إذا كان باستطاعة الحاسب الآلي اجتياز اختبار القبول بجامعات القمة، فماذا يعني ذلك بالنسبة للبشر ذوي العقليات المتوسطة؟ هذا السؤال أزعج نوريكو آراي، أستاذة الرياضيات، منذ أن دخلت الفكرة إلى رأسها قبل ثلاث سنوات. وقالت في مقابلة أخيرة معها «أردت أن أحصل على صورة واضحة حول عدد أنشطتنا العقلية التي يمكن استبدالها من قبل الآلات. ولعل ذلك هو السبب في بدء المشروع. فهل يستطيع الحاسب أن يدخل جامعة طوكيو؟ مشروع الإنسان الآلي توداي».
تعد جامعة طوكيو، المعروفة باسم «توداي»، هي الأفضل في اليابان. ويتطلب اختبار دخولها المرهق سنوات من الدراسة لاجتياز وإمكانية هزيمة أكثر واسعي المعرفة والاطلاع. الحاسبات الحالية مدربة على تجميع كم هائل من المعلومات، تفشل في فهم مهامها اللغوية الطبيعية كلية.
تساعد آراي مجموعة من الباحثين في المعهد الوطني الياباني للمعلوماتية، حيث تعمل على تطوير آلة قادرة على تجاوز اختبارات القبول في «توداي» بحلول عام 2021. وتشير إلى أنهم في حال تمكنوا من النجاح فينبغي أن تكون قادرة، وفق برامج خاصة، على القيام بالكثير من الوظائف - وربما غالبية المهام - التي يقوم بها خريجو الجامعات.
ومع تطور الذكاء الصناعي، بدأت مهارات الحاسبات في التفوق على نظيرتها البشرية، مثل تلخيص المعلومات ومعالجة اللغات المختلفة. وتضيف آراي أنه مع الأخذ في الاعتبار ذلك النمو المتسارع في القدرات الحاسوبية والإنجازات الجديدة في برامج الذكاء الصناعي، تبدو مهمة إنجاز الإنسان الآلي «توداي» ممكنة، على الرغم من صعوبتها الشديدة. ويتميز الكومبيوتر المسمى «توداي - كون»، الذي تقوم آراي بتطويره كنموذج لمشروع «توداي»، بقدرات ممتازة في الرياضيات والتاريخ، غير أنه يحتاج إلى بذل مجهود أكبر في قراءة النصوص.
وتشير آراي إلى أنه إذا لم يجر التعامل بشكل جيد مع الاعتماد المتزايد على الذكاء الاصطناعي، فإن ذلك من شأنه أن يؤدي إعادة هيكلة جذرية لكل النشاطات الاقتصادية وفرص العمل المتاحة في السوق، فضلا عن تطوره بسرعة كبيرة تفوق قدرة النظم الاجتماعية والتعليمية على التكييف لمجاراة التطور في ذلك المجال. وتضيف آراي أنه يمكن أن تحل الآلات الذكية محل الموارد البشرية ذات التكلفة العالية، وهو ما يمكن أن يؤدي إلى تقويض القيمة الاقتصادية للتعليم المهني والفني.
تقول آراي «لن يصبح الاستثمار في التعليم مصدر جذب لأولئك الذين لا يتمتعون بمهارات تميزهم عن غيرهم»، مضيفة أن خريجي التعليم المهني والفني يحتاجون إلى الحصول على عائد مقابل استثمارهم في سنوات التدريب «لكن مع استبدالهم بأنظمة المحاكاة الإلكترونية، فسوف يفقدون وظائفهم. وسيعزف الكثير منهم عن حقل التعليم المهني».
وتتوقع آراي أنه بافتراض حدوث ذلك السيناريو، فإن الوظائف ذات الرواتب عالية ستبقى حكرا على أولئك الأشخاص الذين يتمتعون بمهارات حل المشكلات، بينما من المتوقع أن تختفي تلك الوظائف العادية، التي يؤديها خريجو الجامعات في الوقت الحالي. وتقول آراي «لا نعرف ما هي المجالات التي يتفوق فيها أداء البشر على نظيره من الآلات، وهو ما يعني أنه لا يمكننا إعداد أنفسنا للتغييرات المستقبلية، حيث إنه خلال الثورة الصناعية، كانت عملية التغيير تسير بخطى بطيئة للغاية».
وتشير آراي إلى أنه خلال الفترة بين الأعوام الـ10 والـ20 عاما المقبلة «سيؤدي الاعتماد على الذكاء الاصطناعي إلى تخفيض فرص العمل المتاحة في السوق بنسبة 10 - 20 في المائة، وهو ما يعني حدوث كارثة في سوق العمل». وتضيف آراي «لا أستطيع حتى التفكير في العواقب التي ستنجم عن فقدان 50 في المائة من فرص العمل بسبب استخدام الآلات. إننا بصدد حدوث كارثة بالفعل، ولا يمكن استبعاد تحقق مثل تلك النسب والأرقام ما دام أداء الذكاء الصناعي والآلات بقي مستمرا في التحسن في المستقبل».
ويشارك الكثيرون آراي تقييمها في ما يخص عواقب تزايد الاعتماد على الآلات والذكاء الصناعي. فقد توقعت دراسة حديثة، أصدرها برنامج تأثيرات التكنولوجيا المستقبلية بكلية أكسفورد مارتن (جامعة أكسفورد)، أنه ربما يجري إحلال الحواسيب محل البشر في ما يقرب من نصف الوظائف في الولايات المتحدة الأميركية خلال العقدين المقبلين. غير أن بعض الباحثين يعارضون تلك الرؤية. ويقول كازوماسا أوغورو، أستاذ علم الاقتصاد بجامعة هوسي في طوكيو، إن الاعتماد على الآلات الذكية سيؤدي حتما إلى زيادة عملية التوظيف، مضيفا أن «الكثير من علماء الاقتصاد يؤمنون بمبدأ الأفضلية المقارنة. ويتمثل هذا المبدأ في إمكانية مساعدة الآلات الذكية في توفير 20 في المائة من وظائف الأعمال المكتبية لأنها تسهم في نمو الاقتصاد».
وفي المقابل، يشعر البعض الآخر بالقليل من التفاؤل بخصوص هذا الأمر. ويقول نوريوكي ياناجاوا، أستاذ الاقتصاد بجامعة طوكيو، إن اليابان، على وجه الخصوص، تعتبر عرضة للتأثر بعملية الاعتماد على الآلات أكثر من العنصر البشري، وذلك على الرغم من قطاع الخدمات الضخم الذي تتمتع به اليابان. وأضاف أن «الذكاء الصناعي سيتسبب في حدوث تغيير حاد وسريع بشأن طلب العمالة. وستكون عملية التكييف مع هذا التغيير الشديد أمرا صعبا للغاية بالنسبة للكثير من العمال».
إن تحقيق التقدم في هذا المشروع، بما يمكّن من التعرف على النصوص والترجمة وتمييز الأنماط، سيهدد عملية التوظيف في القطاع الخدمي - الذي يضم مراكز الاتصال والتسويق والمبيعات – وعلى وجه الخصوص القطاعات التي توفر الكثير من الوظائف في الاقتصادات المتطورة. وطبقا لما ذكره أندرو مكافي، الذي شارك في تأليف كتاب «السباق ضد الآلة»: «لم يرتفع معدل استثمار الشركات في الولايات المتحدة الأميركية العاملة في مجال المعدات والبرمجيات إلى مستويات عالية، كما لو كان ذلك تأكيدا على هذا التحول من الاعتماد على القوى العاملة إلى الاعتماد على الآلات، وهو ما يعد أمرا تحذيريا في ما يخص الاقتصاد الرقمي.
وفي حديثه خلال مؤتمر جرى عقده في أكتوبر (تشرين الأول)، قال كينيث برانت، مدير الأبحاث في «غارتنر»، إن «غالبية كبار رجال الأعمال والمفكرين يقللون من شأن الاحتمال الذي يرجح أن تحل الآلات الذكية محل ملايين الوظائف التي يشغلها أعضاء الطبقة المتوسطة خلال العقود القليلة المقبلة»، مضيفا أن «فقدان العنصر البشري للوظائف سيزداد بشكل أسرع، لا سيما عندما يتجاوز معدل المهام التي تقوم بها الآلات قدرة سوق العمل على خلق فرص عمل جديدة ذات قيمة».
ويقول المتفائلون إن هذا ربما يؤدي إلى القضاء على فكرة «العمل» نهائيا، بحيث سيصبح لدينا مجمع لا يعمل فيه أحد، وهو ما سيؤدي في المقابل إلى ازدهار حقول التعليم غير المهنية. ويأمل برانت في أنه ربما يؤدي هذا الخلل المتوقع في سوق العمل إلى نشوء أنظمة مجتمعية يُمنح أفرادها منحا تعليمية ويصبح لديه الحرية في التعلم وتحقيق الذات. ويضيف برانت «إنني أدعو ذلك السيناريو المتفائل بـ(الإنسان اللاعب) لأنه ربما لن يكون الجنس البشري هو أذكى المخلوقات على كوكب الأرض، لأن قدرنا يتمثل في أن نقوم بصناعة الشيء الأكثر ذكاء على هذا الكوكب كي نستخدمه في تحقيق ذاتنا البشرية».
* خدمة «نيويورك تايمز»