بيكيت ونساؤه المعذبات على المسارح البريطانية

لندن تحتفي بصاحب «غودو»

مشهد من «وقع الأقدام» و ليزا داون في «لست أنا»
TT

تعود المسارح البريطانية هذه الأيام لصاحب صموئيل بيكيت، ولكن من زاوية أخرى، لم تدرس ربما كفاية من قبل: كيف ينظر، أو كيف يعكس صاحب «في انتظار غودو» المرأة في مسرحه؟ ثلاثة مسارح في لندن تقدم بالتتابع أشهر أعمال بيكيت، التي قدم فيها المرأة بطلة وحيدة. في المسرح الأول «رويال كورت»، تعرض ثلاثية بيكيت «لست أنا، ووقع الأقدام، والروكباي»، وهي من إخراج والتر أسموس، وأدت أدوارها الثلاثة الممثلة ليزا دوانز. وكانت المسرحية الأولى من الثلاثية قد قدمت للمرة الأولى عام 1973 على المسرح نفسه. إنها منولوج مكثف، وسريع جدا سرعة الأفكار، كما أراده بيكيت نفسه، نسمعه من خلال امرأة سلطت الإنارة على فمها فقط وسط ظلام مطبق غطى المسرح كله. وكأن بيكيت يريد أن يقول لنا إن هذه المرأة لم تعد موجودة ككائن حي لكثرة ما اضطهدت وعذبت. إنها لم تعد سوى صوت يضرب على رؤوسنا ويخترق دواخلنا ليشركنا في العذاب الرهيب الذي عانت منه صاحبته. لا وجه هناك ولا جسدا نراه لمدة عشر دقائق على المسرح، ما عدا ذلك الصوت الصارخ أحيانا، الهامس أحيانا، المتقطع اللهاث غالب الوقت.

وكانت دوانز قد تدربت على أداء دورها الصعب في «لست أنا» على يد الممثلة البريطانية بيلي وايتلو، التي مثلت الدور نفسه في أول عرض لهذه المسرحية على المسارح البريطانية عام 1973، والتي دربها بيكيت نفسه.

وبيلي وايتلو هي ممثلة سينمائية أيضا من خمسينات القرن الماضي، وقد اشتهرت بأفلامها «النمر النائم» 1954 و«الجحيم هو مدينة» وغيرهما. التقت بيكيت عام 1963، وجمعتهما علاقة مهنية قوية، مسرحيا وسينمائيا، حتى رحيل الكاتب المسرحي الشهير، صاحب جائزة نوبل للآداب، عام 1989. وقد كتب بيكيت الكثير من مسرحياته التجريبية خصيصا لها، مما دفع البعض للقول إنها أصبحت ملهمته، بينما كان يصفها هو بـ« الممثلة الكاملة». ويقال عنها إنها كانت تنهك نفسها جسديا وهي تتدرب على أدوار بيكيت حتى تتقنها. لقد كانت، حسب تعبيرها، الطين الذي يظل بيكيت يعجنه حتى يحصل على الشكل الذي يريده.

وقدمت مسرحية «لست أنا» للمرة الثانية على مسرح رويال كورت عام 2013، بتمثيل ليزا دوانز نفسها، التي حولت دورا صعبا إلى إنجاز مسرحي، كما كتب نقاد مسرحيون عنها.

تقول ليزا دوانز عن دورها هذا: «إنه يشبه عملية صلب، وقد أصبت بمرض الفتاق نتيجة محاولاتي إخراج صوتي بدفع عضلات الظهر والعنق معا. وكنت، من ناحية أخرى، سعيدة بهذه التجربة التي لا تعتمد على جسدي، بل على الصوت فقط».

أما المسرحية الثانية ضمن الثلاثية فهي «روكابي»، وتعد من أشهر مسرحيات بيكيت التي كتبها في سنواته الأخيرة. وموضوعها، كمعظم أعماله، الوحدة الرهيبة التي يعيشها الإنسان المعاصر، ممثلا هذه المرة بامرأة تبدو عجوزا قبل أوانها، وهي تتدثر بثوب مسائي، بينما يتأرجح جسدها فوق كرسي خشبي. وكانت هذه المسرحية قد قدمت في نيويورك عام 1981، ومثلتها بيلي وايتلو، وثم على المسرح الوطني البريطاني عام 1982.

أما المسرحية الثالثة فهي «وقع الأقدام»، التي كتبت أساسا لبيلي وايتلو، وتدور أيضا حول امرأة تدعى «ماي»، التي تبدو طوال العرض بخرق ممزقة، وهي تتأرجح، كما في المسرحية الأولى، أماما وخلفا، مثل بندول الإيقاع، خارج غرفة أمها التي تحتضر.

في المسرحيات الثلاث، نرى نفيا جسديا ووجوديا للمرأة. إنها، في المسرحية الأولى، مجرد صوت يولول، وفي الثانية، مجرد جسد عجوز يتأرجح، حتى يتماهى مع الكرسي الذي يجلس عليه. وفي الثالثة، مجرد كائن متداع هارب إلى الماضي ممثلا في جسد الأم التي تموت وحيدة في غرفة لا نراها. كائنات ثلاث لا تملك سوى حيز صغير من المسرح، وكأنه تجمع لأعضائها إلى أقصى ما تستطيع لتدخل ذلك الحيز الضيق من الفضاء المسرحي.. ومن الحياة.

ماذا يريد أن يقول بيكيت في هذه الثلاثية؟ ولماذا كرس معظم أعماله الأخيرة للنساء؟ ولماذا ليس قبل ذلك؟

يرى صديقه وكاتب سيرته جيمس نولسون أن اهتمام بيكيت الخاص بالمرأة حصل بعد زواجه عام 1961 من سوزان ديتيشيفو - دومسنل، وكذلك بسبب علاقاته في الفترة نفسها مع كاتبة السيناريو باربارا براي، ثم مع الممثلة بيلي وايتلو. لقد تعرف بيكيت من خلالهن، كما يقول، على نفسية المرأة بشكل أفضل، وعلى شروطها الإنسانية الصعبة، وتهميشها في مجتمع رجالي وضعها في المرتبة الثانية في السلم الإنساني. وكانت هذه الفترة بالذات، بداية الستينات من القرن الماضي، قد شهدت، كما تقول الممثلة دبورا وورنر في تصريح لها لجريدة «التايمز» البريطانية، اضطرابات ذهنية ونفسية في أوساط النساء البريطانيات بمعدل كبير. وفي رأيها، إن بيكيت يتابع أيضا تقليدا مسرحيا إغريقيا بتصوره المرأة كضحية تراجيدية لضعفها البايولوجي، وترتيبها الاجتماعي الأدنى من الرجل.

وبالتوازي مع عرض الثلاثية المسرحية في مسرح «رويال كورت» يقدم مسرح «فيك يونغ» مسرحية «أيام سعيدة» من تمثيل جوليت ستيفنسون. وهي أيضا عن امرأة وحيدة، تظهر أولا مطمورة لنصفها، ثم لحد رقبتها، بينما ينساب من فمها منولوجا متقطعا من ذكريات بعيدة عن حياة بائسة مليئة بالقلق واللايقين كأنها لم تحدث يوما. وكما في الثلاثية المسرحية «لست أنا، ووقع الأقدام، والروكباي»، فإن الصوت المتقطع أحيانا، المتسارع غالبا، هو الفعل المسرحي الوحيد، الذي يخلق فيها تأثيرا دراميا يعوض عن أية حركة مسرحية. وتبدو الشخصية هنا أيضا كما في الثلاثية، وفي الحقيقة كما في معظم شخصيات بيكيت، ملتصقة بالمكان، الذي يغيبها جسديا، مبقيا منها مجرد صوت فقد كل إيقاعه الإنساني.. وخصوصا إذا كان صوت امرأة.