في بيروت عن دار الكتب العلمية، وحصلت على الماجستير في التاريخ وتحقيق المخطوطات سنة 1994، ولي من المؤلفات عشرة كتب منها (الرحلة العراقية) و(تاريخ محاسن بغداد) و(تاريخ النقباء)، و(قطب بغداد)، وغيرها.. وهناك كتب أخرى تحت الطبع، وأقوم بتدريس التاريخ وتحقيق المخطوطات لطلاب الدراسات العليا من مستوى ماجستير والدكتوراه، ويدرس على يدي عدد من الطلبة لنيل الإجازة في علم الأنساب»، منبها إلى أن «إجازتي في الأنساب أعلى إجازة في المنطقة لأن سندها متصل بـ11 نقيبا من نقباء أشراف بغداد، أخذتها عن والدي وعن ابن عمي، وأنا عضو في اتحاد المؤرخين العرب وفي الهيئة العربية لكتابة تاريخ الأنساب».

ويوضح الكيلاني بشأن إعادة النسب إلى أصوله، قائلا إن «النسب عموما يخضع لقواعد ثابتة، أولاها الرقعة القديمة المصدقة والمختومة، ثم المشتهر من النسب بين القبائل والعشائر على ما هو متواتر، ثم شهود عدول. هذه هي القواعد العامة وتبقى هناك تفاصيل وهي مهمة أيضا منها كيفية إيصال البطن أو البيت بأصل القبيلة وبالرقعة القديمة، علما بأن الكثير من الرقع القديمة للقبائل والعشائر العربية في العراق والشام والسعودية والخليج محفوظة لدينا ورثناها عن أجدادنا من نقابة أشراف بغداد القديمة والتي دامت لقرون». ويشير النساب الكيلاني إلى أمر مهم هنا وهو أنه «قد يحدث أن الرجل (النساب) لديه شهرة وشهود ورواية إلا أنه لا يملك سندا أو رقعة، وهنا يأتي دور النسابة الوارث للمستندات القديمة، فيمكنه أن يستخرج سندهم من المحفوظات لديه، ونشير هنا إلى أن القبائل ليست لها علاقة بالحدود، ونقصد بذلك أن القبائل الكبيرة مثل حرب وتميم والدواسر وبني خالد وعنزة والرولة وغيرها يتوزع أبناؤها على دول عديدة على الرغم من كونهم من أصل واحد وجد جامع، فلا اعتبار للحدود بين القبائل».

وعن دقة معرفة النسب، يقول الكيلاني «نحن نجتهد بكل طاقتنا أن يكون النسب بمستوى دقة 100 في المائة، من خلال خبرتنا والموروث والوثائق والطوامير والمخطوطات القديمة، لذا فنحن نحاول بكل الوسائل أن نصل إلى مستوى الاطمئنان التام في صحة النسب، وقد يستغرق ذلك لدينا في بعض الأحيان فترة طويلة من أجل تحقيق هذه المصداقية، ولكن في النتيجة نحصل على نسب ليس فيه ثغرة، ولربما هدفنا من هذه الجهود هو صلة الرحم، فالنسابة الصادق في عمله أجره عند الله سبحانه وتعالى لأنه يوصل الأرحام المنقطعة بأهلها وذويها، ويقرب البعيد، فتعم الرحمة بعد رحمة الله في مجتمعاتنا، وهذا خير كثير».

وفي ما يتعلق بالتعريف بالنسابة وما يتمتعون به من صفات، يوضح الكيلاني بقوله «النسابة هو العالم المحقق بأنساب القبائل والعشائر وأصولها والمجاز بإجازة عالية الإسناد، أما عن صفاته فهناك صفات واجبة وأخرى محببة، فأما الواجبة فأن يمتلك الأعلمية وله دراية ورواية بالأنساب القحطانية والعدنانية، وأن يعرف المؤتلف والمختلف من أسماء القبائل وبطونها، ويجيد منتقلة القبائل ويعرف مواضعها الأولى، وثانيا أن يكون النسابة تقيا نقيا أي صاحب دين وصلاح، وثالثا شجاع القلب لا يخاف تهديدا أو ضغطا ولا يخضع لإغراء دنيوي، والصفة الرابعة هي العدل أي لا يحابي أحدا ولا يجافي أحدا، فالناس لديه سواسية مثل أسنان المشط، وبذلك لا يخضع قراره لمزاج أو هوى»، مستطردا «أما الصفات المحببة فمنها أن يكون من بيت حسيب عريق اختص أهله بالأنساب، واسع الاطلاع كثير القراءة، رحب الصدر، صبورا، ودمث الأخلاق، وغيرها من الصفات الحسنة في الرجال فهي من المكملات المحببة».

وينبه النسابة الكيلاني إلى أمر يعتبره في غاية الأهمية، وهو أن «الكثير من الناس ولربما بعضهم من شيوخ القبائل وعلية القوم يتوهمون أن النسابة جميعهم من مستوى واحد، وهذا خطأ شائع، ووهم كبير، فالنسابة درجات ومستويات، تبدأ من أدنى مستوى وهي للنسابة المبتدئ، ويسمى النسابة الجامع ثم النسابة الباحث ثم النسابة الرحالة ثم النسابة المحقق، وآخرها النسابة المحقق الثبت، وهذه المستويات لا تكتسب إلا بعد سنين طويلة من الدراسة والبحث والجمع والعمل ليصل إلى هذا المستوى، وهنا يحدث الإرباك في أن بعض الناس يراجعون النسابة ولا يعرفون من أي مستوى هم، فينتج عن ذلك عمود نسب مهلهل تدور حوله الظنون وقابل للطعن وفيه ثغرات، لأن الذي عمله لهم ليس بالمستوى المطلوب، أما ختم النسابة المحقق الثبت فهو ختم قطعي يعتمد عند الجميع، خال من الأخطاء والثغرات».

وللنسابة الكيلاني همومه التي تتعلق بالحفاظ على هذا العلم وتطويره خشية عليه من الاندثار أو التشويه، يقول «الحقيقة أن علم الأنساب لم يصل بعد إلى الدرجة القطعية، على الرغم من كونه من أقدم العلوم العربية التي عرفها العرب من فترة ما قبل الإسلام، وهذا ما دفعنا إلى تقديم ورقة متكاملة عنوانها (علم الأنساب.. من الظنية إلى العلمية)، وهذه الورقة اليوم موضع اهتمام النسابة، ودعوت فيها إلى إسعاف هذا العلم بالموارد والمناهج العلمية كما فعل الفقهاء والمحدثون من قبل بإسنادهم رواياتهم بإسناد عال، وأقترح هنا وللأهمية أن تبادر المملكة العربية السعودية، باعتبارها مهد غالبية القبائل العربية التي انتشرت فروعها وأفخاذها من هناك إلى باقي أنحاء العالم العربي، إلى إنشاء كلية أو أكاديمية متخصصة في علم الأنساب، ويدرس فيها كذلك علم الاجتماع والتاريخ للعلاقة المتداخلة بين هذه العلوم»، مشيرا إلى «انني اقترحت إدخال منهج الإسناد على خط علم الأنساب، كما قدمت مقترح تطوير عمود النسب الأصم المعمول به اليوم إلى عمود النسب الناطق، كما طورت ما يسمى بـ(المشجر الجامع) للقبائل العربية، والذي به يمكن أن يهتدي العربي أينما يكون إلى نسبه وحسبه بسهولة ويسر، لذا فإننا نجتهد في تطوير علم الأنساب الموروث إلى علم يعترف به رسميا في الجامعات والكليات، كما أقترح أن يقام الاتحاد العربي للنسابة ليتولى تنظيم أمورهم ومنح المؤهلين منهم إجازات رسمية بعد امتحان شامل وتمحيص وتدقيق، ونعتقد أن هذه الخطوات لو تمت من شأنها أن تضع هذا العلم على عتبة العلوم الأخرى».

وفي إجابته عن سؤال يتعلق بأهمية أن يعرف الشخص نسبه، قال «لو علم أصحاب الشأن وأولياء الأمور في مجتمعاتنا بالعوائد والفوائد الكبيرة من الأنساب، لوضعوه موضع العين عندهم، لأن الأنساب رادع قوي عند الرجال وأبناء القبائل، حاله حال باقي الروادع الإسلامية والأخلاقية، فالكثير من الرجال لا يرتكبون العمل المشين لأنهم يخافون من إلحاق العار والشنار بنسبه وعائلته وقبيلته، ونحن من منطقة تعتبر من المناطق القبلية والعشائرية، ومثل هذه الروادع تعمل عملها فينا، لذا فإن للأنساب فوائد كثيرة في تحقيق الأمن الاجتماعي وسيادة الأمان، وهذا الأمر لم يلتفت إليه الكثير».

وحول سعة علاقاتهم عربيا يقول النسابة الكيلاني «تربطنا علاقات وثيقة وتاريخية مع قبائل الجزيرة والمنطقة ومنها المملكة العربية السعودية والخليج العربي، وعلاقاتنا القديمة بها تعود إلى أجدادنا منذ أكثر من قرن، وكانت قبائل السعودية والخليج تدخل البصرة وبغداد لغرض التجارة وتصديق أنسابها لدينا، وورثنا الكثير من الوثائق من مستندات وطوامير ورقع في الأنساب خاصة بهم، وغالبيتها غير متوافرة عندهم، وهي في الحفظ والصون، إلا أن الأمر تبدل قبل عقود بسبب السياسة وهذه السياسة هي التي خربت كل شيء»، مشيرا إلى أن «هناك الكثير من شيوخ القبائل ورؤساء وعمداء البيوتات الكبيرة والعريقة يراجعوننا لتصديق أنسابهم أو لإضافة جيل من ذراريهم إلى عمود النسب القديم أو عمل مشجرات أو للاستفسار أو الحصول على استشهاد نسبي، وأختامنا الجارية على هذه الأوراق موضع احترام لدرجة أن بعضهم يضعها في صدر الديوان أو المضيف، وهذا يكفينا والحمد لله».