«صندانس» أكثر بكثير من مجرد عرض أفلام.. إنه صانع نجوم

«الأمير الأخضر» يفتتح مسابقة المهرجان للفيلم التسجيلي بحكاية عن ابن أحد مؤسسي «حماس»

فيلم الافتتاح «سوط» للمخرج داميان شازيل
TT

مع إعلان ترشيحات الأوسكار في الـ16 من هذا الشهر، ساد الشعور بأن مهرجان «صندانس» هو أكثر بكثير من مجرد عرض أفلام وإجراء المؤتمرات الصحافية. إنه صانع نجوم. كثير من الأسماء المرشّحة لأوسكار أفضل مخرج انطلقوا من ربوع مهرجان «صندانس» أساسا، حين حطوا الرحال هنا بأفلامهم الأولى.

ديفيد أوراسل، مخرج «أميركان هاسل» بدأ مهنته هنا، إذ عرض سنة 1994 فيلمه الروائي الأول «ضرب السعدان» Spanking the Monkey، ثم عاد سنة 1996 إلى المهرجان ذاته ليقدّم «مغازلة الكارثة». ألفونسو كوارون الذي تم ترشيح فيلمه لحفنة من الأوسكارات كان خطا خطوته الأولى في «صندانس» عندما عرض أفلامه القصيرة في منتصف الثمانينات هنا. كذلك فعل سبايك جونز الذي يتنافس فيلمه «Her» في سباق أوسكار أفضل فيلم، إذ حضر «صندانس» كممثل في التسعينات ثم تحوّل إلى مخرج في مطلع القرن الحالي.

والباقون جميعا مثل ألكسندر باين صاحب فيلم «نبراسكا»، وديفيد هايمان منتج «دالاس بايرز كلوب» لجانب العشرات من الممثلين الذين تحوّل بعضهم إلى الإخراج أو الإنتاج أو بقوا مخلصين لمهنتهم الأولى مرّوا من هنا في مطلع سنواتهم المهنية. 30 سنة، يقول رئيس المهرجان روبرت ردفورد، مضت في صياغة هامش للمخرجين المستقلين. يضيف: «ليس ردّا على هوليوود ولا على صناعة السينما، بل إتاحة لفرص عمل لم تكن هوليوود مهتمة بتوفيرها».

* الأستاذ والطالب هذه الرسالة لا زالت في قلب المهرجان إلى اليوم، ولو أن الحجم تضاعف عبر العقود الماضية، حيث هناك 15 مختبرا وورشة عمل توزّع مهامها بين الإنتاج والإخراج والكتابة والتصوير وسواها من جوانب العمل. عدد الأفلام التي ساهمت مؤسسة «صندانس» بتمويلها أو - على الأقل - بإعدادها إنتاجيا لكي تقف على قدميها وتتحرّك قدما بلغ 400 فيلم.

الذي يدعو إلى الغبطة أن الشعور بالاكتشاف لا يزال دافع الموجودين جميعا، والإحساس بالانتماء إلى عالم يجري تكوينه في تلك الورش أو على شاشات المهرجان المتعددة لا يزال متوفّرا، ولوحظ هذا العام من حرارة الاستقبال الذي ووجه به فيلم الافتتاح «سوط» لداميان شازيل.

«سوط» دراما حول لاعب طبل شاب (مايلز تَلر) طموح لتحقيق ذاته عبر الموسيقى، لولا أن مدرّسه (ج. ك. سيمونز) يجد من الصعوبة في فهم تلك الذات لدرجة محوها عوض تحقيق الغاية المرجوة من التدريبات، وهي تأهيل العازف ليصبح موسيقارا.

الموضوع صعب، لكنه يضرب على أوتار المشاهدين المتعاطفين بطبيعة الحال مع العازف الشاب. وكان المخرج قد أنجزه أولا كفيلم قصير وعرضه هنا في العام الماضي، قبل أن يصوره خلال السنة الماضية كفيلم روائي طويل. في الوقت الذي تحرك فيه شخصية العازف التعاطف الإيجابي نحوه تستعدي شخصية الأستاذ السادي رد فعل لا يقل قسوة من قِبل المشاهدين، كونه يمارس دوره على نحو فاشي وبقدر كبير من الإهانات والتعنيف والقسوة. خلال هذا كله، وما ينجح به الفيلم أكثر من سواه، نتعرّف على الوجه الداكن لعملية إعداد الطالب ليمارس العنف ذاته على سواه. فالشاب بعد ساعات طويلة من التعرض للأذى والإهانات يخرج بعد كل مرة إلى العالم بشعور إيجابي أقل تجاهه وتجاه من يعرفهم. هو بدوره يتحول إلى فاشي صغير، مما يجعل الفيلم يتحدّث بإطار أكبر عن القيادة والتبعية التي تماثلها في شؤون الحياة الكثيرة. إنه كما لو أنك تشاهد نازيا يعلـم تعاليم النازية لفتى بريء ليحوّله إلى نازي مثالي، وقس على ذلك حالات ومناهج أخرى يعيشها العالم اليوم.

* حكاية مصعب وهناك علاقة أخرى بين أستاذ مختلف (هو مسؤول في الموساد اسمه جينون بن إسحاق) وطالب فلسطيني اسمه مصعب في ظرف بعيد آخر ولو أنه يلتقي مع المفهوم الذي ينجزه «سوط». هذا وارد في الفيلم الإسرائيلي «الأمير الأخضر» الذي عرض كفيلم افتتاح المسابقة التسجيلية العالمية، وضمن إقبال كبير ناتج عما استقاه الحاضرون من الملخص المنشور. فالفيلم كناية عن حكاية مصعب حسن يوسف، ابن أحد مؤسسي حماس وكيف جرى تطويعه وتدجينه وتحويله إلى جاسوس يعمل لصالح الموساد. الفيلم من إخراج ناداف شيرمان، وسريعا ما يدلف موضوعه محيطا بتاريخ وجغرافيا المكان ولو من دون عمق سياسي. بالنسبة إليه تشخيص الحالة ومنح مصعب حضورا إنسانيا لا بد أنه يفتقده تحت أي معيار آخر خارج نطاق هذا الفيلم. هو ابن رجل سياسي وقيادي استجاب لإغراء المادة، فتحول إلى مخبر يعمل قريبا من هرم القيادة لدى حماس، حسب فيلم لديه الوقت والرغبة أيضا في تقديم وجه إنساني آخر للإسرائيليين الذين استخدموه.

الفيلم مأخوذ عن كتاب وضعه مصعب يوسف بنفسه بعنوان «ابن حماس» لذلك لا يمكن تفنيد ما يعرضه لنا على أساس أنه غير جدير بالثقة. ها هو مصعب نفسه، الذي لقب بالأمير الأخضر، يتولى الحديث إلى الكاميرا وفتح الصفحات الأولى من كتاب علاقته مع المخابرات الإسرائيلية. ففي منتصف التسعينات، جرى اعتقاله من قبل مخابرات «شن بيت» وأودع السجن، ومع إدراك الإسرائيليين مدى أهميته كابن أحد مؤسسي حماس، طلبوا منه العمل مخبرا. لا يدخل المتحدث في تفاصيل كثيرة حول أسباب قبوله، وهو الذي بدأ الحوار بالتأكيد على أنه كان يكره إسرائيل بسبب سجنها لوالده سنوات طويلة. كيف تحول الأمر من كره إلى تعاون، هو لب الموضوع الذي يتحول إلى واقع وجوهر الفيلم، لكن العبارة الأكثر تعبيرا عن سر هذا التحول، كما عن السبب الذي من أجله وافق على المهمة، ما يقوله خلال حديثه: «حماس ليست حركة دينية فقط بل (بزنس) عائلي».

في أحد المشاهد يمكن فهم سبب آخر، فالرجل يبدو أنه اقتنع بأنه لا شيء ذا قيمة في صرح الحركة الإسلامية، وهو يشهد قيام سجّانها تعذيب سجناء مسلمين مثلهم. وهذا يتضح أكثر في النصف الثاني من الفيلم. فبعدما ذكر الرجل في حديثه أنه يشعر بالعار حيال ما قام به لصالح الموساد، نراه يكشف لاحقا عن أنه ترك قطاع غزة وإسرائيل معا وهاجر (بترتيب ومساعدة إسرائيلية على الغالب) إلى أميركا ليعيش فيها بعيدا عن بؤرة الصراع بأسرها. شعوره بالعار لم يمنعه، كما يبدو أيضا، من تخليه عن الإسلام واعتناق المسيحية مبتعدا أكثر وأكثر عن أصوله وتاريخه ومواقف الفلسطيني المبدئية من القضية برمتها.

وفي حين قد يجد هذا الموقف تقديرا لدى البعض، فإن البعض الآخر من المشاهدين لن يشعر بأن التعاطف حيال مصعب وموقفه، وهو ما يبغيه الفيلم، ضروري.

النصف الثاني من الفيلم، ومن ناحية سينمائية بحتة، هو أفضل من نصف الفيلم الأول الذي يتعامل وتقديم الشخصيات وذكر ثوابت التاريخ. يعمد «الأمير الأخضر» إلى منهج التناوب بين تلك اللقاءات والوثائقيات التي أريد لها شرح ما يُقال أو تأكيده.

* لحظات تاريخية

* وبقدر ما يشعر ردفورد وفريقه بفخر حيال تاريخ المهرجان، بقدر ما يؤكد هذا التاريخ تلك اللحظات، التي تبعث على الفخر، وهي كثيرة لكن بالإمكان اختيار سبع لحظات تاريخية عنت الكثير للمهرجان، كما للأفلام المشتركة ولصانعيها:

1988: العرض الأميركي الأول لفيلم ستيفن سودربيزغ «جنس، أكاذيب وأشرطة فيديو»، الفيلم الذي تكلف بضعة ألوف الدولارات لتحقيقه وحصد 25 مليون دولار من الإيرادات.

1992: قدم المخرج كونتين تارانتينو أول عمل رئيس له، وهو «كلاب المخزن» الذي بلغت ميزانيته مليونا و200 ألف دولار، لكنه جلب (لجانب الشهرة وحفنة الجوائز) 22 مليون دولار.

1994: في ذلك العام، وخلال دورة غزيرة العروض والاكتشافات، قام المخرج البريطاني مايك نيووَل بعرض «أربع زيجات ومأتم». نيووَل كان حقق أفلاما غير مستقلة، لكن هذا الفيلم كان مختلفا وأسس لنجاح أبطاله كرستين سكوت توماس وهيو غرانت وجون هانا.

1996: عرض المهرجان فيلم «أحلام كرة السلة»: تسجيلي في ثلاث ساعات عن تلك الرياضة وطموح لاعبيها وهو الفيلم الذي تسلل بعد ذلك للأوسكار وجمع تسعة ملايين دولار في وقت سابق لانتشار الفيلم التسجيلي في العروض التجارية، كما هو الحال اليوم. المخرج هو ستيف جيمس صاحب «الحياة ذاتها» حول روجر إيبرت المعروض في هذه الدورة.

1999: «مشروع ساحرة بلير» هو نموذج لكل ما تمثله السينما المستقلة: فيلم استدان مخرجاه دانيال ميريك وإدواردو سانشيز (الثاني لا يزال أكثر نشاطا من الأول) لتأمين ميزانيته التي بلغت 60 ألف دولار، فإذا به يحقق 240 مليون دولار حول العالم. فيلم رعب فتح الباب واسعا لكل تلك الأفلام التي ما زلنا نراها حتى اليوم، المعتمدة على أسلوب الكاميرا التي تصور فيلما داخل الفيلم، وتلاحق مجموعة من الشخصيات التي تكتشف ما لم يكن من الأجدر بها اكتشافه من أسرار.

2002: وقوف الناقد روجر إيبرت مدافعا عن فيلم أميركي صغير عنوانه «حظ أفضل في الغد» الذي أخرجه جوستين لين. أيامها كان جوستين مبتدئا بكل معنى الكلمة، وشركات هوليوود لم ترد أن تصرف وقتا ومالا على فيلم أبطاله من الصينيين الأميركيين. اليوم جوستين لين مخرج ناجح يقف وراء سلسلة «سريع وهائج» المعروفة.

2006: «ليتل مس سنشاين» لم يكن فيلما قليل الكلفة حين انتهى المخرج جوناثان دايتون (الذي حقق فيلما واحدا بعد ذلك وإلى اليوم) من تنفيذه. كلف ثمانية ملايين دولار، لكنه حصد 92 مليون دولار عالميا. إلى اليوم ما زال المبلغ الذي دفعته هوليوود لشراء حقوقه من الأرقام القياسية في تاريخ عمليات المهرجان (أكثر من عشرة ملايين دولار).

هذه سبعة ولا بد أن هناك 77 أخرى مثل المشادة التي وقعت بين ناقد مجلة «فاراياتي» الشهيرة جون أندرسون والمنتج جف داود بسبب خلاف في الرأي حول فيلم أنتجه الثاني بعنوان «وسخ، الفيلم». الأول (الذي كان ملاكما في شبابه) هو الذي وجّه الضربة الأولى. الثاني (ومارس المصارعة لبضع سنوات قبل أن يتحوّل إلى إنتاج الأفلام)، وجّه الثانية، وكل ذلك في مقهى يقع في وسط المدينة. أو مثل قيام المنتج جاي أندريوزي سنة 2010 بركوب جمل جاء به من الصحراء ليسير في شوارع المدينة المثلجة كجزء من الدعاية لفيلمه «مصر من خلال دكان زجاج»، وهو الفيلم الذي لا يزال قيد الإعداد حتى الآن.