ذاكرة اسكندنافية بعيدة تلون العروض

أيام مهرجان مراكش السينمائي الدولي 4

من «المقامر» و الابن كأبيه
TT

على نحو شامل، ليس هناك من فيلم غربي متسابق لم يسبق له أن عُـرض في مهرجان ما قبل وصوله إلى مهرجان مرّاكش. من ناحية ليس صحيحا أن هذا يعني أن المهرجان أقل أهمية من ذلك الذي تحتشد له الأفلام التي تعرض للمرّة الأولى عالميا، بل الصحيح هو أن المهرجان يختار ما يريد هو تقديمه لجمهوره المغربي والعالمي المختلط وليس ما يمكن أن يتمحور حول فيلم غير مسبوق العرض قد لا يحمل من الأهمية سوى هذه الميزة.

من ناحية أخرى، فإن الناقد الذي جال بين مهرجانات كثيرة يجد نفسه قادرا - وقد بات لديه ما يكفي من الوقت المخصص - لأن يولي أفلاما أخرى بعيدة عن المسابقة جل اهتمامه لأنها فرصة لمشاهدة أعمال لم يعرضها مهرجان آخر في هذا التكريم أو ذاك. وما فعله مهرجان مرّاكش هذا العام هو حشده لمجموعة كبيرة من الأفلام الاسكندنافية في مظاهرة شاملة لبلدان تلك المنطقة التي قلّـما اكترث مهرجان عربي من قبل للاحتفاء بمواهبها وأعمالها.

عشرون فيلما في هذه التظاهرة مزدانة بالقيمة، يتقدّمها، من وجهة نظر شخصية، فيلم فيكتور سيوستروم «الريح» بطولة ليليان غيش سنة 1926.

سيوستروم (ولد سنة 1879 ومات سنة 1960) كان الأب الروحي للمخرج الشهير إنغمار برغمن (الذي تحاشى المهرجان حشر أي فيلم له في هذه التظاهرة لسبب غير معلوم) والأب الكلي للسينما السويدية. ومثل برغمن، أحب سيوستروم المسرح قبل السينما، لكن ما أن أنجز فيلمه الأول سنة 1912. وعنوانه «حياة مخروبة»، حتى أدرك أين يقع مستقبله على الخارطة الفنية. من بعد ذلك الفيلم أنجز 54 فيلما آخر انتهت سنة 1937 بفيلم «تحت الرداء الأحمر» بطولة الممثلة الفرنسية الغامضة أنابيللا (1907 - 1996).

سنة 1924 جلبته شركة غولدوين (قبل أن تصبح شريكا في ستديو مترو - غولدوين - ماير) ومنحته فرصة تحقيق فيلمه الأميركي الأول «سمّـي الرجل» Name the Man وبعده بقي سيوستروم في هوليوود لينجز فيها أفلامه اللاحقة حتى سنة 1930 وواحد من أهم أفلامه في تلك الفترة كان «الريح» الذي هو أكثر من مجرد عمل حول امرأة تواجه رياحا طبيعية عاتية تهب عليها بعد انتقالها من شرق البلاد إلى غربها. هناك وسط مشاهد تلك العاصفة العاتية التي تزمجر حولها، حكاية تنضوي على عاصفة كبيرة أخرى وموازية لامرأة وجدت نفسها في خضم من العواطف الهادرة انتهت بها إلى الجنون. دور صعب على ممثلة خصوصا لواحدة مثل ليليان غيش كانت ظهرت وديعة ومحبوبة في أفلام صامتة أخرى.

إنه الفيلم الوحيد في المجموعة الذي يقترن تاريخ إنتاجه بالسينما الصامتة. بل إن كل الأفلام الأخرى هي من ثمار السنوات الخمس الأخيرة بما فيها الفيلم الدنماركي النروجي السويدي المشترك «الفتاة ذات الوشم التنين» (2009) لنيلز آردن أوبلف. ومن أفضل الأفلام المعروضة «المراقب» أو The Monitor للنرويجي بال سليتون و«علاقة ملكية» لنيكولاي أرسل (دنمارك) و«الصيد» لتوماس فنتربيرغ (دنمارك) كما «أوسلو، أوغست 31» لواكيم تاير (نروج).

رهان على الحياة غير بعيد عن تلك البلاد وفّـر المهرجان لنا فيلما رائعا، ربما هو أفضل فيلم من بين كل الأعمال المتسابقة. إنه «المقامر» الآتي من لتوانيا ممهورا بتوقيع مخرج يصنع فيلمه هذا كأول عمل له اسمه إيغناز جونيناس. هذا المخرج وُلد سنة 1971 ما يعني أنه أنجزه وهو في الثانية والأربعين من العمر، ومع أن هذه الملاحظة ليست أساسا لتقييم فيلم، إلا أنها تبدو كما لو أنها مسؤولة، على نحو ما، عن تلك الخبرة الكبيرة التي يودعها المخرج جونيناس في عمله الأول هذا.

فنسنتاس (فيتوتاس كانيوسونيس) رجل طيّـب يعمل في هيئة للإسعاف تقع في ضاحية صناعية من المدينة ويهتم فعلا بإنقاذ من يهب ورفاقه لإنقاذهم حين ينطلقون لمثل هذه المهام. لكنه أيضا رجل مقامر. القمار تحت بشرته وفي أنفاسه. يفتح الفيلم عليه وعلى زملائه وهم يلعبون ويقامرون، ثم ينطلقون للنجدة حيث ينجح في إنقاذ حياة امرأة في شقّـة رجل غامض الميول نراه يدافع عن نفسه في مواجهة تهمة محتملة، وبالإنجليزية «أنا فنان».

فنسنتاس ليس سعيدا. لقد ترك الإدمان على القمار ينهش من أيامه ويعرّضه للضرب عندما يخفق في دفع الدين الذي عليه لأحد الجباة. لكنه إذ يقوم عن الأرض بظهر يحمل علامات الضرب المبرح ومن آلام مبرحة، لا حول لديه سوى الإقدام مجددا على القمار لعله يستطيع أن يدفع دينه. في هذا الظرف يتعرّف على المرأة ليفا (أونا ميكاس) المنضمّـة حديثا إلى الفريق وهو ينقذها من الموت عندما تسقط، خلال تأديتها لواجب، في البحر. يقعان في الحب وهذا ما يستدعي فتح خط جديد نتعرّف فيه على ابنها الذي يرقب علاقتها بفنسنتاس بعدم رضى. ما يلبث أن يتم إدخاله إلى المستشفى الذي يطلب من الأم مبلغا كبيرا من المال لمعالجته. لا تملكه ولا تملك دفع أجر الشقّـة التي تعيش فيها. وإذ تتطوّر المفارقات على نحو هادر، يضعنا المخرج وسط دوّامات من الأزمات المتلاحقة لا بالنسبة لها فقط بل بالنسبة إلى فنسنتاس الذي يجد نفسه أمام حل وحيد لإنقاذها: سرقة غلّـة القمار المودعة في مكتب الإسعاف وحرق المكتب وإخفاء المال لحساب من يحب بعدما تم اتهامها بسرقة المورفين وذلك لضمان إسكاتها عما يحدث. في الواقع، القمار لم يعد - منذ النصف الثاني من الفيلم - في هيئة مراهنة على أوراق اللوتو أو أي من الألعاب الإلكترونية المتوفّرة اليوم، بل على الجرحى الذين يتم نقلهم… هل يعيش الواحد منهم أو يموت؟ زملاء فنسنتاس وبل فنسنتاس نفسه أصبحوا يقامرون بالحياة والموت ذاتيهما.

الفيلم داكن النبرة والموضوع، وليس - بالتالي - من تلك التي تهم القطاع الأوسع من الناس. لكنه صادق وفني ملهم. المخرج لا يرى السعادة كما يراها الآخرون. في كل حفل يصوّره في هذا الفيلم، في كل لحظة يبدو فيها أبطاله منتشين بفعل يشبه النجاح أو الحظ الحسن أو سواه، يعمد إلى «سلو موشن» يخلع عن اللحظات جمالها المفترض. بذلك الفيلم قاس على شخصياته، لكنه قاس أيضا على مجتمع من العوز والفقر والفساد الأخلاقي والاجتماعي. معالجاته الفنية لمثل هذا الموضوع بالغة الدلالة. ليس عليه التقاط الجمال لكي ينعاه، بل ينعاه باختياراته من الأماكن والسلوكيات والمفاجآت غير السارّة وبالكثير من الواقع.

في النهاية ها هي بطلة الفيلم (التي كان فنسنتاس علّـمها السباحة) تطفو فوق الماء. لقد خرجت من التجربة المرّة بمعرفة إضافية. صار لديها القدرة، يفترض الفيلم ومشاهده، على أن تنفصل عن اليابسة الهادرة بالأخطاء والخطايا.

حكاية عائلتين خارج المسابقة فيلم المخرج الياباني كوري - إيدا هيروكازو اللافت والجيد. يوفّر المخرج زاوية مختلفة للحديث عن عائلتين تجمعهما معضلة واحدة: لقد أقدمت ممرّضة في لحظة غيظ على إبدال وليد ذكر لعائلة بوليد ذكر لعائلة أخرى وكتمت فعلها إلى ما بعد الساعة الأولى من عرض هذا الفيلم الذي تبلغ مدّة عرضه ساعتين. الفيلم يأتي على ذكر السبب لكنه يبني عليه الوضع بأسره. ففحص طبي يظهر أن لا نونوميا (فوكوياما ماساهارو) ولا زوجته ميدوري (أونو ماشيكو) هما والدا هذا الطفل النابع الذي بلغ ست سنوات من العيش المترف بينهما. وبالبحث تم الاهتداء (سريعا!) إلى طفل آخر اعتقد أهله إنه ابنهما بينما هو ابن العائلة الأولى. الابن الأول، واسمه كايتا ينعم ببحبوحة والديه المعيشية. يعيشان في فيللا كبيرة (ولو أننا نشاهد بعض غرفها فقط) ويتعلم لعب البيانو. سيكشف الفيلم لاحقا على أنه كان مفتقدا لحضور أبيه المشغول بعمله في المكتب طوال الوقت. الثاني، واسمه المختصر رايو، يعيش بين أشقائه المنتمين لعائلة أقل يسرا لكنها الأكثر تلاحما وألفة. والعائلتان توافقان على عملية استبدال فتأخذ كل عائلة ابنها الخاص بها. معالجة هيروكازو سهلة. المونتاج هنا مرتاح لفيلم عن تمزّق أسري مختلف. الزوجان متعاطفان وباقيان معا ومشتركان في مواجهة الأزمة الناتجة. كذلك يلقي الفيلم ظلاله على الولدين من حيث صعوبة قبولهما وتأقلمهما. في واحد من المشاهد يبدأ رايو بقبول الوضع الجديد. نراه يلعب مع أبيه نونوميا قبل أن يقرر في لحظة مراجعة تناسب عمره، الهروب إلى أبيه الآخر. هذا في قمّـة شعور نانوميا بأنه بات محروما من ابنه الذي ليس منه بيولوجيا. لا يسقط الفيلم في أي ميلودراما لكنه يطول قليلا عما كان يجب أن يكون عليه. أيضا لا يساعد المشاهد حقيقة أن الولدين متشابهان كملامح إلى حد يدفعه للخلط بينهما. كان الأجدى لو كانا مختلفين طالما أنهما في الواقع ليسا شقيقين. برودة إيدا «إيدا» (داخل المسابقة) هو جديد المخرج بافل بوليفكوفسكي وفيه يعود إلى موطنه الأول (بولندا) بعد عقود من تحقيق أفلامه خارجها. وهو يتابع هنا حكاية راهبة شابّـة اسمها آنا، تزور عمّـة لها لتكتشف عن طريقها أن أصلها يهودي، وأن عائلتهما قضت خلال الاحتلال النازي. يوسّع الفيلم أرجاءه للحديث عن مسؤولية البولنديين المسيحيين، لكن اهتمامه، لحسن الحظ، يبقى في سياق موضوعه الآني الذي تقع أحداثه سنة 1962. يؤم المخرج تصويرا أبيض وأسود للفيلم يقوم على إشراك الديكورات في تكوين المشاهد. أحيانا يكمن الشخص في أسفل الصورة ليتيح لها أن تتشكل من المحيط.

المشكلة أن الفيلم يخفق في أن يأتي محسوس الأهمية. طبعا موضوعه ملموس وقريب من ذات المخرج بلا ريب، لكنه يمر كما لو كان مشهدا بعيدا عن مشاهديه خصوصا أن تصويره قائم على قدر من الفذلكة كما أشرت تمتد طوال الفيلم وتمنحه برودة عوض أن تثير اهتماما.

من المغرب فيلم ذو حضور نسائي قوي في فيلم جيّد هو «خائنات» ويدور حول مليكة (شيماء بن عائشة) التي تقود فريقا موسيقيا يعزف ويغني «البانك» و«الراب». هذا هو مطلع الفيلم منطلقا بعد ذلك لسبر غور حياتها الخاصّـة ومشاكل عائلتها المدقعة في الفقر. معالجة المخرج الأميركي ليست هوليوودية وفهمه لطبيعة الحياة المغربية ولإيقاعها مشهود كذلك امتلاكه سيناريو جيّد النص والحوار إمكانيات ساعدته على تكوين عمل ممتاز. لكن ما يسجّـل للفيلم تمثيل بطلتيه شيماء وصوفيا. الأولى تمتلك الفهم لكيفية المحافظة على حضور قوي وثابت طوال الوقت، والثانية تبدأ تشخيصها من نقطة معيّـنة ثم تصعد بها تدريجيا إلى حيث تريد.

مليكة تريد أن تحصل على ما يلزم من المال لإنتاج برومو غنائي طلبته منتجة فرنسية. لهذه الغاية توافق على أن تقود سيارة محمّلة بالمخدرات لكي يتم تهريبها من على المرفأ إلى فرنسا. إنها مهمّـة جديدة وخطرة ويزيدها خطورة رغبتها في مساعدة المرأة التي تشاركها الرحلة (صوفيا عصامي) التي تتحمّـل الكثير من الضيم والحامل بجنين لا يبدو أنه مضمون المستقبل. «الخائنات» فيلم مصنوع جيّدا ومنفّـذ كعمل لا يخجل من أن يعتمد التشويق سياقا له.