البوسني يدافع عن حق الحياة.. والصربي يقتل الصربي

أفلام الأوسكار معروضة في مهرجان «بالم سبرينغز»

من الفيلم الصربي «دوائر»
TT

أكثر من ألفي مدعو احتشدوا في ليلة الثالث من هذا الشهر في القاعة الكبيرة التي استضافت على مسرحها بعض أهم نجوم السينما الأميركية. ميريل ستريب كانت هناك، وبرادلي كوبر، وساندرا بولوك، وماثيو ماكونوفي، وبروس ديرن، وتوم هانكس، المنتج هارفي ونستين وهذا الأخير لا يأتي لتوزيع الابتسامات، بل حبا في ترويج أفلامه التي قد يكون لها نصيب حين تعلن الترشيحات الرسمية للأوسكار بعد نحو 10 أيام.

هارفي قال لهذا الناقد: «أفلامي الثلاثة التي أريد أن أراها تدخل الأوسكار لتخرج بالجوائز جديرة. أنتم النقاد وافقتم على ذلك وهذا أمر مشجع دوما ويعني لي الكثير».

هذه الأفلام هي «مانديلا: المسيرة الطويلة» لجوستين شادويك و«أوغوست: مقاطعة أوساج» لجون ولز و«فيلومينا» للبريطاني ستيفن فريرز. الأول، جيد رغم أنه لا يفتح بالضرورة صفحات لم تتطرق إليها أفلام أخرى عن محرر جنوب أفريقيا من نظام التفرقة العنصرية، نيلسون مانديلا. الثاني، دراما عن العائلات المفككة، والثالث، عن الصحافي الذي تكفل بالبحث عن ابن تاه من أمه عندما باعته الكنيسة، حسب الفيلم المبني على مذكرات الأم، إلى عائلة أميركية.

والمهرجان والأوسكار معقودا الحلقات. لجانب هذه الأفلام، هناك حقيقة أنه احتفال بالجديد والكثير من هذا الجديد مأخوذ بعين اعتبار أعضاء الأكاديمية. إلى ذلك، وكما ذكرنا في الرسالة السابقة، هناك الأفلام الأجنبية التي تم إرسالها لكي تجرب حظها في المطحنة الكبيرة. في الواقع يمكن للمرء أن يغرق تماما في عشرات الأفلام التي شاهدها أعضاء الأكاديمية والتي يشاهدها الآن جمهور المهرجان الغفير. من «دروس في التناغم» لأمير بيغازين (كازاخستان) إلى «غلوريا» لسابستيان ليليو (تشيلي) ومن «غريغريس» لمحمد صالح هارون (تشاد) حتى «الصاروخ» لكيم موردونت (أستراليا).

بعض هذه الأفلام عربية ومنها ما هو معروض هنا: «خيول الله» للمغربي نبيل عيوش و«الشتا اللي فات» للمصري إبراهيم البطوط و«وجدة» للسعودية هيفاء المنصور و«عمر» للفلسطيني هاني أبو أسعد، والأخير هو الوحيد الذي نفذ مما يسمى بـ«القائمة الطويلة» إلى «القائمة القصيرة»، أي من لائحة الأفلام التي تم قبولها للمعاينة، إلى لائحة الأفلام التي نالت أكبر قدر من أصوات اللجنة التي تقوم بمعاينة الأفلام الأجنبية، وما تعلنه، في الـ16 من هذا الشهر، يذهب حينها إلى الأعضاء الستة آلاف الذين سيختارون واحدا من بينها.

* ثلاثة أقسام

* إنها مناسبة مواتية للمهرجان للبحث عن موطئ قدم بين تورنتو وصندانس وكونه الأول في روزنامة المهرجانات يتيح له أن يسبق سواه بالفعل، لكن الأسبقية ليست كافية ولذلك تراه سعيدا بقيام الإعلام المحلي، على الأقل، بربطه بالأوسكار المقبل.

هناك أكثر من 40 فيلما من تلك التي عرضت على أكاديمية العلوم والفنون السينمائية، مانحة الأوسكار، تعرض هنا كما سبق القول والمرء لا يريد تفويت فرصة مشاهدتها. قليل منها شوهد في مهرجانات سابقة ما يترك المزيد من الوقت للاكتشاف.

أحد هذه الأفلام هو «أصوات مجاورة» لكليبر مندوزا فيلهو. هذا مخرج برازيلي كان مارس السينما التسجيلية وفيلمه الروائي هذا يحمل ملامح ذلك. هو معالجة جميلة ومتعددة الشواغل لعمل ينشد تقديم حياة عدد من الشخصيات يعيشون أو يلتقون في شارع واحد من حي معين من مدينة رسيف (شمال شرقي البرازيل).

الهم المنتقل بحرية بين هذه الشخصيات مشغول على أساس من الأبعاد في عالم مستقر في الظاهر ومضطرب فيما وراء ذلك المظهر.

قسم المخرج عمله إلى ثلاثة أقسام بثلاث حكايات متصلة عبر بعض شخصياتها، منفصلة في قدر الاهتمام التي يبديه كل قسم إلى الحالة التي يوفرها للمشاهد. تلتقي هذه الأجزاء، لجانب موقعها الجغرافي الواحد، في أنها تدور حول طبقة وسطى متخبطة بين الإخفاق والخوف منه والوصول وعدم القدرة عليه.

شخصيات فيلهو وحيدة لكن بعضها أكثر وحدة في الظاهر من شخصيات أخرى مثل ربة البيت بيا (مي جنكنز) التي لا تعلم كيف تداري لحظات من القسوة تصيبها كونها تريد أن تتواصل والآخرون ولا يستطيعون. وما يفعله الفيلم بنجاح هو دمج الشعور بالوحدة مع الشعور بالخوف وعدم الأمان كحال المالك فرنشسكو الذي يملك الكثير من عقارات الحي لكنه يخشى الآخر الغريب.

الوضع المذكور ينال أيضا من مصالح الشخصيات العاطفية والاقتصادية ويظهر خوفها من الموقف خشية أن تخسر شيئا في المقابل. الفيلم ليس من تيار السينما الواقعية لا في أصلها الإيطالي ولا في أسلوبها البرازيلي الجديد، لكن طروحاته واقعية حتى عندما يعمد، في الجزء الأخير، إلى النوستالجيا (الحي الذي يتبدل مشهده من وجهة نظر رجل يتذكر طفولته فيه والمشهد الآخر لصالة السينما التي تحولت إلى خربة). ما كان الفيلم يحتاجه سياسة مونتاجية تؤدي إلى لملمة شمل مشاهد تستغرق أوقاتا أطول مما تستحق لتنتقل الكاميرا منها لمشاهد تترابط لاحقا وليس أمامك في اللحظة المطلوبة.

* حياة على أي حال

* فيلم البوسني دنيش تانوفيتش «فصل في حياة جامع الخردة» هو أحد الأفلام التي وصلت إلى الخط ما قبل الأخير (على عكس الفيلم السابق) وهو للمخرج الموهوب دنيش تانوفيتش، الذي سبق له وأن حظي بأوسكار أفضل فيلم أجنبي عن فيلمه المهم «أرض لا أحد» ممثلا السينما البوسنية والهرزيغوفينية سنة 2002. أسلوب عمل تانوفيتش في هذا الفيلم يختلف عن أسلوبه في أعماله السابقة من حيث إنه يحتضن خطة تسجيلية الانسياب تحاذي الحياة التي يؤمها على الشاشة ممثلون غير محترفين. لا يعني ذلك مطلقا أن الفيلم تسجيلي لكنه تسجيل لحياة عائلة هي شخصياته الرئيسة في هذا الفيلم الذي صوره في 10 أيام بكلفة لا تزيد على 70 ألف يورو كما قال لي.

حكاية ذلك الرجل الفقير (هو بالفعل رب الأسرة التي وقعت الأحداث لها) الذي يعيش وزوجته في حجرة مع طفليهما ويعمل في جمع ألواح الحديد وأشكال الصفائح من المزابل والسيارات المعطلة لبيعها كخردة مع بعض جيرانه. لكن هذا القدر الضئيل من المال لا يكفيه لدفع فاتورة الكهرباء في وقتها، لذلك عندما تقع زوجته مريضة بعدما مات جنينها في بطنها، يجد نفسه غير قادر على معالجتها في أحد مستشفيات المدينة القريبة. الواضح أن المخرج حين سمع بتلك الواقعة حين رفض المستشفى إدخال الأم المهددة بالموت بسبب الجنين الميت في بطنها قرر أن هذا سيكون موضوع فيلمه الجديد. لكن سرعة إنجازه للفيلم بميزانية يصرفها فيلم أميركي في يوم عمل واحد، لم تؤثر على جودة العمل ضمن تلك الحدود الطبيعية له.

الدراما المعروضة طبيعية التأسيس وطبيعية العرض وقائمة على تصوير سعي رجل لإبقاء زوجته على قيد الحياة. لا كلمات عاطفية ولا مشاهد كبيرة ولا خوض في النقد المباشر. ولا حتى الحياة المدقعة تبدو كما لو كانت تستحق الدفاع عنها.. لكنها حياة على أي حال.

* دوافع

* من الجانب الآخر من الحدود يأتينا «دوائر» للمخرج الصربي سردان غولوبوفيتش. مثل «فصل في حياة جامع الخردة» لا يتعاطى «دوائر» موضوع الحرب، لكنه مشبع به في خلفية هي، أيضا كالفيلم البوسني، رمادية. فوق ذلك هذا الفيلم هو أيضا مبني على قصة حدثت قبل 12 سنة ويفتتح بها: ثلاثة جنود من الصرب ينهالون على حانوتي بوسني بالضرب المبرح. يتدخل ماركو، وهو جندي صربي بدوره، لإيقافهم. هنا يتوقف الفيلم عن متابعة ما حدث وينتقل إلى الزمن الحاضر متمحورا حول شخصيات متصلة بما وقع آنذاك، وإن كان كنه هذا الاتصال غير واضح على نحو متساو بين الثلاثة. هذا جزء من الغموض الذي يريده المخرج لفيلمه حتى مشارف النهاية حيث يتبين أن الجندي الذي حاول إنقاذ المسلم من الضرب قتل على أيدي زملائه وأن كل واحد من هؤلاء ما زال يعيش في دوامة ما حدث. تمثيل جيد. اعتناء بالشخصيات ولو أن المشاهد سيجد نفسه مدفوعا للربط بين وقائع مفككة مخافة أن يخسر تفصيلة تهديه إلى ما الذي يحدث أمامه.

مهما يكن، فإن معرفة دوافع الشخصيات ذاتها تبقى واضحة، على عكس ما يحدث في فيلم تقدمت به اليونان للترشيح ويعرضه «بالم سبرينغز» بعنوان «ولد يأكل طعام العصفور». الدوافع في هذا الفيلم الذي أخرجه إكتوراس ليجيسوس ليست بالوضوح ذاته والعمل بدوره ليس من النوع الذي يمكن الدفاع عنه طويلا. هو عن شاب يعيش منفردا ومنزويا ولديه عصفور هو صاحبه الوحيد. يعيش الشاب في شقة وضيعة فوق شقة وضيعة أخرى لرجل عجوز. الرجل يعتمد على هذا الشاب لمساعدته في شؤون النظافة والطعام والتنظيف مقابل بعض المال. وفي يوم يموت والشاب يجد نفسه بلا بيت. يحمل عصفوره ويدخل دكانا مهدما ليجعله المكان الذي يأوي إليه. ذات يوم يعود ليرى أن باب الدكان مقفل وبالطبع عصفوره في الداخل. كل هذا واضح جيدا ولا يحتاج إلى دلالات تزيده وضوحا، لكن الشاب مدمن على أكل طعام عصفوره ولا نراه يأكل سواه. طبعا الدافع كامن في وضع يريده المخرج أن يبقى غريبا، لكن الجيد (شبه الوحيد) في هذا العمل هو أن هذا الوضع هو نتاج حالة إحباط اليونانيين من الوضع الاقتصادي. الفيلم لا يقول ذلك مباشرة بل إيحاء.