«مركز حيدر علييف».. وجه باكو الثقافي الجميل

زها حديد تقدم لأذربيجان تحفة بكل المقاييس المعمارية والهندسية والشاعرية

يقف المركز شامخا ومتحررا بين بنايات تذكر بالعهد السوفياتي (تصوير: إيوان بان)
TT

لو حضر اليابانيون يوم الثلاثاء الماضي إلى باكو، عاصمة أذربيجان، يوم افتتاح مركز حيدر علييف، ولمسوا روعته عن قرب، لما فكروا في تقليص حجم الملعب الأوليمبي، الذي كان مقررا أن تنفذه المعمارية زها حديد تزامنا مع دورة الألعاب الأوليمبية في عام 2020. ولما وصل الجدل إلى قبة البرلمان لمناقشة ميزانيته الخيالية التي تقدر بـ3 مليارات دولار أميركي. المشكلة التي يواجهها المشروع الياباني، كما مشاريع كثيرة أخرى، أن الميزانية التي ترصدها حديد تكون في الغالب ضخمة، تتوازى مع حجم خيالها وقدراتها الإبداعية، الأمر الذي لا يفهمه البعض وعانت منه زها حديد طويلا. فالإبداع لا يقدر بثمن، وأي تنازلات في الميزانية تؤثر على النتيجة النهائية وليس فقط على سير العمل، أو هذا على الأقل ما تؤمن به المهندسة المعمارية المبدعة، التي ترفض أي تنازل يمكن أن يمس أي عمل يحمل اسمها. في مركز حيدر علييف أكدت عمليا أنها على حق، فهو تحفة فنية بكل المقاييس المعمارية والهندسية والفنية وحتى الشاعرية، بنعومته وسلاسته وانسيابيته. حتى أعتى المهندسين المعماريين، الذين حضروا افتتاح المركز وكانوا متحفزين للانتقاد، لم يكن أمامهم سوى الاستسلام والاعتراف بأنها تفوقت على نفسها هذه المرة.

الفضل يعود إلى أن الحكومة الأذربيجانية لم تبخل عليه بشيء، ومنحت زها مطلق الحرية لكي تصرف وتتصرف حسبما يجود به خيالها. المهم أن تمنحهم رمزا وطنيا يتفاخرون به أمام العالم، ويستعرضون من خلاله نهضة العاصمة باكو الثقافية والاقتصادية والفنية. وإذا كان بالإمكان، لا بأس أن يرمز أيضا إلى قطعهم الحبل السري الذي ربطهم لفترة طويلة بالحكم السوفياتي، الذي لا تزال معالمه واضحة في هندسة بعض المعالم الصارمة والجامدة. ربما لم تكن هذه التعليمات مباشرة بهذا الشكل، لكن زها حديد قرأت بين السطور وفهمت المقصود. والطريف أنها كانت قد تأثرت في بدايتها بأعمال المعماريين الروسيين الطليعيين الذين حاربهم النظام السوفياتي، وأجهض أعمالهم لصالح القوالب الكلاسيكية الصارمة التي كانت أكثر انسجاما مع سياسته. في العشرينات والثلاثينات من القرن الماضي، اختفت هذه الحركة الطليعية تقريبا ولم تتجسد رؤية هؤلاء المعماريين إلى حد الآن. زها حديد هنا تعيد لهم الاعتبار برؤيتها التي ترفض القوالب التقليدية وكل ما يمت للنظام السوفياتي القديم بصلة.

عندما تحط بك الطائرة في باكو، وتتجاذب أطراف الحديث مع الدليل المكلف بمرافقة ضيوف زها حديد، ينتابك شعور بأنك صرت جزءا من عملية «بروباغاندا» قوية تستهدف إيصال رسالة إلى العالم تقول فيها بأن باكو «وصلت».. بأنها عاصمة غنية بثقافتها ومعانقتها كل الأديان، وليست مجرد عاصمة قوقازية غنية بالنفط فحسب. وبما أن المعماريين أصبحوا في العقود الأخيرة، وسيلة تعتمدها الدول والحكومات لتلميع صورها بخلق معالم جديدة أشبه بالأيقونات ترمز إلى تقدمها الاجتماعي والثقافي وتخلصها من أي إيحاءات سلبية قد تكون ارتبطت بها في السابق، لم تجد العاصمة باكو، أفضل من زها حديد لكي تحقق لها مبتغاها وتشبع طموحها. فالمصممة البريطانية العراقية الأصل، تتمتع بلغة قوية وجريئة لا تعترف بالحل الوسط، وهذا هو المطلوب عندما تريد اختصار المسافات. فهي كما قال لارس موللر، مؤلف كتاب خاص عن مركز حيدر علييف: «لا تكتب بيانات رسمية.. بل تبنيها بالإسمنت والحديد».

المطلوب كان أكثر من مجرد مبنى وظيفي عملي، بل معلما يستهوي الكل، وتطبعه لمسة ديمقراطية ترمز إلى الإيقاع الجديد الذي تعيشه البلاد، كما تركز على صورته كبلد متقدم يتمتع باقتصاد قوي ويطمح لتحقيق المزيد من الإنجازات. لهذا كان من الضروري أن تضع زها حديد بصمتها القوية لكي تضعه على الخريطة كواحد من أهم المعالم الثقافية والسياحية. لتحقيق ذلك، كان من المفترض ألا يكون خانقا أو صارما بل مغريا وجذابا بآيديولوجية معمارية معاصرة، الأمر الذي أنجزته بسهولة، إلى حد القول: إن المركز «كان ثمرة حب» جمعت بينها وبين باكو العاصمة الأذربيجانية. هذه الأخيرة عبرت عن حبها بالانحناء احتراما لابنة العراق ومنحها ميزانية مفتوحة من دون أن تناقشها فيها، وفي المقابل، عبرت هي عن امتنانها بإعطاء باكو قطعة فنية ستظل شاهدة على حقبة مهمة من تاريخها. هذا التاريخ الذي يتأرجح حاليا بين إرثه الآسيوي الشرقي ورغبته في التواصل مع الغرب والتخلص من الخيوط البيروقراطية التي ربطته بالاتحاد السوفياتي سابقا.

وبالفعل، منذ الآن يستحيل عليك زيارة باكو من دون أن يستوقفك «مركز حيدر علييف» من الخارج ويشدك إلى دخوله واستكشاف ما تحتويه جوانبه الملتوية والممتدة على طول النظر من شفافية، معتمدا على البياض حينا، وعلى المساحات المفتوحة والإضاءة الطبيعية حينا آخر. لقد كان مهما أن يعكس المركز فكرة الانفتاح والشفافية. ومن هنا كان من الضروري التخلص من أي جدران يمكن أن تؤثر على هذه الشفافية، وأي حواجز من شأنها أن تخلق نوعا من العزلة، الأمر الذي يميز أسلوب زها حديد ويظهر في كل أعمالها تقريبا.

«ليست هناك أسوار أو أبواب.. كل شيء مفتوح ليكون امتدادا للبيئة المحيطة بالمبنى» هذا ما قاله سافيت كايا بكيروغلو، المهندس المنفذ للمشروع، مضيفا: «من الخارج يبدو المبنى واحدا ومتجانسا بأجزائه الثلاثة، التي تضم المسرح وقاعة المؤتمرات والمكتبة، لأن الفكرة كانت خلق مكان لا تشعر فيه بالحواجز.. مكان ينساب بسلاسة وكأنه واحد». اللافت في منظر المبنى من الخارج أنه يبدو كأنه لا يرتكز على أي أساسات، كما هو الحال بالنسبة للبنايات التقليدية، باستثناء جزء صغير جدا شبه دائري لا يتعدى المتر الواحد. يفسر سافيت هذا الأمر وهو يبتسم بفخر: «هذا ما أطلقت عليه تسمية قدم رودولوف نورييف (في إشارة إلى راقص الباليه الروسي الشهير) لأن المبنى كله، بمساحته التي تقدر بـ57.000 متر مربع وارتفاعه الذي يصل إلى 80 مترا، يبدو واقفا على هذا الجزء الصغير فقط». الوصف بكل شاعريته، التي ربما لن توافق عليها زها حديد علنا، خوفا من أن تتهم بالضعف في عالم ظل طويلا حكرا على الرجال، يعود إلى الذهن كلما توغلت في داخل المبنى، إلى حد أنك في كل دقيقة تشعر كم هو في محله. كل شيء في داخل المركز ينساب بخفة ونعومة سواء من حيث بياضه ومواده المتنوعة والمتجانسة مع بعض، أو من حيث الأشكال الرشيقة التي تنحني أو تتمدد لتوصلك إلى فضاء آخر يتلوى بدوره مؤديا بك إلى ركن آخر، تماما كما يتلوى راقص باليه أو ينحني أو يمد يده. الفرق هنا أنك جزء من هذه الرقصة. حتى زها حديد نفسها لا تنكر أن ديناميكية المكان تكمن في نعومته وانسيابية انحناءاته. فالمبنى، الذي ستكتب في سجلها أنه «عمل مشترك» قادته بمساعدة شريكها باتريك شوماخر وسافيت كايا بيكوروغلو، الذي أشرف على تنفيذه، سيدخل أيضا سجلها على أنه أكثر عمل شاعري قامت به إلى حد الآن، لما يتمتع به من جمال ونعومة، وليس فقط لما يضمه من وظائف عملية أو يتضمنه من عبقرية رياضية في كل جزئية لتخلق مساحات إضافية جديدة لا يمكن تصور وجودها من قبل، إضافة إلى استغلال الإضاءة الطبيعة من خلال نوافذ ممتدة على طول حائط مثلا.

عندما تبدأ جولتك في المركز، تشعر بأن الجولة لن تنتهي في يوم واحد، بسبب إحساس باللامتناهي يزيد عندما تصل إلى الطابق الأعلى، التاسع، وتنظر إلى أسفل. أول ما يتبادر إلى الذهن أن المصممة استلهمت الشكل من تورتة العرس بطبقاتها المتعددة التي تتدرج من الطابق الأرضي إلى الطابق التاسع، مستغلة كل ركن لوظيفة معينة. لكنك سرعان ما تصحح نفسك، بعد أن تتذكر أنها كانت دائما تنادي بالاستفادة من كل جزئية، وأن كل ما كانت تحتاجه هو زبون لا يتحاسب معها. زبون يوفر لها الأساس ويترك لها الباقي لتعبر عن عبقريتها. التعليمات البارزة التي طلبها الزبون «أن يحتضن المركز الثقافي الوطني، قاعات عرض وقاعة مؤتمرات بـ1000 مقعد، ومسرحا بتقنيات عالية فيما يتعلق بالتصميم والإضاءة والصوت» كما يقول سافيت. المكان الذي اختير لهذا المعلم المعماري كان أرضا صناعية بعيدة عن وسط المدينة، استغرق تغييرها إلى ما آلت إليه اليوم أكثر من سبع سنوات من العمل.

حسب كلام سافيت «الأرض التي بني عليها المركز كانت مصنعا سوفياتيا مهجورا»، وهذا وحده كان يستدعي كتابة نص جديد ومختلف تماما. فالسيرة الذاتية التي تريد أذربيجان أن تكتبها منذ نهضتها النفطية الثانية، وتستعرضها أمام العالم تتطلب شكلا أكثر إشراقا وإيجابية، وصورة أكثر جمالا. الأرض المقترحة كانت بمثابة الحلم بالنسبة لزها حديد وفريقها، فهي شاسعة وتمنح إمكانيات عالية للإبداع والحركة. ثم لا بد من الإشارة هنا إلى أن زها حديد كبرت في الستينات من القرن الماضي، وشبت في محيط سياسي يساري غلب عليه الاهتمام بالمناحي الإنسانية والرغبة في تحقيق الديمقراطية الاجتماعية، ما انعكس على أسلوبها وأثر عليه. ويتجلى هذا التأثير في حرصها أن تجعل الخارج امتداد للداخل بخلق مساحات جديدة، أحيانا من لاشيء، أو بالأحرى من خلال ركن صغير تفتحه فتتحول شخصيته ووظيفته تماما. الجميل فيها أنها تؤمن بأن القوالب والأشكال متغيرة وقابلة للتأويل وليست جامدة أو مطلقة. ومع أنها تعتمد هذا الأسلوب في غالبية أعمالها، إن لم نقل كلها، فإنه أخذ صورة أكبر حجما ووضوحا في هذا المركز، الذي قالت: إنه «أولا وأخيرا جاء وليد المساحة الخارجية، تماما كما أن الفضاء الخارجي امتداد لداخل المبنى». ويلتقط سافيت خيط الحديث ليشرح بأن المساحة الخارجية «لم تكن منبسطة، بل مرتفعة بنحو 20 مترا ما استدعى خلق عدة مساحات وطبقات تتدرج في كل مرة كاشفة عن منظر جديد، مثل شلال اصطناعي يضفي السكينة على المكان، أو مطعم يطل على المبنى من جهة والمدينة القديمة من جهة أخرى، بينما غطي سقفه بالكامل بالنباتات لكي يبقى متجانسا مع المكان عندما تطل عليه من علٍ». بالنسبة لزها حديد، وحسب تعليماتها، فإن هذه العلاقة المتجانسة بين المبنى والمساحة الخارجية كانت أساسية.

رغم أن فريق العمل فرغ من بناء المركز منذ عدة أشهر، ومع أنه كان مفتوحا للعامة، فإن الافتتاح الرسمي كان يوم الثلاثاء الماضي بحضور لفيف من المجتمع الأذربيجاني وباقة من المعماريين والشخصيات العالمية التي اختارتها زها حديد بنفسها. ضمت اللائحة أفرادا من عائلتها وأصدقائها وطلبتها وأساتذتها إضافة إلى شخصيات آمنت بقدراتها منذ بدايتها مثل اللورد بالومبو. على العكس من باقي الافتتاحات التي يكون فيها الحضور الغالب من الإعلام والعلاقات العامة، يلاحظ أن زها حديد تحرص أن تدعو المقربين منها من الأهل والأصدقاء أكثر. ربما لأن أعمالها تروج لنفسها ولا تحتاج إلى دعاية، لكن الأهم وحسب شهادات الكثير من الضيوف فإن الأمر يعود إلى شخصية وفية تؤمن بالولاء لكل من تعاملت معهم، وبالتالي لا تنسى أن تشركهم معها فرحة كل إنجاز تقوم به. كل هؤلاء احتفلوا معها بـ«ثمرة الحب» يوم الثلاثاء الماضي، في حفل كبير، جندت له الحكومة الأذربيجانية كبار فنانيها لتستعرض المبنى وإمكانيات مسرحه التقنية المتطورة، وفي الوقت ذاته لتستعرض ثقافتها المختلطة ومعانقتها الشرق والغرب في آن واحد. فقد تباينت العروض ما بين رقصات فولكلورية ووصلات غنائية تقليدية وأوبرا وموسيقى كلاسيكية.