جولييت بينوش في فيلمها الجديد لا تبحث عن المتاعب.. بل تعيشها

أيام مهرجان مراكش السينمائي الدولي ـ 2

من جديد جولييت بينوش: «ليلة سعيدة ألف مرة»
TT

لم تهطل الأفلام التي اختارها مهرجان مراكش لدورته الثالثة عشرة من السماء، بل جرى اختيارها بدقة وروية. والنتيجة مجموعة لا بأس بها من التجارب الفنية والفكرية التي تتعرض لأوضاع بعضها محدود في دائرة اهتمامه وبعضها يتجاوز الخاص للعام ولو أنه يعود إلى الأول كونه الصلب في الموضوع المطروح.

في اليوم الأول بعد الافتتاح (الثلاثين من نوفمبر - تشرين الثاني) جرى الاحتفاء بالممثلة الفرنسية جولييت بينوش. جرى تقديمها أولا من خلال كلمات موجزة لا تشكل تطويلا (ولو أن الحفل بدأ متأخرا لأكثر من ساعة) وثانيا من خلال مشاهد من أفلامها المعروضة في هذا الاحتفاء من بينها «ثلاثة ألوان: أزرق» لكريستوف كييسلوفسكي و«المريض الإنجليزي» لأنطوني منغيلا و«ماري» لأبل فيريرا و«كامي كلوديل - 1915» لبرونو ديمون، قبل عرض فيلمها الأحدث «ليلة سعيدة ألف مرة» لإريك بوب.

بينوش في أفغانستان الصالة امتلأت بالتدريج، وكان من بين جالسي الصف الأول الممثلة يسرا والمخرجة إيناس الدغيدي، وإلى جانب الكرسي الذي شغلته يسرا كان هناك كرسي شاغر عليه اسم عادل إمام الذي لم يظهر. لو فعل لوجد نفسه بين الممثلة التي كثيرا ما عمل معها وبين المخرج الأميركي مارتن سكورسيزي الذي يرأس لجنة التحكيم والذي تبادلت معه يسرا بعض عبارات تعريفية.

الأفلام الاثني عشر المنتخبة في إطار التكريم للممثلة الفرنسية بينوش تشكل أساسا لمن لم يكن يعرف هذه الموهبة التي لا تكل في السعي للكمال. إنها كل الشخصية التي تلعبها في كل فيلم. إنها الفتاة الشابة التي تحاول أن تستوعب ما يحدث في «الخفة غير المحتملة للوجود» لفيليب كوفمان (1987) والمتوحدة الثكلى بموت ابنها في «ثلاثة ألوان: أزرق» (1993) ثم هي بالطبع امرأة تمر عليها الحرب العالمية الثانية فتخسر من تحب لكنها ترفض الهزيمة في «المريض الإنجليزي» (1996) والزوجة المرتابة في معالجة زوجها لفعل مدهم في «مخبوء» لميكائيل هنيكه.. والإنسانة الراغبة في الخروج من سجنها في مصح تشرف عليه الكنيسة في «كامي كلوديل - 1915» الذي استعرضناه حين شوهد في مسابقة مهرجان برلين الأخير.

الأفلام الأخرى لا تقل ثراء حين النظر لنوعية الشخصيات التي أدتها الممثلة المعروفة. كذلك الحال بالنسبة لفيلمها الأخير «ليلة سعيدة ألف مرة» التي هي أفضل ما فيه.

يبدأ الفيلم بنور سيارة آت من بعيد يشق عتمة الليل، ثم عينها، ثم وجهها، وقد وصلت إلى مقر سري لحركة طالبان يجري فيه تجهيز امرأة لتفجير نفسها. تلتقط الصور على نحو متواصل ثم تطلب أن تركب معها السيارة التي ستنقل المرأة إلى السوق المزدحمة بالناس. تواصل التقاط الصور ثم تنزل من السيارة بعدما أدركت أن عليها أن تبتعد عن المكان قبل أن تفجر المرأة نفسها. رغم ابتعادها، لمسافة قصيرة، فإنها تواصل التقاط الصور قبل أن تصرخ بأعلى صوتها محذرة من وجود قنبلة حتى تمنح الموجودين فرصة الهرب. لكن الانفجار يقع ويحصد أرواحا وتصاب هي بجروح.

هناك نقلة ناعمة بينها وهي ملقاة على الأرض وبين المشهد الآخر لها في المستشفى في دبي، ثم من هذا المشهد لمشهد سحاب تحت مستوى الطائرة التي تنقلها إلى موطنها في دبلن، ومن ذلك المشهد إلى مشهد ليدها تمدها من السيارة المتجهة بها إلى البيت.

هناك مفاجأة تنتظرها وهي أن زوجها مرقص (الدنماركي نيقولاي كوستر والداو) ضاق ذرعا بعملها الذي يأخذها من البيت والعناية بطفلتيهما، وها هو يخيرها بين أن تواصل عملها أو أن تصبح زوجة.

هذا كله في ثلث الساعة الأولى ما يخلق مشكلة لاحقة في السيناريو؛ إذ أسس لهذا الوضع فإن الساعة والنصف اللاحقة ستكون مجرد بلورة له، ما يعرضه إلى التكرار بعد وصول المشكلة والمفهوم المرغوب رسمه. ربيكا المصورة ستختار البيت والعائلة وسترفض المزيد من العروض كمصورة صحافية متخصصة في العمل في مناطق النزاع حول العالم، لكن عندما تتاح لها فرصة مواكبة ابنتها المراهقة ذات العقل الأكبر من سنها «أحزن كل يوم لما يمر به أطفال العالم» في رحلة إلى كينيا، فتعرض نفسها للأذى، مجددا ينفذ الزوج تهديده فتصبح خارج العائلة وتخسر، بكلماتها، كل شيء باستثناء مهنتها التي تعود إليها من جديد.

نال الفيلم جائزة لجنة التحكيم الخاصة في مهرجان مونتريال (لذلك لا نجده متسابقا هنا). إنه فيلم صادق النبرة من مخرج كان يوما مصورا فوتوغرافيا يغطي مناطق النزاع والحروب حول العالم، ولربما وجد نفسه في المأزق ذاته ما يعني أنه قلب الموضوع فإذا بالزوج هو من يطلب من الزوجة الانصراف عن مهنة الخطر وليس العكس. هذا تجديد في مكانه ولو أن الزوج لا يبدو أكثر من شخص لديه ردود فعل وقليل من العمق.

الفيلم يراوح مكانه أكثر من مرة ولديه نبرة خطابية متبادلة بين الشخصيات ومواقف جاهزة، إنسانية نعم وتتداول موضوعا مهما يستفيد من الحالة الإنسانية المتهاوية لهذا العالم الذي نعيشه، لكنه ليس مرتاحا في الانتقال بين الخاص والعام ومنح الشخصيات تبريرات أكثر عمقا لما تقوم به.

إلى ذلك، هناك حقيقة أن الشخصيات، افتراضيا، تعيش في دبلن.

* ظل السياسي

* في المسابقة فيلمان إيطالي وإسباني، الأول من عروض كارلوفي فاري في يوليو (تموز) وشيكاغو في أكتوبر (تشرين الأول) الماضيين. «تحيا الحرية» هو فيلم كوميدي ذو نطاق اجتماعي مع تلوين سياسي حول رئيس حزب معارض اسمه إنريكو (توني سرفيللو) يقرر التنازل عن منصبه والتواري بعيدا عن السياسة فيختفي فجأة. يبحث أعوانه عنه استباقا لمؤتمر مهم للحزب عليه أن يخطب فيه، فيهتدون إلى شقيقه التوأم جيوفاني (سرفيللو أيضا) المشابه تماما لشقيقه باستثناء أنه متحرر من المنطق ومن التصرفات المعهودة لسياسي خبير. في الواقع جيوفاني خريج مستشفى المجانين مع شبهة أنه الآن استعاد كامل قواه العقلية. أمر سيبقى محط التساؤل إلى أن تثبت الأحداث صواب ذلك من عدمه.

إنريكو يهجر زوجته آنا (ميكيلا سيزوني) ويلجأ إلى منزل عشيقته السابقة دانييل (فاليريا بروني دتيتشي) المتزوجة الآن من مخرج سينمائي شرقي اسمه مونغ (إريك نغوين) الذي ربما قصد به أن يكون بمثابة أي مخرج آسيوي من العاملين في باريس هذه الأيام. هذا الجزء من الفيلم (بمشاهد متباعدة) ضعيف، ما يجعل المشاهد يتوق أكثر لمتابعة الجزء الإيطالي من الفيلم ذاك الذي نرى فيه ما سيقوم جيوفاني به وقد وجد نفسه يرتفع من جليس مقاهي إلى صالونات السياسيين.

رغم موضوعه المثير، يختار المخرج روبرتو أندو معالجة جادة تفتت المناطق الكوميدية الداكنة وتعالج المسألة على أساس من القوالب الجامدة والمفارقات المتوقعة. من ناحية أخرى يطرح السؤال المحق حول ما إذا كان السياسيون الإيطاليون يستطيعون الاهتزاز قليلا لنفض تراب الأفكار والممارسات الثابتة التي يعمدون إليها في تسيير شؤون البلاد (ليسوا وحدهم).

* علاقة عاطفية مع السينما

* على نحو مختلف يأتي فيلم المسابقة الثاني «الآملون» (تمت ترجمته هنا إلى «الجري وراء الأوهام») وهو فيلم إسباني ليوناس ترويبا (ابن المخرج فرناندو ترويبا) سبق عرضه في مهرجان لندن الأخير. يختلف من حيث أسلوب العمل قبل كل شيء. نحن هنا مع محاولة يجري فيها الجمع بين عملي الفرنسي جان - لوك غودار البصري والأميركي جون كازافيتيز الأسلوبي في إطار الفيلم المستقل والذاتي إلى أبعد الحدود من دون أن يكون ترجمة لأحداث شخصية بالضرورة.

بطله كاتب سيناريو ومخرج شاب (فرانشيسكو كاريل) الذي يعيش في مدريد اليوم والذي ما إن تعود صديقته السويسرية ليليان (إيزابيل ستوفل) إلى بلدها حتى يتعرف إلى صوفيا (الجيدة أورا غاريدو). لكن الفيلم ليس عاطفي الحكاية ولو أن الحب له حجم مما يرويه، بل يتناول الأمور الوجدانية المعيشة في بال بطله ليون ومحيطه السينمائي. هذا المحيط يمنح الفيلم مرجعيات لهواة الأفلام فيجري ذكر عناوين أعمال حينا، والحديث عن أفلام حينا آخر (ودخول السينما في مشهد لاحق).

ليس هناك ما يقدر أكثر مما هو ظاهر: دراما رومانسية خفيفة مع مقاربة ذاتية في الموضوع كما في أسلوب العمل وهو يضرب على وتر حساس عندما يحن إلى الأمس وينظر بريب إلى زمن الديجيتال الحالي. جرى تصويره بالأبيض والأسود وبتقنية تذكر كلما انتقل الفيلم من جملة مشاهد إلى جملة مشاهد أخرى، بأيام التوليف على المافيولا وأسلوب غودار المونتاجي إنما من دون توتره. في الواقع يوجه المخرج ترويبا تحيته إلى الإسباني خافييه روبيللو الذي قاد مسيرة الفيلم الإسباني المستقل.

مأزق الفيلم هو أن ما يعرضه من حكاية لا يرتفع إلى كثير طرح. يتوخى أسلوب فيلم روائي حول فيلم تسجيلي يجري تحقيقه حول شخصيات خيالية. هذا أيضا يسبب بعض الإرباك ولو أنه في نهاية الأمر يعبر عن ناحية تثير التأمل.