جميلة بوحيرد: اعذروني لا أتكلم العربية بل اللغة التي علمني إياها الاستعمار

كرمت في بيروت كرمز لـ«الثورة العربية»

جميلة بوحيرد
TT

كثيرون كانوا يتمنون رؤيتها. كثيرون أيضا لم يصدقوا أنها ستأتي شخصيا إلى حفل تكريمها في بيروت. بدا الأمر للبعض بعيد المنال، خصوصا بالنسبة لأولئك الذين قرأوا عن نضالها طويلا، واستذكروا اسمها في كتب التاريخ المدرسية. لكن جميلة بوحيرد حضرت إلى قصر اليونيسكو، جاءت في وقت صعب تختلط فيها معاني الثورة بالفوضى، والحرية بالخراب، والأمل باليأس. لهذا بدا تكريم جميلة بوحيرد من قبل قناة «الميادين» كما قال مديرها غسان بن جدو، ليس من أجل عيني جميلة فقط وإنما «من أجلنا، من أجل تاريخنا، وواقعنا، وأجيالنا المقبلة. التكريم ليس فعلا استعراضيا، أو مهرجانا أجوف. إنه تكريم في زمن ملتبس تمنحه بوحيرد شيئا من الوضوح الذي نحتاج. بالحفاوة والموسيقى وشعر بدر شاكر السياب وعبد الوهاب البياتي، وبإطلالة لسميح القاسم وكلمات مؤثرة أبكت جميلة بوحيرد أكثر من مرة، كرمت المرأة الرمز للثورة الجزائرية. من المفارقات أن تكون الثائرة الأشهر في الجزائر، وربما في العالم العربي بأسره، اليوم، والتي ما تزال على قيد الحياة، هي امرأة، وسيدة ذكية تعرف كيف تنتقي كلماتها، ومتى تظهر وفي أي الأوقات تتوارى».

بعد غناء لكورال الفيحاء حيث أدى أغنيتين، إحداهما «يا أهل الأرض وانتو ترابا عمال وشعرا وفلاحين» لإيلي شويري وأخرى «عصفور طل من الشباك» لمارسيل خليفة، نالتا إعجابا شديدا من المكرمة، عرض فيلم قصير، فيه مشاهد من الثورة الجزائرية، وصور لجميلة وهي صبية صغيرة. وحمل الفيلم الحاضرين إلى شوارع العاصمة الجزائرية ومينائها، وساحاتها، وقصبتها التي ولدت فيها جميلة. استطاع المتفرج أن يزور القصبة تلك المنطقة الأقدم في قلب العاصمة، ببيوتها المتلاصقة البيضاء، وأزقتها وقصورها وأدراجها الشاهقة. تظهر جميلة بوحيرد في الفيلم تتحدث عن المناضلين الذين شاركوها مقاومة المحتل الفرنسي، تقول إنها تتمنى لو تكتب عنهم، لو تتكلم عنهم، لأنهم يعيشون فيها، لكنها تخشى أن تبقى اللغة مقصرة في التعبير عما تكنه لهم، وعما قدموه.

وبعد أن تلا غسان بن جدو كلمة معبرة ومؤثرة، دعا ضيفته لتكريمها، مقدما لها درعا حفرت عليه صورتها، شارحا أن هذا التكريم الذي يحمل اسم «جدارة الحياة» ليس سوى فاتحة تكريمات، ستحتفي بكبار لهم إنجازاتهم في هذه الأمة. ولمن يريد أن يستعيد قصة نضال هذه الفتاة ذات 22 ربيعا، التي حاربت الفرنسيين بالقنابل وقبض عليها، ثم حكم عليها بالإعدام، وعذبت وبقيت خلف القضبان نحو ثلاث سنوات، وأفلتت من الموت بعد أن خفف عنها الحكم إلى المؤبد، بمقدوره أن يعود إلى موقع خصصته الميادين لجميلة ولمسارها الحافل. علما بأن القناة تحتفي بجميلة لمدة أسبوع كامل.

وحين طلب إلى جميلة بوحيرد في حفل التكريم، أن تصعد إلى المنصة، بدت امرأة خجلى، فتية في الـ87 من العمر، رصينة وخفيفة الظل.

تحدثت بالجزائرية معتذرة من الحضور لأنها لا تجيد الفصحى: «أتكلم عربية القصبة التي قد لا تفهمونها، وسأتكلم معكم بالفرنسية، اللغة التي علمني إياها الاستعمار. هي لغة تكلمتها مع مناضلين فرنسيين كانوا معنا». وتحت إصرار الحضور بدت مستعدة لأن تتخلى عن الكلمة التي كتبتها بالفرنسية لتخاطب الموجودين بالمحكية الجزائرية، لولا تدخل غسان بن جدو، طالبا أن يسمح لها بقراءة كلمتها، وبأن تترك على سجيتها.

وقرأت جميلة بوحيرد ورقتها التي وزنت كلماتها بميزان دقيق، لا كلام حماسي كبير وشعاراتي، إنه كلام فيه شفافية إنسانية وتحية لبيروت، وإكبار للبنان الوطن بكل مواطنيه على اختلاف مشاربهم. جاءت بوحيرد إلى بيروت بخطاب أرادته جامعا محبا ووطنيا وعروبيا، لا تطرف فيه ولا تشدد، يمكن أن يمس أي فئة أو مجموعة.

سجلت بوحيرد إعجابها بما يقدمه لبنان من نموذج، تدافع عنه النخب العربية الديمقراطية والتقدمية، في عصر تنتشر فيه الظلامية في الكثير من الدول العربية. وقالت جميلة: «لهذا أنا دافعت عن لبنان وأدافع عنه في المحافل وكلما استطعت ذلك».

بدت الثائرة السبعينية متأثرة لما أحيطت به من حب، وزعت قبلاتها على الحضور، وذرفت قليلا من الدمع، واستطاعت أن تحول حفل تكريمها إلى مهرجان أبهج محبيها.