كلاوديو أبادو المايسترو النبيل ذو الجذور العربية

وصفه زملاؤه وجمهوره بأنه أعظم قائد أوركسترا في العالم

قائد الأوركسترا كلاوديو أبادو يتحاور مع العازفين خلال الحفلات الموسيقية بالإشارة وتعبير الوجه (أ.ب)
TT

إذا كنت محظوظا وسعدت بحضور تمارين العزف مع المايسترو الإيطالي كلاوديو أبادو ذي الأصل العربي، من عائلة ابن عباد في الأندلس التي حلت في شمال إيطاليا واستقرت فيها منذ القرن الثالث عشر الميلادي، فستكتشف أنه يخلق جوا لطيفا مع العازفين الذين يفوقون المائة عازف ويستخرج منهم أجمل الألحان لأنهم يفضلون التعاون معه كفريق منسجم على أي قائد آخر. حطم أبادو أسطورة المايسترو المتسلط الديكتاتوري ونجح في تحفيز أعضاء الفرقة الموسيقية على إبراز معنى القطعة التي يعزفونها وترجمة النوتة الموسيقية إلى صوت رائع يتميز بالحماس والعاطفة المتقدة لأنه نال ثقتهم واحترامهم بقوة شخصيته وغزارة علمه وقدرته على الإقناع مع ابتسامة مخلصة.

شاهدته مرة في فيينا في الثمانينات يقود أوبرا «كوفانتشينا» لمسورجسكي، ورأيت بنفسي كيف يختلط مع أفراد الأوركسترا أثناء الاستراحة؛ فهو يحب العمل مع «الفريق» ولا تعجبه فكرة «اللاعب الأوحد»؛ لذا يتفانى العازفون في التكيف مع أسلوبه الفريد في «لحم الأنغام» وتمازجها دون سرعة أو إبطاء، بل بخطى موزونة تصل إلى مرتبة الكمال.

كلاوديو أبادو شخصية فذة وغامضة ويمثل الإيطالي النبيل المحترم. ولد في ميلانو عام 1933 ورحل عنا منذ أيام، وكان يرغب منذ أن بلغ الثامنة من العمر أن يكون موسيقيا، فنال مراده وقاد أكبر وأقدر الفرق الموسيقية الكلاسيكية في العالم من أوركسترا دار أوبرا «لا سكالا» في ميلانو إلى أوركسترا لندن السيمفونية إلى أوركسترا فيينا الفلهرمونية وأوركسترا أوبرا فيينا انتهاء بأول أوركسترا في العالم وهي برلين الفلهرمونية خلفا للمايسترو الكبير هربرت فون كارايان.

زمن أبادو في ميلانو كان حافلا بالنشاط في الستينات، وألف شلة من رجال الفن اليساريين المعارضين للفاشية رغم عدم انضمامه إلى أي حزب، مثل عازف البيانو البارع مورتزيو بوليني والمخرج المسرحي الشهير جورجيو سترلر والمؤلف الموسيقي المعاصر لويجي نونو والمقاتل الاشتراكي في حركة المقاومة ضد النازية باولو غراسي مؤسس الكثير من المسارح مثل «المسرح الصغير» في ميلانو ثم مدير دار أوبرا «لا سكالا» ثم المدير العام لهيئة التلفزيون الإيطالي (راي).

يذكر أبادو أنه حاول في شبابه أثناء إقامته في فيينا للدراسة بعد تخرجه من المعهد الموسيقي في ميلانو أن يحضر بروفة للأوركسترا بقيادة برونو والتر صديق الموسيقار ماهلر، لكنه منع من الدخول فتطوع للغناء في الكورس كي يشاهد كيفية قيادة الأوركسترا على يد عملاق من أساطين الموسيقى، ويضيف قائلا: «إذا اهتممت بعمل شيء وتحمست له فإني أسعى لإنجازه على أحسن وجه مهما كانت العوائق».

كلاوديو أبادو مفكر كبير ويحب الاحتفاظ بخصوصيته ويعشق الأدب والشعر، خاصة الشاعر الألماني فريدريك هولدرلين (1770 - 1843) ويتقن الألمانية والإنجليزية بالإضافة إلى الإيطالية، ويتحاور مع العازفين خلال الحفلات الموسيقية بالإشارة وتعبير الوجه فتنعكس على ملامحه علائم الأسى والرقة والكبرياء حسب انسياب الألحان، وحين يضع يده على فمه تلاحظ تنوعا في شدة الضغط على شفته حسب رغبته في تهدئة هيجان الأدوات الموسيقية النحاسية أو منع دخول صوت الأبواق قبل الأوان، ويتابع العازفون حركات يده ويفهمون كيف يفسرونها. يقول أحدهم من أوركسترا برلين الفلهرمونية: «المايسترو أبادو له حضور ممتاز فهو القائد دون شك، لكنه بالنسبة لنا زميلنا كلاوديو دون عجرفة ولا أنانية.. إنه القائد الرؤوف».

يقول أبادو في فيلم عن حياته جرى إنتاجه عام 2003: «إن الجمهور الجيد هو الذي يصمت في آخر القطعة الحزينة لأن الصمت يمتزج مع آخر نوتة من الموسيقى، مما يخلق الجو المناسب والتأثير المرجو للإحساس بالفراغ»، ويردف قائلا: «أحب شيء إلي هو العمل والتفكير في غرفة مبنية من الخشب في أعلى الجبل المطل على السهل الأخضر لأنني أحس وقتها بطعم الحياة في ذلك المكان الساحر».

عندما علم العازفون في أوركسترا برلين الفلهرمونية في مطلع العقد الأول من القرن الحادي والعشرين بإصابة أبادو بسرطان المعدة أصيبوا بالدهشة والصدمة، فمنذ تبوئه منصب القيادة فيها عام 1989 بدل نحو ثلاثة أرباع العاملين فيها، وكان يحب دوما «عزف الموسيقى معا، فأحسن دواء لي هو العزف مع الموسيقيين»، ويذكر بعضهم أن مرضه أعطاه قوة إضافية فكان يحب تشجيع الشباب الموهوبين بإنشاء فرق موسيقية جديدة يقوم بتدريبها وتحسينها، مثل أوركسترا ماهلر وأوركسترا موتسارت وأوركسترا لوسيرن السويسرية، كما أنه ساهم في إبراز المايسترو الفنزويلي الصاعد غوستاف دوداميل الذي أصبح يقود أوركسترا لوس أنجليس الفلهرمونية منذ بضع سنوات.

في آخر أيامه كان التعب باديا على وجه أبادو لكنه كان يكرر دوما: «أتوق لكي نعزف معا ونستمع لبعضنا البعض؛ فالموسيقى تصنع العجائب والمعجزات».

أسلم أبادو الروح يوم 20 يناير (كانون الثاني) في داره بمدينة بولونيا بوسط إيطاليا، ووصفه رئيس الجمهورية الإيطالية جورجيو نابوليتانو الذي عينه عضوا في مجلس الشيوخ مدى الحياة بأنه «شرف التقاليد الموسيقية في إيطاليا وأوروبا والعالم»، وقررت أوركسترا أوبرا «لا سكالا» بميلانو تمجيد ذكراه في الأسبوع المقبل بعزف المارش الجنائزي من السيمفونية الثالثة لبيتهوفن «السمفونية البطولية» المهداة إلى نابليون.

الجميع يترقبون نزول آخر تسجيل لأبادو قريبا وفيه تعزف مارتا أرغيريتش كونشرتو البيانو لموتسارت، أما أشهر القطع التي برع فيها أبادو فتشمل سيمفونيات ماهلر (خاصة الثالثة) وبروكنر وبيتهوفن وبراهمز وشوبرت وكذلك «البحر» لديبوسي و«كونشرتو البيانو» لرافيل (مع مارتا أرغيريتش) وأوبرا «وزيك» لبرغ وأوبرا «حفلة تنكرية» و«عطيل» و«سيمون بوكانيرا» لفيردي وأوبرا «الفتاة الإيطالية في الجزائر» و«سندريللا» لروسيني وأوبرا «بوريس غودونوف» وفيها مشهد تتويج قيصر روسيا و«كوفانتشينا» لمسورجسكي المشهورة برقصة الأسيرات الفارسيات.

المختصون بالموسيقى يعدون أبادو خليفة قائد الأوركسترا الألماني المرموق فيلهلم فورتفانغلر في أسلوبه الموسيقي وشبيه المايسترو الألماني هانز كنابربوتش الذي كان يرفض الظهور على المسرح لتحية الجمهور في ختام الحفل، لكن أبادو كان خجولا في الماضي، إنما غدا يحيي الجمهور في الصالة بأدب ولطف دون أن ينحني لأنه لا يعد نفسه «في استعراض مسرحي».