هل يسود الكذب السير الذاتية والأعمال الواقعية؟

السينما الخيالية تحب أبطالها أكثر

«اندفاع» لم يندفع كثيرا بين الجمهور
TT

في نهاية فيلم «الرجل الذي قتل ليبرتي فالانس» The Man Who Shot Liberty Valance الذي أخرجه جون فورد سنة 1962، وبعدما استمع الصحافي تشارلي هاشبروك (قام به جوزيف هوفر) إلى رواية توم دونيفون (جون واين) التي نراها في فلاشباك طويل حول حقيقة مقتل ليبرتي فالانس (لي مارفن) التي جاء الصحافي يحقق فيها، نراه يجمع أوراق المقابلة ويحرقها قائلا: «إذا ما تحولت الأسطورة إلى واقع، فاطبع الأسطورة».

ذلك الفيلم أنتجته شركة «باراماونت» عن سيناريو مقتبس عن قصـة خيالية قصيرة كتبتها دوروثي م. جونسون ولعب بطولتها كل من جون واين وجيمس ستيوارت ولي مارفن وفي عداد الأدوار المساندة وودي سترود، إدموند أوبرايان وجون كارادين ولي فان كليف. أما جوزيف هوفر فكان ممثلا طري العود لعب هنا دوره الأول ثم استقال من التمثيل بعد خمسة أفلام أخرى.

العبارة ذاتها تحولت إلى عناوين مقالات كثيرة، سواء كـتبت عن المخرج جون واين أو عن الغرب الأميركي أو عن السينما وعلاقتها بالإعلام والصحافة أو علاقتها بما إذا كان من الأفضل للسينما الاعتماد على الخيال أو على الواقع. الأول متحرر والثاني أكثر احتمالا للسقوط في خطأ النقل عن الواقع.

منذ مطلع هذا العام، وبينما كان فيلم «أرغو» لبن أفلك - المأخوذ عن شخصية ووقائع حقيقية - ما زال معروضا في الصالات قبل وخلال وبعد موسم الجوائز وحتى ما بعد حصوله على أوسكار أفضل فيلم، جرى إغداق السوق بأكثر من عشرة أفلام من إنتاج الاستديوهات تتعاطى جميعها و«الأحداث الحقيقية».

حاليا «اثنا عشر عبدا» لستيف ماكوين، حول حكايات سطرها عبد سابق ومعاناته أيام العبودية قبل الحرب الأهلية الأميركية، و«الكابتن فيليبس» لبول غرينغراس، عما تعرض له كابتن باخرة تجارية حين وقع رهينة قراصنة صوماليين، من بين آخر سلسلة الأفلام الفخورة بأنها مقتبسة عن الواقع.

الأفلام الجديدة الأخرى «فيلومينا» لستيفن فريرز، عن وقائع الصحافي البريطاني الذي ساعد أما ثكلى في البحث عن ابنها بعد خمسين سنة من الفراق، و«نادي مشتري دالاس» لجان - مارك فالي عن رجل مستقيم وجد نفسه مصابا بالإيدز وكيف سعى لاستعادة الرغبة في الحياة وتحدى الموت. كذلك نشهد «باق وحيد» Lone Survivor لبيتر بيرغ، ومفادها حادثة حقيقية وقعت لعدد من متسلـقي الجبال الذين قضوا وبقي منهم فرد واحد (مارك وولبرغ) و«اندفاع» Rush لرون هوارد عن جيمس هانت (كريس همسوورث) ونيكي لاودا (دانيال برول) بطلي سباق السيارات في السبعينات من القرن الماضي.

في أسابيع قليلة سنرى حكاية شاب تغلغل في أعمال البورصة وأصبح مليونيرا في فيلم مارتن سكورسيزي المبني على شخصية حقيقية وعنوانه «ذئب وول ستريت». وكنا شاهدنا قبل هذه المجموعة «فريق العصابات» Gangster Squad لروبن فلايشر و«عصبة المجوهرات» لصوفيا كوبولا و«دايانا» لأوليفر هيرشبيغل و«لافلايس» لروب إبستين و«ألم وفوز» لمايكل باي و«الشعوذة» لجيمس وان و«أرض مثلـجة» لسكوت ووكر، وكلها أعمال اقتبست عن أحداث أو وقائع وشخصيات حقيقية.

تجارب تحلو المقارنة بأفلام سنة 1963 حيث لم يكن هناك من بين 100 فيلم رئيسي من حول العالم أكثر من فيلم واحد هو «ثمانية ونصف» للمخرج الإيطالي الفذ فديريكو فيلليني الذي نفى بدوره أن يكون هذا الفيلم مبنيا على شخصيته أو على أحداث وقعت معه، ما يجعل القول بأنه فيلم مقتبس عن أصل واقعي أقرب إلى الادعاء منه إلى أي شيء آخر.

بعد خمس وعشرين سنة (1988) لم يكن هناك أكثر من ثلاثة أفلام روائية من هذا النوع، هي «حريق الميسيسيبي» لألان باركر الذي يتقصى ما حدث لبعض موظـفي المؤسسات الاجتماعية التي حاولت، في الستينات، التحقيق في أوضاع عنصرية في الجنوب الأميركي، و«تاكر: الرجل وأحلامه» لفرنسيس فورد كوبولا عن برستون تاكر الذي ابتدع في الخمسينات تصميم سيارة سابقة لعصرها، و«المتـهمة» لجوناثان كابلان حول حادثة أخلاقية وقعت عندما جرى اغتصاب فتاة (جودي فوستر) علنا، ثم «الغوريلا في الضباب» لمايكل أبتد عن دايان فوسي، عالمة حيوانات قتلت على يدي الغوريلات التي أحبتها.

ما يحدث الآن هو تمادي الاعتماد على الأفلام الحاضنة للسير الذاتية («دايانا»، «لفلايس»، «رئيس الخدم»، «المتقمص»، «هذا العام» و«لينكولن» و«كون تيكي» و«هيتشكوك» و«ملكة فارساي» بين أفلام كثيرة في العام الماضي) أو على وقائع حقيقية (كما كان حال «أرغو» و«أرض مثلجة» إلخ...) والسبب في ذلك هو أن الفيلم البيوغرافيكي أو القائم على أحداث وقعت لديه احتمال جذب فئة من الجمهور المهتم بمشاهدة عمل بصري عن تلك الشخصية أو عن ذلك الحدث. لكن، وكما تنضح به التجارب الأخيرة، يمكن للجمهور ذاته أن لا يهتم. فلا أحد اكترث حقيقة لقيام هوليوود ولندن بتقديم حياة الأميرة دايانا، ولا استحوذ فيلم «هيتشكوك»، عن سيد الرعب، أكثر من اهتمام عابر، ولا استطاع فيلم «اندفاع» إثارة الاهتمام الذي توخـاه.

بالمقارنة، فإن الأفلام التي تتناول أحداثا معيـنة، من فترات تاريخية مختلفة، تحظى بنصيب من النجاح أوفر. لقد أم الجمهور فيلم «أرغو» ليعرف كيف أنقذ الأميركيون رهائنهم من طهران، واستوعبوا الحكاية العاصفة التي سردها «المستحيل» متحدثا عن الإعصار الذي ضرب تايلاند سنة 2004 وما عانته عائلة بعينها. كذلك كان للوضع التاريخي الخاص بالأفرو - أميركيين السبب الذي استجاب فيه المشاهدون البيض والسود على حد سواء لفيلمي «اثنا عشر سنة عبدا» و«رئيس الخدم».

شخصيات سلبية «اطبع الأسطورة»، تقول تلك الحكمة ولديها سبب كبير: السينما في الأمس كانت لا تزال خيالا فوق كل وأي اعتبار. ليس هناك من ليبرتي فالانس في الواقع ولا فيلم جون فورد كان اقتباسا عن شخصية أو عن حدث وقع في الغرب الأميركي في العقدين الأخيرين من القرن التاسع عشر (كحال معظم أفلام الوسترن الأميركية) بل كان هناك فيلم حول شخصية مبتدعة أداها لي مارفن بحضوره المهيمن كلـما لعب دور شرير (كحاله في ذلك الفيلم).

ليس أن السينما الأميركية (أو حتى غيرها) لم تكترث مطلقا للأفلام المتمحورة حول وقائع وشخصيات من الواقع، لكنها لم تكن مدمنة على هذا النوع كما هو الوضع في الوقت الحالي. بل إن سينما الوسترن أنتجت الكثير من الأفلام التي دارت حول شخصيات عاشت كالأسطورة فعلا، وهي بيلي ذي كيد وجيسي جيمس ووايات إيرب. الأول كان مجرما طليقا إلى أن أوقعه القانون في فخ حيث قام الشريف بقتله، والثاني ترأس عصابة كبيرة وقضى بخيانة أقدم عليها أحد أعوانه (توم فورد). أما الثالث فكان شريف البلدة الذي خاض معركة مشهورة ضد عائلة كلينتون انتهت بالقضاء عليها.

وربما السبب في أن الأفلام المستلهمة عن شخصيات حقيقية هذه الأيام لا تحقق ما هو مرجو منها رغبة السينمائيين بالحديث عن الجوانب الداكنة والسلبية من حياة المشاهير. فيلم «دايانا» صور الأميرة البريطانية امرأة هوى غير مستقرة انقادت لعواطفها الأنانية. ألفرد هيتشكوك في «هيتشكوك» كان سكيرا وغيورا على زوجته، علما بأنه كان يعاملها (حسب الفيلم) معاملة سيئة. الأخطر من ذلك أنه يبدو كما لو أنه لم يكن المخرج العبقري الذي تتصدر أعماله قوائم أفضل أفلام التاريخ.

الأمور كانت أكثر وضوحا بالأمس. إذا ما كان الحديث عن مجرم جرى وضع المعادل المضاد: بطل يتصدى له وينتصر عليه. والبطل، من ناحية أخرى، لم يكن تلك الشخصية الرمادية الحائرة والغارقة في نوع من هدم الذات، بل شخص جدير بالإعجاب، حتى ولو كشف عن بعض عيوبه الصغيرة.

هذه المتغيرات تبعت قيام هوليوود باعتماد مبدأ أنه من المثير أكثر لو أنها عدلت صورة البطل بما يناسب وضعا يعكس المفهوم القائل إن الخير والشر في كل منا بصرف النظر عما يقوم به في الحياة. مفهوم يصلح، أساسا، لدرس في علم الاجتماع مثلا، لكنه - كما أثبتت النماذج الكثيرة - من شأنه جعل المشاهدين يكفرون بالقيم وهم يتابعون شخصا يشبههم ولا يتجاوزهم.

مفهوم البطولة أساسا هو عكس تلك الصورة المتحولة. البطل عليه أن يكون من تحب نفسك أن تكون عليها لو أن الفرصة منحت لك. باقتلاع هذا الاعتبار لم يعد أمامك سوى شخصية تحاول جذبك إلى عالمها الذي لا يمكن أن يحتوي ما تبحث عنه.

في الوقت ذاته، تم نفخ صورة البطل غير الواقعي. ذلك السوبر هيرو كما يرد في تلك الاقتباسات المتكاثرة عن شخصيات «الكوميكس» المطبوعة («باتمان»، «ديردفيل»، «المنتقمون»، «ثور»، «سوبرمان» إلخ...) على أساس أن يمنح الشاشة حضورا جديدا لماهية البطل السينمائي.

لكن هذا النوع من البطولة يختلف عن البطولة الكلاسيكية. للتفسير فإن فيلما من نوع «الحرارة الكبيرة» (بوليسي من إخراج فريتز لانغ سنة 1953) أو من نوع «فرنش كونـكشن» (بوليسي لويليام فريدكن - 1971) أو «ظهيرة موقدة» (وسترن لفرد زنمان - 1952) أو «دم أول» (أكشن لتد كوتشيف - 1982) توجـه إلى الناضجين الذين لن يرضوا بمشاهدة أبطال خارقين للعادة في أفلام تستثمر مطلق الخيال لتقديم وجبتها من الفن والمضمون والترفيه. لكن «سوبرمان» و«سبايدر مان» كما «ثور» وغيرهم من شخصيات «السوبر هيرو» توجـه، ولا يزال، للمراهقين والأولاد الذين يحلمون بالقوة المفرطة وغير المحدودة. البطل الأول يلتقي والباحثين عن البطل القابل للتصديق، وهؤلاء الباحثون تجاوزوا الخامسة والعشرين من العمر، في حين أن البطل الثاني يلتقي ومن هم دون هذا السن وصولا للأولاد الصغار موفرا لهم الحلم بالشخصية غير الواقعية.

مقارنات بين هذين المفهومين ضاع عدد من النقاد في اعتبارات مغلوطة ربما أكثرها انتشارا الاعتقاد أن الفيلم الواقعي هو ما نريده ونرغب فيه أكثر من سواه. السبب في إجماله كلمة «الواقعي»، فإذا بنا، حسب هؤلاء، نريد «الفيلم الواقعي» مقابل الفيلم الخيالي، ونفضل الفيلم الذي «يطرح» مشاكل واقعية على تلك التي ليس لديها علاقة بالواقع، وما تطرحه هو إثارة قصصية بحتة.

لكن المسألة ليست على هذا النحو مطلقا.

كل إبداع فيتوريو دي سيكا في «سارق الدراجة» (1948)، وهو نموذج جيد من نماذج السينما الواقعية، يساوي إبداع الفيلم الخيالي التام «تأمين مزدوج» لبيلي وايلدر (1944) إذا ما قورن لقطة بلقطة مع اختلاف الأساليب والغايات. برفع مستوى المقارنة، فإن «سارق الدراجة» لا يستطيع أن يصل إلى مستوى أعمال الياباني أكيرا كوروساوا أو أعمال الأميركي فرنسيس فورد كوبولا الأولى أو الروسي الراحل أندريه تاركوفسكي أو البريطاني كن راسل.

هذا ما يعني أن تفضيل نوع على نوع لمجرد أنه نوع محبب للذات هو خطأ كبير ينتج عنه اعتبار أن ذلك النوع المفضـل هو الأحسن في السينما ولها. وهذا أسوأ ما قد يقع تحت تأثيره جمهور يبحث عن الترفيه المدروس والمتفنن بصرف النظر عن النوع الذي ينتمي الفيلم إليه.

ونحن نجد أن الأفلام التي تلحق مقولة «اطبع الأسطورة»، في مقابل «اطبع الحقيقة» هي التي تتطلـب الجهد الإبداعي الأعلى. هكذا كانت وهكذا ستبقى. أما تلك التي توظـف الشخصيات الواقعية لكي تنقلها إلى الشاشة فمخاطرها كثيرة من احتمالات سوء النقل إلى احتمالات سوء التقديم مرورا بحقيقة أنها، في غالب الأحيان، تعمد إلى تطعيم الحقيقة بقدر كبير من الخيال لكي تتقرب إلى جمهور أكبر ما يضعها في خانة الكذب.