حين يتوقف قطار الشرق السريع بمحطة معهد العالم العربي في باريس

معرض مهم في الربيع المقبل بالتعاون مع إدارة السكك الحديدية الفرنسية

قطار الشرق حين يتوقف في محطة معهد العالم العربي بباريس
TT

في محطة قطار «ليون» في باريس، وفي ساعة مبكرة من صباح أمس، تجمهر المسافرون حول عربة توقفت عند الرصيف الأول وبدت وكأنها طالعة من زمن أنيق مضى. كان الرجال والنساء يتوقفون أمامها لالتقاط الصور وهم يبدون إعجابهم بلونيها الحليبي والكحلي، يفصل بينهما شريط أصفر رفيع وتنبعث من داخلها أضواء متسربة من مصابيح منضدية صممت وفق الطراز القديم. ماذا تفعل، هنا، العربة رقم 4151 من عربات الدرجة الأولى «البولمان» من قطار الشرق السريع؟

لقد جيء بها بمناسبة المؤتمر الصحافي المشترك لغليوم بيبي، رئيس مؤسسة السكك الحديدية الفرنسية، وجاك لانغ، رئيس معهد العالم العربي في باريس، للإعلان عن معرض يقام في الربيع المقبل، بعنوان: «كان يا ما كان... قطار الشرق السريع». ولم يخف بيبي سعادته بحضور أكثر من مائة صحافي رغم الطقس البارد والساعة الصباحية المبكرة للمؤتمر. إنها فرصة لركوب إحدى عربات ذلك القطار الذي أحاطت به الأساطير وقصص المشاهير، منذ أن مضى طاويا السهول والهضاب والوديان، أوائل القرن الماضي، ليربط لندن وباريس وبوخارست وأثينا، وصولا إلى إسطنبول ومنها، على مراحل وتفرعات مختلفة، إلى دمشق وحلب والقدس والإسكندرية والموصل وبغداد والبصرة. كانت المدينة المتمددة ما بين قارتي أوروبا وآسيا عاصمة للإمبراطورية العثمانية المحتضرة، آنذاك، التي أطلق عليها المراقبون تسمية «الرجل المريض». وقد أراد السلطان عبد الحميد الثاني، منذ نهايات القرن التاسع عشر، تحقيق مشروع القطار الذي سيجعل أراضي دولته ترتبط بالدول الصناعية، وهو أمر ما كان يمكن تحقيقه ومد السكك في تلك البقاع لولا مساعدة القيصر الألماني فيلهلم الثاني. والقصة بعد ذلك معروفة. فقد رأى القطار النور، رغم تعثر المشروع بسبب التحولات السياسية، وتحول من مجرد وسيلة نقل تسير بالبخار إلى بساط عصري للريح، يرفل في الفخامة ويستعين بمهارات خيرة حرفيي وفناني ذلك الزمن.

واليوم، بعد نحو من مائة عام، وفي إطار سعيه لإضاءة المحطات التي تربط ما بين الحضارات الأوروبية والشرقية، بين مدن ذات أسماء باهرة مثل باريس والإسكندرية وحلب والقدس وبغداد، يستعيد معهد العالم العربي فكرة قطار الشرق السريع الذي جمع تلك الحواضر، قبل 130 عاما، ليحولها إلى معرض يجمع ما بين التاريخ والجغرافيا والسياسة والأدب والفن وحتى الفنون الطبخية. الأمر الذي جعل رئيس السكك الحديدية الفرنسية، غليوم بيبي، يقول في المؤتمر الصحافي إن خبر هذا المعرض هو واحد من الأنباء السعيدة القلائل التي تأتي في زحمة الأخبار السيئة التي تلف العالم. وأضاف أن عشرا من عربات القطار ستمتد من بوابة معهد العالم العربي وتتوقف في فنائه وتكون حاضنة لمعرض فريد من نوعه، يجدد صلة زواره بما سماه «فن الترحال».

ومنذ 1883، عكس القطار إيقاع التاريخ الأوروبي وجغرافيته وأصداء النزاعات المتفرقة ودوي الإمبراطوريات التي كانت تعيش لحظات انهيارها. لذلك كان طبيعيا أن تساهم في صنع أسطورته أسماء لعبت أدوارا على المسرح السياسي، مثل الرحالة لورنس العرب والجاسوسة ماتا هاري والممثلة مارلين ديتريش والكاتبة أغاثا كريستي، عدا عن شخصيات متخيلة خرجت من كتب مؤلفين سافروا في قطار الشرق السريع، مثل المحقق هركيول بوارو والعميل السري جيمس بوند.

يعترف جاك لانغ، رئيس معهد العالم العربي، أن من عرض عليه فكرة المشروع هو غليوم بيبي. وما كان يمكن إلا أن يستسلم لغوايتها، رغم أنه لم يكن قد تسلم منصبه إلا قبل أسابيع قلائل. إنه معرض ينسجم إلى حد كبير مع فكرة الحركة التي كان يريد أن يزج فيها هذه المؤسسة الثقافية الفريدة من نوعها، لكي تخرج من سباتها وتضج بالفعاليات الموسيقية والسينمائية والندوات والمعارض المتصلة.

ويضيف: «إنه معرض يجسد الحنين إلى زمن مضى وإلى شرق مدهش، لكنه حقيقي، لا سيما أن هذا الشرق يحضر على كل الشفاه وفي نشرات الأخبار، منذ سنوات». إنها عشرات المدن التي تمتد فوق الخرائط وآلاف الكيلومترات التي تربط بينها ومئات السنوات من التاريخ والقصص والأساطير التي يؤمل أن تجتذب جمهورا متعطشا للمعرفة التي تقدم في وعاء الفن والدهشة والذوق الرفيع.