فيلم وثائقي يروي سيرة المسرح في لبنان

يسلط الضوء على حياة ريمون جبارة أحد أهم مؤسسيه

ريمون جبارة يحمل سيجارة ويهم بإشعالها وكلما اقتربت من ثغره أبعدها بلحظة ليقول كلمته ويمشي فلا يدخنها («الشرق الأوسط»)
TT

بابتسامته المعهودة وسيجارته التي لا تفارق يده، يطل علينا ريمون جبارة في الفيلم الوثائقي «جبارة» الذي يحكي سيرة حياته بتفاصيلها. صحيح أن أعماله التي يعرضها الفيلم على مدى 120 دقيقة، إضافة إلى شهادات من أصدقائه، أخذت الحيز الأكبر من مساحته، إلا أن المشاهدين كانوا ينتظرون إطلالاته القصيرة وقفشاته الساخرة طيلة عرضه ليضيفوا إلى متعة التعرف إليه من كثب، نكهة «جبارية» لا تتكرر.

الفيلم من إعداد وإخراج نصري البراكس، أحد تلامذة جبارة. والأستاذ الذي يثق بحرفية تلميذه لم يتدخل في عمله لا من بعيد ولا من قريب، حتى إنه انتظر مثل غيره من المدعوين لحضور الفيلم في عرضه الأول على مسرح «قصر الأونيسكو».

خمسون سنة من العمل الدؤوب في ظروف مستحيلة وأوضاع غير مستقرة اختصرها الوثائقي من حياة جبارة، وقد استغرق من معده نحو السنتين ليجمع فيه أخبار ومقتطفات ومنعطفات من مسيرة فنان أسس للمسرح اللبناني الحديث.

يتضمن الفيلم خمسة أجزاء، تروي بدقة أهم مراحل حياة ريمون جبارة، المهنية منها والشخصية.

يذكر القسم الأول منه بدايات ريمون جبارة كممثل في الستينات، منذ أن التحق بمعهد المسرح الحديث وفرقته اللذين أسستهما لجنة مهرجانات بعلبك الدولية. ونتابع في الجزء نفسه أهم الأعمال التي شارك فيها في تلك الحقبة والتي تدور ما بين المسرح اللبناني، وفرقة المسرح الحر التي ساهم في تأسيسها، وصولا إلى الفترة ما بين 1960 و1970 حيث لمع نجمه على خشبات المسارح وأصبح من أبرز الممثلين الموهوبين وأكثرهم براعة. وينقلنا القسم الثاني إلى جبارة وأولى تجاربه مع الإخراج والتأليف حتى اندلاع الحرب اللبنانية عام 1975، مرورا بأعماله المسرحية «لتمت دزدمونا»، ثم «تحت رعاية زكور»، وبداية تمارين مسرحية «دكر النحل» التي قطعها اندلاع الحرب اللبنانية.

ويتحدث ريمون جبارة في هذين القسمين عن شغفه بالمسرح وعن أول دور تمثيلي عرض عليه، الذي لم يستطع أن يؤديه لأن زميله في الدور نسي كلامه فألغى بذلك تلقائيا دور جبارة.

وفي القسم الثالث من الفيلم الذي هو من تنظيم جامعة سيدة اللويزة، ومؤسسة إميل شاهين للثقافة السينمائية، نتعرف إلى الذروة الإنتاجية لريمون جبارة. فالحرب اللبنانية لم تستطع أن تحد من حماسه للاستمرار في نهضة المسرح اللبناني. وقدم ما بين 1975 و1986 الأعمال التالية: «شربل»، و«زردشت صار كلبا»، و«محاكمة يسوع»، و«قندلفت يصعد إلى السماء»، و«صانع الأحلام» التي رغم نيلها جوائز عدة في مهرجانات عربية، لم تحقق النجاح في لبنان، إذ بالكاد جاء لحضورها في يوم الافتتاح خمسة أشخاص، كما ذكر في الوثائقي.

في القسم الرابع، سلط الوثائقي «جبارة» الضوء على مرحلة تعيينه مديرا عاما ورئيسا لمجلس إدارة تلفزيون لبنان بين عامي 1987 و1990. في هذه الفترة ورغم المحاربات الكثيرة التي لاقاها، حاول جبارة إنصاف تلفزيون لبنان وتطوير برامجه. فانصرف إلى عمل إداري أنهكه وسرق منه صحته، فكان أن أصيب بشلل نصفي، فرض عليه إيقاع حياة مختلفا وقاسيا رافقه حتى اليوم. ويعلق قائلا: «لمست لدى المشاهد اللبناني نفورا وانزعاجا من البرامج التثقيفية، فصرت أتعمد تمرير مقابلة مع شاعر أو رسام ما بين فقرة وأخرى حتى أجعل ذوقه يعتاد الفن الراقي».

وتحكي المرحلة الخامسة والأخيرة عن عودة القديم المتجدد لجبارة على خشبة المسرح. فإضافة إلى أعماله الجديدة كـ«من قطف زهرة الخريف؟» و«بيكنيك على خطوط التماس»، أعاد تقديم مسرحيتي «زردشت صار كلبا» و«شربل» مع جيل من الممثلين الشباب. كما أخرج مسرحيات للكاتب أنطوان غندور؛ هي: «يوسف بك كرم» و«طانيوس شاهين» و«نقدم لكم وطنا»، وأخرى له بعنوان «مقتل إن وأخواتها» عام 2012. وتناول الوثائقي مرحلة زواج ريمون جبارة بمنى بشعلاني (ممثلة) وعمله في مجال التوبوغرافيا. كما أشار إلى علاقاته مع أصدقائه من زملائه الذين باتوا أفرادا من عائلته، ككميل سلامة وأنطوان كرباج وجوزف بونصار وتيودورا الراسي ورضا خوري، ومادونا غازي التي قال إنه افتقدها كثيرا، وبكى لفراقها عندما توفيت إثر حادث سير تعرضت له في الأردن.

وكان لشهادات عدد من طلابه الجامعيين، أمثال جوليا قصار وغبريال يمين وغيرهما، وقعها في الفيلم فلامست المشاهد بشفافيتها وصدق تعبيرها. فكانوا يتحدثون عنه بإعجاب كبير، كونه يشكل بالنسبة لهم هالة فنية مضيئة يشعرون بالفخر كلما غمرهم شعاعها. كما تطرق الوثائقي إلى ريمون جبارة الإعلامي، الذي برع في المكتوب كما في المرئي والمسموع.

طيلة الفيلم نشاهد ريمون جبارة يحمل سيجارة ويهم بإشعالها وكلما اقتربت من ثغره أبعدها في لحظة، ليقول كلمته ويمشي فلا يدخنها. حاول المخرج في هذه الحركة المتكررة في أكثر من مشهد أن يظهر مدى شغف أستاذه بعمله، هذا الشغف الذي جعله يتخلى حتى عن السيجارة طيلة 120 دقيقة (مدة عرض الفيلم) التي تعد جزءا لا يتجزأ من شخصيته. وتبقى السيجارة على هذه الحال بيده حتى اللحظات الأخيرة من الفيلم، عندما نشاهده يشعلها وينفخ بدخانها على العبثية التي عاشها ليأخذ فترة استراحة بعد مشاهدته شريط حياته.

تخرج من العرض وأنت مقتنع بأن ريمون جبارة حالة سيريالية في المسرح اللبناني. فحضوره الفذ وأستاذيته في الأداء وتفرده في الأسلوب وفي تقنية حركته على الخشبة، إضافة إلى نظرته الثاقبة وخلطته الساخرة الظريفة والراقية في الوقت نفسه - طبعته بكاريزما هوليوودية، لم يشأ القدر أن يوصلها إلى أبعد من بلاد الأرز.

قد تكون مدة عرض الفيلم، الطويلة إلى حد ما، هي أول ما تنتقده في الوثائقي «جبارة»، ولكن وحسب ما أوضح مخرجه فإن الفيلم نفذ على هذا المنوال، لأنه سيعرض على مدى ثلاثة أجزاء تلفزيونيا، ولأن حياة ريمون جبارة غنية بالمحطات المهمة، فكان من الضروري إعطاؤها حيزا مهما.