«بيت الحرف والإبداع» الملتقى الفريد للتراث الأرمني في بيروت

يهدف إلى تعزيز مهارات المبدعين والحرفيين.. وينقل الزائر إلى عالم من الأصالة

إحدى الحفلات الموسيقية التي نظمها بيت الحرف والإبداع
TT

يعد «بيت الحرف والإبداع» بيتا مصغرا عن حضارة الشعب الأرمني وثقافته في لبنان، ويشكل نموذجا فريدا للحفاظ على التراث الأرمني في ذاكرة شعب التزم الحفاظ على قضيته.

ففي وقت قلت فيه القيم وكثر اللجوء إلى تقليد الغرب والتباهي بالمظاهر الكاذبة، يبقى الأصل هو الحقيقة المتجذرة في قلب الإنسان وفي عالمه.

حقيقة ينقلها إليك «BADGUER»، البيت الذي أنشأته آربي منكاساريان منذ 7 أشهر في قلب أسواق برج حمود (شمال العاصمة بيروت) انطلاقا من القيمة التي أعطتها للتراث الأرمني. الكلمة أرمنية الأصل وتعني «صورة»، صورة تعكس للزائر وبوضوح وجوب المحافظة على الإنتاج الأرمني «الأصلي» في ظل العولمة السائدة.

وتقول منكاساريان في حديث لـ«الشرق الأوسط» التي التقتها في إحدى صالات البيت: «أريد إظهار صورة المنطقة الحقيقية وتراثها من خلال بيت الحرف والإبداع، بالإضافة إلى صورة الشعب الذي يتغنى بالثقافة. فهذا البيت هدفه دعم الحرف وترويج ثقافة احترام التراث الأرمني والتوعية لبيئة مستدامة ونقل ثقافة الحرف للشباب والجيل الصاعد».

وتتابع: «التراث ليس حجرا صغيرا، إنه عبارة عن شيء قديم ذي معنى، ومرتبط ارتباطا وثيقا بذات الشخص. وهذا الشيء إن لم يكن يشكل استمرارية للقصة مع الأسلاف إلى وقتنا اليوم ولا يشعرنا بحنين إلى قصة معينة عندما نتأمله، فلا يسمى تراثا».

الفكرة انبثقت من عمل آربي كمهندسة في بلدية برج حمود لمدة عشرين سنة، وكان عملها هو التوقيع على كل المشاريع العمرانية والإنمائية.

ومع إيمانها بأن الحياة هي إدارة أعمال الناس، عادت إلى الجامعة ودرست «التخطيط المدني»، ما جعلها على بينة أكثر من حاجات المنطقة ولغة الناس، وبالتالي معرفة سبل تلبية حاجاتهم وترجمتها واقعا ملموسا. واليوم بات البيت بمثابة الملتقى الذي يجمع المصمم والمنفذ لإنتاج عمل فني مشترك، حيث تجتمع الخبرات وتدور النقاشات في جو من الانسجام والتآلف، وفيه أيضا يتعرف الفنان على ذوي الأذواق والكفاءات الذين سيتعامل معهم لإنتاج عمل ما.

وتشدد آربي على وجوب أن تتحلى الحرف القديمة بالحداثة لإعطائها نوعا من القيمة والإبداع، لتكون همزة وصل بين الماضي والحاضر من دون أن يفقد شيئا من خصوصيته المعنوية، فيما تقدم فرقة موسيقية معروفة أغاني من التراث الأرمني الصافي كل مساء؛ فالموسيقى بنظر آربي عنصر هام من عناصر الفن والإبداع.

وفضلا عن ذلك فقد أقامت صالة مجهزة للمحاضرات، وصالات أخرى لتلبية كل الاحتياجات، وغرفة مخصصة ليقطن فيها الأستاذ الذي يريد تعليم حرفة معينة حتى ينهي دروسه.

وتقول آربي: «الفرح الحقيقي يكون عندما نخلق من لا شيء شيئا، فمثلا من أزرار نخلق عقدا»، مشددة على أن «الفرح» هو من أعظم أهداف «بيت الحرف والإبداع».

ومن هنا، فإن الحرف تمثل أوجه الثقافة والتراث الأرمني، حيث إن إنتاج هذا الشعب يأتي نتيجة إبداع مختلط بالفن، لا سيما في ظل التأثير الذي يتركه فيه المسرح والموسيقى.

إذن يهدف «Badguer» إلى تعزيز التراث الثقافي الأرمني وترويج مهارات المبدعين والحرفيين، وجعله مكانا حاضنا للتبادل الثقافي على اختلافه، كما لم تغب عنه المأكولات الأرمنية التراثية التي تشرف على إعدادها سيدات خبرن هذا النوع من العمل.

يجمع «Badguer» شريحة مهمة من الناس على اختلاف ألوانها وثقافتها وأجناسها، ففي الصالة الكبيرة يلتقي كثيرون لتبادل الآراء أو الراحة على صوت الساكسوفون الذي يرافق الزوار طوال النهار بأعذب الألحان، فيما يلتقي البعض الآخر على التلذذ بأشهى المأكولات التقليدية الأرمنية.

أما الصالة الكبرى في الطابق الثاني فتحتوي على معروضات لصور تاريخية تعود إلى أرمينيا وشعبها، وأخرى لبرج حمود حيث الحياة تعم والأعمال تزدهر.

وفي غرفة ثانية أشغال يدوية على أنواعها كالملابس التراثية المصنوعة من الجلد والقماش والحلي المشغولة بإتقان، والسجاد وحياكات على النول، وغيرها من الأعمال الموزعة على طاولات وخزائن كثيرة.

وتؤكد آربي أنها لا تستطيع أن تفارق الجنسيتين اللبنانية والأرمنية اللتين تحملهما، فهي تشعر تارة بـ«أرمينيتها» وأخرى بـ«لبنانيتها»، وتشرح: «لقد جلبنا معنا ذاكرتنا الجماعية وعاداتنا وتراثنا الثقافي وطرق تحضير مأكولاتنا، لكننا نستعمل المواد الأولية المحلية، وهذا ينسحب على كل شيء داخل المؤسسة، ونحاول حماية أنفسنا بأنفسنا».

شعور آربي بأن هناك شريحة من اللبنانيين قد سمعت عن التراث الأرمني ولديها الرغبة في التعرف إليه عن كثب - وهي خطوة يستأهلها القسم الأكبر من المواطنين الأرمن في لبنان - دفعها إلى تخصيص معظم غرف المؤسسة لتحقيق هذه الغاية، بما يساهم بتعزيز تلك الشريحة وجعلها أكبر، لافتة إلى أن الإجحاف واللامبالاة لا يزالان قائمين من الدولة والأحزاب والبلدية حيال الشعبين اللبناني والأرمني. واقع يدفعها إلى القول: «كلما اشتد الزمن قسوة على الوجود الأرمني أصبح أمر الحفاظ على التراث هو العنصر الأهم لكل فرد من أفراده. فليست صدفة أبدا أن تكون ولادة التراث الأرمني والحفاظ عليه وتنقله مع الزمن تحتل المرتبة المتقدمة من حياة الشعب الأرمني منذ الساعات الأولى لولادته».

المبدعون يعملون ليلا ونهارا بفرح ومن دون تفاوض مع الوقت ولا مع المادة ولا مع الإنسان، وكل ذلك بهدف العطاء، وهم يستحقون، وفق آربي، أن نعرف الناس عليهم وعلى أعمالهم، وأن نسهل الطريق إليهم، معتبرة أن «الإيمان والإتقان بالعمل والتعاون، عناصر مهمة وأساسية للإبداع».

وفي الختام تكشف آربي عن أنها بصدد تجهيز مشغل لحياكة الـ«Kilim» وهو بساط خاص بات حرفيوه نادرين جدا، مشيرة إلى أنها ستعمد إلى التعاقد مع من يجيد هذا النوع من العمل حتى من الخارج، في لفتة منها لإحياء التراث من كل جوانبه.