روبرت ردفورد لـ «الشرق الأوسط» : لم تكن هوليوود المكان الساحر بالنسبة لي

الشهرة واتت الممثل الأميركي فجأة ولم يكن مستعدا لها

روبرت ردفورد
TT

إذن لم يجرِ ترشيح روبرت ردفورد لـ«الأوسكار».. فيا لها من خسارة ليس لروبرت ردفورد، بل لـ«الأوسكار». الممثل لا يبدو عليه أنه يعبأ بذلك رغم أن دوره في فيلم «كل شيء ضاع» هو من تلك التي لا يمكن تجاهل قيمتها. وردفورد ابن السادسة والسبعين حاليا، الذي نال «أوسكار أفضل مخرج» عن أول أفلامه وراء الكاميرا «أناس عاديون» سنة 1981، ونال أوسكار شرفيا في عام 2002، يعرف، ربما أكثر من سواه، كيف يحتل قلب الفيلم وجوهره ويرفع من سقف التوقعات في عمل يدور كله في البحر ومعه هو فقط.

وراء ردفورد أكثر من 50 فيلما تؤكد تفوقه.. هو دائما كان مثيرا للاهتمام.. الممثل الذي ترصده عيون المشاهدين حتى حين يكون واحدا من عدة ممثلين. إذا ما شاهدت «المطاردة» (1966) مرة وتريد مشاهدته مرة أخرى، فستجد نفسك تنتظر تلك المشاهد القليلة التي يظهر فيها على الشاشة. في العام ذاته تحول إلى ممثل أول أمام نتالي وود في «هذه الملكية مدانة» وكان هذا أول فيلم له مع المخرج (الراحل أيضا) سيدني بولاك. لاحقا ظهر في أكثر من فيلم والخط الجامع كان دوما سياسيا سواء أكان الفيلم وسترن (مثل «جيرميا جونسون»، 1972) أو دراما اجتماعية («كيف كنا»، 1973) أو تشويقيا («ثلاثة أيام من الكوندور»، 1975). لكن ردفورد لعب أفلاما أخرى ذات خطوط سياسية (وليبرالية الهوى). شوهد في تلك الفترة في «بوتش كاسيدي وصندانس كِد» (1969) و«المرشح» (1972) و«كل رجال الرئيس» (1976) والعديد سواها.

الأكثر من ذلك أن جديته، وهو الممثل الجذاب ذو الشعر الأشقر والعينين الجميلتين، لم تمنعه من النجاح.. تلك الخلطة بين الجاذبية الشكلية والعقلية الجادة واكبت مرحلة نجاح هوليوود في توريد الناحيتين معا وشاركه فيها وورن بايتي و- إلى حد ملحوظ - جاك نيكولسون. كلينت إيستوود كان ذا جاذبية وعقل سياسي، لكنه انتمى إلى الصف اليميني، ولو أنه لا يسارية هذا أو يمينية ذاك منعته من التبلور ممثلا ناجحا وجيدا.

في حديثه، يتناول روبرت ردفورد أسرارا من تصوير فيلمه الجديد «كل شيء ضاع» ويطرح بعض مواقف حياته وآرائه في هوليوود الأمس واليوم. لكنه يكشف عن أنه لم يكن مطلقا ذلك الممثل الذي حلم بهوليوود.. بالنسبة له، كانت صلة نجاح ومكان عمل، لكن حبه كان السفر والعيش خارج المدينة.. يعمل بنظام المؤسسات، لكنه ينفصل عنها. لا عجب إذن أنه أوجد مهرجانا يفتح المجال لكل من يريد السير في الخطى ذاتها.

* مهرجان «صندانس» في مناسبته الثلاثين.. كيف تشعر حيال ذلك؟

- أنا فخور به بالطبع.. إنه إنجاز مهم ليس فقط على صعيد شخصي - وأنا لم أحقق هذا بمفردي بل بمساعدة كثيرين من حولي - بل على صعيد السينما ككل. لقد بدأنا مشروعا صغيرا كان يمكن له أن يتوقف في أي لحظة إذا ما فشل، لكننا كنا مدركين أنه سينجح. كما قلت في المؤتمر الصحافي قبل أيام، كل ما كان المخرجون المستقلون بحاجة إليه هو شاشة لعرض أعمالهم، و«صندانس» أوجد هذه الشاشة.. أصبح هذه الشاشة بالفعل. نحن لا نقول إننا لا نكترث لهوليوود، كما قرأت أكثر من مرة، على العكس. نفهم «بزنس» هوليوود، وكل ما نريده هو أن تجد هوليوود فيما يحققه المخرجون الجدد ما يعجبها فتقوم بتوزيعه، وهذا مربح ماديا وفكريا لكل الأطراف.. وهذا ما حدث بالفعل.

* قبل عامين أو ثلاثة عاب البعض أن المهرجان أصبح كله تجارة.. أنه باع نفسه لهوليوود..

- (يضحك).. نعم أتذكر ذلك جيدا، لكن هذا القول يعود إلى ما قبل ثلاث سنوات. منذ مدة وهناك من يردد ذلك، لكن سؤالي وجوابي في الوقت ذاته: هل من الأفضل لو أن هذه الجهود الكبيرة والرائعة للمخرجين الجدد عرضت من دون أن يلتقطها أحد؟ فقط عرضت لمن يهتم وعادت أدراجها ولم يستطع منتجوها أو مخرجوها بيعها لكي تصبح مشاعة بين الجمهور الواسع.. لا أفهم مثل هذا الحكم.

* قلت أيضا في مؤتمرك الصحافي أنك لا تشعر بالضيق لأن فيلمك الأخير «كل شيء ضاع» لم يكن بين الأفلام المرشحة للأوسكار.

- صحيح.. هذا لا يزعجني.. طبعا سيكون من سروري أن يكون هذا الفيلم موجودا في عداد الأفلام المرشحة، لكنني لا أتدخل في هذه الشؤون مطلقا. أنا فخور جدا بهذا الفيلم وفخور بالمخرج ج. س. شاندور وأعتقد أنه من خيرة مخرجينا اليوم.. فخور بعملي فيه.. أعتقد أنه لم يوزع على النحو الصحيح.. لم يتلق دعم الترويج لكي تتاح له فرصة أفضل.

* كيف يرتبط ذلك بقرار أعضاء الأكاديمية.. أليس مفترضا ألا يهتم الأعضاء بالنتائج التجارية لأي فيلم؟

- لا أقول إنهم اهتموا أو اختاروا الأفلام التي نجحت دون غيرها.. هم بالتأكيد لم يفعلوا ذلك، والأفلام المرشحة معظمها ليس تجاريا.. لكني أشير فقط إلى أنني كنت أفضّل لو أن شركة التوزيع سعت لمنح الفيلم حضورا إعلاميا وتوزيعيا أوسع. لا أدري ما الأسباب التي حالت دون ذلك.

استحالة

* إنه واحد من أكثر أفلامك الأخيرة تطلبا للجهد.. كذلك هو فيلمك الوحيد الذي لا يشاركك فيه أحد.. في «جيريميا جونسون» مثلت العديد من المشاهد وحدك خصوصا في نصف الساعة الأولى من الفيلم.. لكن هنا كل الفيلم.. كيف يمكن لممثل التحضير لمثل هذا الفيلم؟

- تجربتي في تمثيل هذا الفيلم استمددتها من معرفتي بالحالة.. لقد عشت في البحر وخبرت المراكب. لست بحارا، لكني أعرف البحر بعض الشيء. (المخرج) ج. سي. بحار محترف وجيد وهو الذي صمم السيناريو بناء على خبرته، لذلك كنت مرتاحا وواثقا مما كان يقوم بتنفيذه. وواحد من الأمور التي كتبها وأعجبتني أنه لم يكتب شخصية قائمة على إنسان خارق.. لم يكتب حكاية «سوبرمانية». كنت أيضا حريصا على ألا أرتاح، لكني أريد أن أتوقف عند ذكرك فيلم «جيريميا جونسون»، وأنت محق في التشبيه الذي عقدته بينهما، لكن هناك نقطة مشتركة أهم: كلاهما يدور حول ذلك الوقت من الحياة عندما تجد أنه من الاستحالة، سواء أكنت على الأرض أو في الماء، أن تستمر، لكن الاستمرار هو الوجهة الوحيدة التي أمامك، ولذلك تجد نفسك تستمر وتحاول أن تستمر طوال الوقت.

* ماذا تقصد؟

- أقصد أنني لم أسع خلال التصوير لكي أرتاح في مكاني.. القارب لم يكن فاخرا وكان صغيرا، وهذا حدَّ من العيش فوقه براحة، لأن الشخصية التي أمثلها لن تشعر بالراحة مطلقا وهي مهددة بالموت في أي وقت.

* عند هذا الجواب يحضرني أن كلا الفيلمين تتطلب جهدا بدنيا كبيرا.. كيف كانت الحال خلال تصوير «كل شيء ضاع»؟

- أصعب ما في هذا الفيلم هو الماء.. لم أشعر بالظمأ مطلقا (يضحك). لا أحد يعلم أن الفيلم كان محدود الميزانية كثيرا.. وحين تكون لديك ميزانية صغيرة، فإن كل شيء مضغوط.. الوقت وكل شيء آخر. لم يكن لدي الوقت لكي أنشف نفسي.. كنت أنتهي من تصوير اللقطة ثم أعود إليها وأنا ما زلت مبللا (يضحك)، وعندما ننتهي من تصوير المشهد الواحد وأقوم بتنشيف نفسي، لا يكون هناك إلا وقت قصير قبل أن أتبلل مرة أخرى. تدرك بعد حين أنك غير مرتاح على الإطلاق. لا تستطيع أن تكون مرتاحا لأن ثيابك تصبح أثقل وحذاؤك يصبح أثقل مما يجعلك تتذمر.. هذه هي صعوبة هذا الدور.

سباح ماهر

* ذكرت أن المخرج لم يكتب شخصية بطل خارق.. أكثر من ذلك كتب شخصية بطل مختلف عما تحققه هوليوود على نحو مضاد..

- ليس لدي مشكلة مع ما تحققه هوليوود من أفلام «سوبر هيرو».. هذه جيدة تجاريا. تساعد هوليوود على العمل والاستمرار، لكن أفلاما من هذا النوع ومن نوع ما نعرضه في «صندانس» هو الموازي الذي يطلبه جمهور آخر لو أتيحت له الفرصة.

* وربما ما يطلبه بعض الممثلين؟

- معك 100 في المائة.

* خلال محنتك تكتشف بعض الإجراءات التي تستخدمها بغية التغلب على وضعك والبقاء على قيد الحياة.. هل كنت تعرف مثل هذه الوسائل؟

- أعتقد أنني كنت أعرف بعضها. أساسا عندما يحصل لك مثل هذا الموقف، أعني أنه إذا وجدت نفسك في عرض البحر في زورق مهدد بالغرق ومن دون جهاز اتصال عامل وبلا طعام كاف، وكل ما يمكن أن يؤدي بك إلى الموت، فستبدأ في البحث عن أسباب النجاة. لكن في الأساس لديك خياران: إما أن تخاف وتصرخ وتفقد رشدك، أو أن تقول لنفسك: علي أن أكون هادئا وأن أبحث عن الخلاص.. هذا هو تقاطع الطريق الوحيد أمامك، والخيار لك.

* هل تجيد السباحة.. هل أنت غريب عن الماء؟

- لا.. حين كنت شابا كنت سباحا ماهرا.. ولدت في سانتا مونيكا (ضاحية هوليوود الغربية) وكنت سباحا منذ صغري، ومارست رياضة السيرف، لذلك فإن الماء وأنا صديقان ومتآلفان معا. تعرضت لمحن في الجبال.. تعرضت ذات مرة لمحنة طيران عندما فقدت الطائرة التي كنت فيها أحدى محركيها فانحدرت 21 ألف قدم في دقائق قليلة. لذلك أعرف قليلا عما يستدعيه الموقف عندما يجد المرء نفسه يجهد في سبيل البقاء حيا.

تبعات الشهرة

* كيف تعاملت مع الشهرة خلال مهنتك الطويلة بصفتك ممثلا ناجحا.. بل ومخرجا ناجحا أيضا؟ وهل هناك ما كنت ستقوم به على نحو مختلف لو أتيحت لك العودة إلى الوراء؟

- ليس هناك أي شيء كنت سأقوم به مختلف عما قمت به فعلا.. لكن هذا هو افتراض من جانبي ردا على سؤال افتراضي. الجانب الأول من سؤالك مختلف.. كيف تعاملت مع الشهرة؟ لم أكن مستعدا لها حين جاءت، لأن الشهرة جاءتني سريعا وبقوة.. لم تقع على مراحل، بل دهمتني.

* كيف كان رد فعلك إذن؟

- قلت لنفسي هذا شيء غريب.. أن يوقفك الناس أينما ذهبت.. بعضهم يشدك من ثيابك والبعض يعبث بشعر رأسك أو يلمس وجهك.. هذا كله غريب. وأعتقد أن هذا الشعور هو الذي جعلني أعي أنني لا أريد أن أكون ضحية ذلك. كانت عندي عائلة ولم أردها أن تكون ضحية لذلك.. لم أرد أن أرضخ لهذا الضغط.. لقد وضعت في بالي أن ما قد يحدث لي إن لم أكن واعيا ومدركا هو أمر من ثلاث مراحل: سأعامل على أني غرض، أو سوف أقبل نفسي على أني غرض، أو سأصبح غرضا.

* أيكون هذا هو السبب الذي جعلك تترك هوليوود إلى يوتا.. عاصمة السينما إلى ضواحيها؟

- إلى حد بعيد هذا صحيح.. كوني ولدت في لوس أنجليس، فإن هوليوود لم تكن بالنسبة لي الهدف ذاته الذي كثيرا ما جال في بال الممثلين المولودين خارجها. كنت أعرف عنها ما أريد، ولم أنظر إليها كما لو كانت تقع عند نهاية قوس قزح. لم تكن هوليوود المكان الساحر بالنسبة لي.. لقد ولدت فيها.. ولدت في طبقة عاملة، لذلك لم أر هوليوود من ذلك المنظور. لم أكن أرغب في هوليوود.. أردت أن أسافر إلى نيويورك، إلى كولورادو، إلى أماكن بعيدة عنها. أردت أن أمثل على المسرح، لذلك رغبت في نيويورك. كنت أمارس الرسم وأردت أن أوسع من تجربتي في هذا الفن. هوليوود هي «غود بزنس»، لكني أفضل أن أكون بعيدا عنها بصفتها حياة.

* في سن الـ18 ذهبت إلى فرنسا لفترة.. ماذا توخيت من الحياة هناك؟

- ذهبت إلى فرنسا لأنني كنت أريد دراسة الفن.. حينها كانت فرنسا مختلفة.. أوروبا كانت مختلفة.. أميركا كانت مختلفة. وها أنا أجد نفسي في فرنسا بمالي القليل أريد أن أعرف كل شيء. لم أكن أفهم لماذا الفرنسيون الشبان ثائرون.. ما الذي يريدونه.. كانت أيام المظاهرات والغضب ومحاولة تغيير الأشياء، ولم أكن أفهم. قالوا لي: أنت جئت من أميركا ولديكم الحرية ولديكم اقتصاد قوي وقوة عسكرية. ولسبب ما شعرت بالخجل من ذلك.. ككثيرين، كنت لا أدرك ما نحن عليه نحن الأميركيين.

* كثير من أفلامك بصفتك ممثلا، خصوصا تلك التي مثلتها تحت إدارة سيدني بولاك، حملت تلك المواقف السياسية التي كانت متداولة في تلك الفترة أو في السبعينات.. هل هذا نتيجة تلك المرحلة الفرنسية؟

- لقد عدت مختلفا وأكثر معرفة، ولا يمكن إلا أن أختار من بين الأفلام ما أشعر أنه يعكس ولو قدرا من تلك المعرفة. نعم، كثير من الأفلام التي مثلتها كانت أفلاما بمواضيع سياسية، ليست فقط مع بولاك، لكن ما آخرين أيضا.

* وعدد من أفلامك مخرجا.. يكفي «الصحبة التي تحتفظ بها» قبل عامين؟ ألم يكن ذلك الفيلم انعكاسا للفترة التي كانت مهدا لمتغيرات سياسية مهمة؟

- نعم، أو بالتحديد لفترة تلك المتغيرات.. الفيلم عن بقايا تلك الفترة وما آلت إليه حال الذين عاشوها أو اشتغلوا فيها.. سياسيا كانوا يحاولون تقديم بديل آخر للنظام أكثر عدلا بصرف النظر عما إذا كان ذلك من المثاليات أم لا.

* لا أحب التطرق إلى عامل السن.. لكن هل هوليوود تعيش تحت ضغط أن على الممثلين أن يكونوا شبانا لينجحوا.. ماذا عنك أنت؟

- ليس الممثلون فقط.. هوليوود للأسف مهووسة بالعمر، وأجد ذلك محزنا. تستطيع أن تنظر حولك وتجد أناسا يشبهون «الروبوت» من كثرة ما قاموا بشد وجوههم.. لذلك أجد ذلك محبطا. بالنسبة لي، أريد أن أبدو تماما مثل عمري. حالما تبدأ القيام بعمل ما تعتقد أنه سيوقف الزمن أو الشيخوخة، تخسر شيئا مما أنت عليه. جين مورو أو سيمون سينيوريه شاختا أمام الكاميرا وواصلتا العمل من دون هاجس العمر.. تبتعد وتعود فتجد أن شفتي هذه الممثلة غدتا أكبر، أو أن وجه هذا الممثل تغير.. هذا مؤسف.