في موسم «الفاشنغ».. فيينا تتحول إلى قاعة رقص كلاسيكي في قصر إمبراطوري

تنظم أكثر من 450 حفلا تقليديا تستمد جذورها من القرن الثامن عشر

راقصون في حفل دار الأوبرا في فيينا
TT

توصف العاصمة النمساوية فيينا بأنها قاعة رقص كلاسيكي في قصر إمبراطوري بلمسات حديثة، ويقصدها السياح هذه الأيام للاستمتاع بما تقيمه من حفلات باذخة احتفاء بموسم «الفاشنغ»، وهو الموسم الذي يسبق الصوم عند المسيحيين. ينتهي موسم الفاشنغ بأربعاء الرماد، وهو آخر يوم لأكبر وجبات دسمة وثرية قبل بدء الصيام، وعادة تنشط الحفلات خلال أشهر يناير (كانون الثاني) وفبراير (شباط) ومارس (آذار) لتبدأ الاحتفالات بعيد القيامة في أبريل (نيسان).

هذه الفترة من العام يسميها جيران النمساويين من الألمان «الكرنفال»، ويسميها السويسريون «فاستناخت»، ورغم العلاقات الوطيدة والثقافة الجرمانية فإن الاحتفالات مختلفة فيما بينهم. الكرنفالات الألمانية تقام في الشوارع التي تجوبها الفرق الموسيقية النحاسية ويلتهم فيها الناس كميات ضخمة من السجق. أما الحفلات النمساوية الكلاسيكية الراقصة فتقام داخل قاعات مغلقة في قصور ووفق أزياء ومظاهر أرستقراطية يتبع فيها «إتيكيت» حازم مهما كان مستوى الجهة المنظمة.

وكما تذكر مصادر تاريخية فإن الإمبراطور جوزيف الثاني (1741 - 1790) كان معجبا بالعامة، ويستمتع باحتفالاتهم، لذلك كان يدعوهم للاحتفال في قصوره إبان فترة الفاشنغ ليأكلوا ويرقصوا قبل موعد الصيام، ومع دخولهم للقصور أثروا فيها وتأثروا بها. خذ مثلا رقصة الفالس النمساوية الأشهر التي ترتبط ارتباطا وثيقا بهذه الاحتفالات، هي أصلا رقصة شعبية انتشرت بين المزارعين الذين كانوا يمارسونها في الفضاءات الواسعة ويضربون بأقدامهم ويقفزون ويدورون، لكن مع مرور الزمن غلب عليها الطابع الأرستقراطي بعد تشذيبها وضبطها وفق خطوات مدروسة ومحسوبة.

أثناء موسم الفاشنغ يقام في فيينا وحدها أكثر من 450 حفلا تقليديا راقصا تنشر إدارة السياحة مواعيدها ومواقعها في روزنامة سنوية. بعض هذه الحفلات رسمية تقيمها الدولة، وبعضها تنظمها الكنيسة ومؤسسات واتحادات وجميعها غير حصرية، وتتوفر بطاقات دخولها لكل من يشاء، وبالطبع تتمايز أسعار البطاقات حسب القاعة التي يقام فيها الحفل وحسب برنامجه وحسب نوعية الأطعمة وتطلعات منظميه. فحفل الأوبرا الذي يقام عادة نهاية فبراير، على سبيل المثال، أصبح فعالية عالمية، يحضرها الرئيس النمساوي وضيوفه من ملوك ورؤساء وكبار المسؤولين ومشاهير من مختلف التخصصات والجنسيات، وتصل أسعار التذاكر إلى مئات الآلاف من الدولارات، ويدر بدوره ملايين سنوية تعود للمساهمة في ميزانية دار الأوبرا كما يدعم أنشطة سياحية أخرى.

ومن أشهر الحفلات تلك التي تنظمها الاتحادات المهنية، كالقضاة والدبلوماسيين والمحامين والصيادلة وضباط الجيش والشرطة والموسيقيين وغيرهم، بما في ذلك عمال النظافة وعمال المداخن ووكالة الطاقة الذرية التابعة للأمم المتحدة ومقرها فيينا. وكذلك المهاجرون وأصحاب المقاهي ومحال الزهور. وقدم التلفزيون الرسمي عرضا خاصا عن مدى استعداد صناع الحلويات لتقديم 300 قالب كيك (تورتة) أبدعوا في صنعها من أنواع دقيق مختلفة ومن الشوكولاته والمكسرات والفواكه المجففة، لونوها ونقشوها في أحجام كبيرة وأشكال ضخمة ومختلفة، منها قالب حمل معالم العاصمة البريطانية لندن، وقالب على شكل حقيبة يد من اللون الزهري يخرج منها كلب على شاكلة تلك المدللة صغيرة الحجم المعروفة بالجيواوا، وآخر تقف في منتصفه راقصة بكامل زينتها ومختلف ألوان ماكياجها. جرى تقديم تلك القوالب أثناء الحفل جوائز يانصيب.

وفقا لإحصاءات رسمية فإن الأسر النمساوية مهما كان وضعها الاقتصادي تجد بين هذه الحفلات ما يناسبها ولو مرة واحدة سنويا، وهناك من يذهب لأكثر من حفل، وبالطبع هذا ما يحرص عليه قطاع كبير من السياح الذين يقصدون فيينا أثناء هذا الموسم، سيما الأميركان والروس واليابانيين.

إلى ذلك ارتبطت بعض هذه الحفلات بقاعات تاريخية شديدة الفخامة والجمال كالقاعة الرئيسية بقصر الهوفبورغ الذي يعود تاريخه للقرن الثالث عشر، ويعد المقر الرسمي لرئيس البلاد، وقاعة المجلس البلدي «الرات هاوس»، أو مبنى البلدية ومقر حكومة إقليم فيينا، الذي شيد في الفترة من 1872 - 1883، كما أن هناك القاعة الذهبية، أقدم وأفخم مبنى مخصص للموسيقى الكلاسيكية ويسمونه «الميوزيك فراين»، الذي افتتح عام 1870 وارتبط حديثا بحفل استقبال العام الجديد الذي تحييه فرقة فيينا فيلهارمونيكا، أشهر فرق الموسيقى الكلاسيكية عالميا والأولى أوروبيا، وتنقله مباشرا عشرات الإذاعات والتلفزيونات، بما في ذلك محطات عربية وأفريقية وآسيوية.

تقليديا، تبدأ هذه الحفلات في نحو التاسعة مساء وينتهي بعضها صبيحة اليوم التالي، وتلتزم جميعها بلباس السهرة، أي الفستان الطويل حتى الكاحل للنساء، والبدلة السوداء والقميص الأبيض للرجال، مع «فيونكة» للعنق بدلا عن «الكرفتة» الطويلة، فيما يتزين كثيرون بالأوسمة والنياشين، وحتى علم البلاد بخطوطه الحمراء والبيضاء، كما يحضر الجنود بملابسهم الرسمية، فالجميع يتصور أنه في حضرة الإمبراطور.

هذه الحفلات سواء في حفل الأوبرا حيث يحضر الرئيس، أو حفل الدبلوماسيين، أو حفل باعة صحيفة المتشردين، تبدأ برنامجها بفقرات رسمية تتقدمها مسيرة يخطو فيها حشد من المنظمين، يتبعهم جمع من الراقصين لتقديم عرض مختار، سواء لرقصة فيينا الأشهر، أي رقصة الفالس، أو باليه، أو رقصة البولكا، وأحيانا لتقديم خطاب أو خطابين، ومن ثم تجري دعوة الحضور للرقص، وبالطبع يبادر من هم أكثر ثقة لمهارتهم للحركة والدوران السريع المنتظم في جدية مفرطة وكأنهم يؤدون امتحانا.

أثناء هذا الموسم، وعادة قبله، تكثر الحصص والدروس لإتقان رقص الفالس على وجه الخصوص الذي يبدأ في الحفلات ثنائيا، ثم تتاح فرص لرقصات جماعية، حيث يصطف الراقصون في صفوف تتدافع ثم تنحدر فتعدو تحت أقواس يشكلها المشاركون.

وإن كانت السيادة عادة لرقصة الفالس، فإن المواقع الكبيرة التي تضم أكثر من قاعة تفسح للحضور إمكانية الانتقال من صالة لأخرى، حيث تتنوع الفرق الموسيقية، ومنها من يلعب موسيقى لفالس بطيء وفوكستروت وبولكا، ورقصات لاتينية كالتانغو والتشا تشا والرومبا وسامبا والجاز.

ورغم ما تتيحه ملابس السهرة من فرص للإبداع والابتكار والتنوع، فإن بعض هذه الحفلات يتمسك باللباس النمساوي التقليدي، أي الدندل للنساء (فستان بكشكشة وصدر مفتوح وتربط في وسطه مريلة أشبه بما ترتديه الفلاحات، وله أنواع معينة من القماش القطني ونمنمات وألوان بسيطة)، فيما يرتدي الرجال «الليدر هوزا» وهي (ملابس تشبه ملابس الصيادين). ومن أهم الحفلات التي تلتزم بالزي التقليدي حفل قصر الهوفبورغ وحفل الصيادين وحفل الإمبريال الذي تنظمه مدرسة الخيول الإسبانية المشهورة بخيل الليبزان الراقصة، ويقام هذا الحفل أواخر شهر يونيو (حزيران)، فيما تقام معظم الحفلات الأخرى شتاء ما بين يناير ومارس.

بدوره يقام حفل راقص آخر في الصيف وهو الحفل المعروف باسم «أوبرن بال» الذي يختلف تماما عن كل هذه الحفلات، ليس بموعده فحسب، وإنما ببرنامجه وملابسه وأهدافه؛ إذ يعد أكبر الفعاليات الداعمة لمرضى نقص المناعة (الإيدز) في النمسا وخارجها، خصوصا في أفريقيا، كما يبدأ برنامجه بعرض أزياء في الهواء الطلق مفتوح ومجانا، ينتظم أمام ساحة الرات هاوس، تشارك فيه سنة بعد الأخرى أكبر بيوت الأزياء العالمية والأسماء اللامعة من مصممين وعارضين، ليختتم بحفل راقص مغلق أشبه بالحفلات التنكرية لمن يشتري بطاقاته. وعادة يعلن سلفا عن موضوع يستوحي منه الحضور أزياءهم، وعلى سبيل المثال كان موضوع حفل العام الماضي «ألف ليلة وليلة» فتباروا في الظهور بملابس وإبداعات شرقية النكهة، والملامح مقتبسة من قصص الرواية المشهورة.