أفلام داكنة الصورة وحزينة النبرة

سباق أوسكار أفضل تصوير

من «الأستاذ العظيم» الفاقع فوق الأسود
TT

كيفما نظرت إلى الأفلام الخمسة المرشّـحة في قسم أفضل تصوير سينمائي، تجد تباينا واضحا: الخلفية والمحيط الكامل لفيلم «جاذبية» (تصوير إيمانويل لوبيزكي) فضائيان. المكان الذي تقع أحداث فيلم «نبراسكا» (تصوير فيدون كارمايكل) هو الوسط الغربي لأميركا. «سجناء» (تصوير روجر ديكنز) قريب منه لكنه بعيد عنه في الوقت ذاته، كما سنرى، أما «داخل ليووين ديفيز» (برونو دلبونيل) فتصويره ينتقل من المدينة إلى بعض الريف لكنه يتميّـز بواقعية الأولى خصوصا. أما «المعلّـم العظيم» (تصوير فيليب لو سورد) فهو صيني الموقع والثقافة والأجواء لجانب أنه تطلّـب نوعية مختلفة من العمل على الصورة.

أعضاء الأكاديمية الذين سيخرجون بنتائجهم في السادس من مارس (آذار) المقبل، سيجدون أنفسهم أمام اختيارات متباينة لكنها في نهاية المطاف واضحة. ورغم وضوحها، فإن تحليل تلك الجوانب التقنية والفنية مثير للغاية لأي هاو أو محترف سينمائي. مثلا، من صوّر بكاميرا فيلم سينمائي ومن صوّر بدجيتال؟ كيف عالج كل مدير تصوير المادة التي تتحرك أمامه؟ ما هي العناصر الأساسية لعمل كل منهم وكيف تختلف من فيلم أو أسلوب إلى آخر؟

سلاسة الاختلافات بين الأفلام المرشحّـة في نطاق أفضل تصوير هي، إلى حد بعيد، تلقائية من حيث إنها تتبع موضوع وطبيعة كل فيلم على حدة. اختيار المخرج لمدير تصويره تمّ في كل مرّة لأسباب تتعلّـق بإدراك المخرج صلاحية من يريده مصوّرا لفيلمه أو تبعا لعملهما السابق معا.

هذا يتبدى جليا في «جاذبية» فالمخرج المكسيكي ألفونسو كوارون تعامل مع مدير تصويره إيمانويل لوبيزكي (وهو مكسيكي المولد أيضا) أكثر من مرّة في كل أفلامه من «الحب في زمن الهستيريا» (1991) حتى اليوم وهو لم يكن ليرضى أن يأتي بمدير تصوير جديد لفيلمه هذا رغم أن «جاذبية» يختلف عن أعمال كوارون السابقة من حيث إنه خيالي - علمي تقع كل أحداثه في الفضاء (باستثناء الدقيقة الأخيرة).

لذلك تطلّـب الفيلم العمل على التقنيات أكثر من المعتاد بالنسبة للمخرج كما بالنسبة لمدير تصويره لوبيزكي الذي صوّر الفيلم (بالأبعاد الثلاثة) مستخدما كاميرا «آري ألكسا إم» Arri Alexa M وهي كاميرا حديثة نسبيا (تنتمي لعائلة آري المعروفة منذ سنوات) لا تتميّـز بخفّتها فقط (تزن أقل من 3 كيلوغرامات)، بل بأن تصميمها يتيح للمصوّر تحريك ما يعرف برأس الكاميرا منفصلا عن تحريك باقي جسدها ما يتيح للمصوّر سلاسة إضافية في العمل. بما أن أحداث الفيلم تدور في الفضاء فإن على التصوير أن يبدو بدوره كما لو كان يسبح مثل شخصيتي الفيلم من دون قاعدة أو ركيزة. حين قابلت المخرج ألفونسو كوارون على مأدبة غداء في مهرجان فينسيا أخبرني أن سياسته التصويرية في هذا الفيلم كان لا بد لها أن تختلف عن أفلامه السابقة: «اتفقت مع إيمانويل على أن الفيلم يجب أن يكون مركّزا. اللقطات موضبة عند الأطراف وغير فالتة. هناك فضاء شاسع لكن اللقطة ذاتها يجب أن تكون محددة».

تم ترشيح لوبيزكي لخمس جوائز أوسكار سابقة، آخرها عن «شجرة الحياة» سنة 2012 لكنه لم يفز بها. الحظ ربما أحسن هذه المرّة لكن الكثير من المصوّتين قد يعتبرون أن إنجازه لوبيزكي هو تقني أكثر مما هو فني فيخرج من السباق مكتفيا بالترشيح وحده.

الطبيعي والواقعي النقيض الكامل لهذا الفيلم والتصوير الأقل إمعانا في استخدام الأجهزة التقنية والكاميرات المزوّدة بتفعيلات ومزايا الدجيتال هو «نبراسكا» الذي صوّره فيدون بابامايكل. وهو أيضا أجنبي الولادة (وُلد في اليونان قبل 51 سنة). وهو تأقلم مع أنواع كثيرة من الأعمال: المفتوحة في الغرب الأميركي («3:10 إلى يوما») إلى تلك المنغلقة غالبا (مثل فيلم أوليفر ستون «W») وتلك الإنتاجات التي تتطلّـب تنوّعا في المعالجات التصويرية (كما الحال في «فارس ويوم» الذي تم تصويره في أكثر من موقع طبيعي حديث، بالإضافة إلى كم كبير من لقطات الاستوديو). وهو سبق له أن عمل مع المخرج ألكسندر باين مرّة واحدة من قبل وذلك على فيلم «الأحفاد» قبل ثلاث سنوات.

المفارقة هي أن بابامايكل استخدم أيضا ذات الكاميرا (أري ألكسا إم) التي استخدمها لوبيزكي في «جاذبية» رغم أن خصائص هذه الكاميرا تتجاوز الاستخدام البسيط تركيبا وتشكيليا للدراما التي تدور في كنف الحياة الأميركية التقليدية والهادئة.

«نبراسكا» له حس طبيعي معبّر عنه جيّدا بتصوير بابامايكل المناسب، لكن «داخل ليووَن ديفيز» له حس واقعي، والطبيعي والواقعي صنفان فنيّـان مختلفان تماما. لتصوير «داخل ليووَن ديفيز» اختار المخرجان كووَن الفرنسي برونو ديبونل عوض مدير تصويرهما الدائم روجر ديكنز، الذي كان منشغلا في تصوير الفيلم المنافس، للطرافة، وهو «سجناء».

«داخل ليووَن ديفيز» هو الفيلم الوحيد المشارك في هذه المسابقة الذي كان عليه العودة إلى الستينات. من القرن الماضي في حين أن باقي الأفلام (باستثناء «المعلّـم العظيم») تدور في رحى الزمن المعاصر.

مثل «نبراسكا» هو فيلم حزين النبرة. داكن الأحاسيس والصورة كان عليها أن تنقل تلك الدكانة وذلك الحزن المجسّـد حتى مع خطوط المرح الساخر الذي لا يخفي ألم بطله بل يبرزه (الصورة الذهنية لدى المخرجين كانت تقديم «نيويورك الموحلة» كما قال الديبونل حين قابلاه حول هذا الفيلم).

في تلك المقابلة اتفق الجانبان على التصوير بكاميرا فيلمية (وليس دجيتال) وهذا ما يفضله ديبونل الذي صوّر أفلامه الخمسة الأخيرة بكاميرا كوداك من نوع Vision 3 500T أريكام. لكن حين بدأ الحديث عمن سيقوم بالتصوير الفعلي، أشار الأخوان كووَن إلى مدير تصويرهما أن عليه هو أن يصوّر بنفسه. هذا الاقتراح عائد إلى أن روجر ديكنز، مدير تصويرهما في معظم أفلامهما الأخيرة، هو من قام بالتصوير فعليا.

هذه واحدة من بضع مسائل ساد فيها قدر من التعارض في العمل بين المخرجين اللذين ألفا طريقة ديكنز في العمل وأحبّـاها، وطريقة ديبونل الذي وجد نفسه في أكثر من مناسبة بحاجة لأن يذكّـر المخرجين الشقيقين أنه ليس ديكنز وليس هو في هذا الفيلم ليحل محله. لكن في العموم، نفّذ ديبونل الخط العريض لما يريده الأخوين لفيلمهما من دون أن يستغني عن تفاصيل بصمته الخاصّـة. ديكنز المائل صوب احتواء الطقوس الطبيعية أكثر اهتماما بالنصف الأعلى من اللقطة (المنظر الأفقي العام، السماء إلخ…) بينما ديبونل يحب الشاشة العريضة ولا يمنح الفضاء وجوده إلا حين الضرورة.

لكن كليهما يستخدم الإضاءة الناعمة في أفلام كووَن ولو أن ديبونل يذهب إلى مدى أبعد جاعلا من ذلك النوع من الإضاءة أمرا شبه حتمي في المشاهد الداخلية. باستثناء مشهدين محددين لا يجد المشاهد إضاءة قوية من أي نوع، وهذا يتجاوب تماما مع الجو الداكن الذي أدرك أن المخرجين يريدانه من فيلمهما.

الغاية الكليّـة هنا تلتقي مع غاية فيلم «نبراسكا»، كلاهما لم يرغبا في فيلم «جميل» الصورة، بل فيلم يوحي بنهاية الأمور: نهاية أميركا المحضة في الأول ونهاية الفترة الستيناتية الآسرة في الفيلم الثاني. ومن يراهما ويرى في أثرهما فيلم «ذئب وول ستريت» على سبيل المثال يدرك الفارق الشديد بين المدرستين.

تبادل مواقع في الوقت الذي كان فيه ديبونل يصوّر فيلم الأخوين كووَن، كان مدير تصويرهما المعتاد روجر ديكنز مشغول بتصوير «سجناء» الذي يدخل المنافسة هنا. ديكنز هو الأميركي الوحيد في هذه الصحبة (مدير التصوير الخامس فيليب لو سورد هو أيضا فرنسي) لكنه مثلهم جميعا لم ينل الأوسكار من قبل رغم كثرة ترشيحاته. في عام 1994 نافس على أوسكار أفضل تصوير عن فيلمه «إصلاحية شوشانك» ثم رشّـح بعد ذلك تسع مرات أخرى، من بينها مرّتان في سنة واحدة، ففي عام 2008 نافس على الأوسكار عبر فيلمين هما «لا بلد للمسنين» (للأخوين كووَن أيضا) و«اغتيال جيسي جيمس بيد الجبان روبرت فورد» لأندرو دومونيك لكنها ذهبت عن استحقاق فعلي لروبرت إلسويت عن تصويره «سيكون هناك دم» (إخراج بول توماس أندرسن).

حقيقة أن ديكنز صوّر معظم أفلام كووَن إلى حين قريب لا يجعلهما بمنأى عن نقده لهما من حيث إنه يجدهما محددين ربما أكثر مما يتمناه مدير التصوير. ذكر ذلك ذات مرّة في حديث لمجلة «المصوّر السينمائي الأميركي» المتخصصة وأضاف: «يقومان برسم الفيلم مسبقا ثم الالتزام بما قاما بتخطيطه قدر الإمكان».

هذه المرّة وجد مدير التصوير ديكنز نفسه يتعامل مع مخرج جديد عليه هو الكندي دنيس فيلينيوف ومن غير المتوفّـر أي مرجع، سوى الفيلم ذاته، لمعرفة منهج علاقتهما العملية. «سجناء» هو فيلم تشويقي بمدارات إنسانية واجتماعية تتعامل مع حكاية أب يختطف رجلا يعتقد (والبوليس) بأنه يقف وراء اختطاف ابنته. البوليس ليس لديه أي دليل وعليه يخلى سبيله، لكن الأب (هيو جاكمان في الدور) مقتنع لدرجة الإيمان بأن هذا الرجل هو الخاطف فيقوم بسجنه في غرفة محكمة وتعذيبه حتى يسحب منه الاعتراف. هناك مفاجآت على صعيد الأحداث، لكن الفيلم لا يحمل تنويعا مظهريا. صورته متجانسة عموما بين الداخل والخارج باستثناء ما يطلبه كل تصوير من مراعاة لنوعية الإضاءة. الأرجح أن ديكنز (الذي استخدم كاميرا دجيتال) وظّـف أسلوبه شبه الطبيعي في الإخراج متكئا على سيناريو مشبع بالدكانة، لكنها ليست دكانة مشاعر بقدر ما هي دكانة الحكاية ذاتها وشخصيتها الرئيسية.

ديكنز يجد في الأجواء الرمادية (الشتوية) التي تسود الفيلم عناصره اللونية التي يحب. لقد تعامل معها من قبل ويتعامل معها، بمقدرة فائقة، الآن مستخدما منهج أن تكون الصورة، داخلية أو خارجية، واضحة. قرار لا بد أنه اشترك مع المخرج في تنفيذه.

كونغ فو هذا يتركنا أمام المرشّـح الأخير فيليب لو سورد الذي هو أقل المنافسين شهرة وكعدد أعمال. سبق له أن قام بتصوير أفلام فرنسية وأميركية ذات طابع مستقل، لكن The Grandmaster ليس من بينها. أخرجه الصيني كاري واي وونغ حول إيب مان، المدرّب الذي يصفه أساتذة فنون القتال بأنه أستاذ خارق المعرفة والقدرات لا يُـعلى عليه في الكونغ فو وفن استخدام السيف. ما هو مؤكد أنه درّب نجم سينما الكونغ فو الراحل بروس لي ولو أن تفاصيل ذلك ستجرّنا إلى موضوع آخر ليس له مكان في هذه الجردة.

المخرج وونغ دائما ما يحاول تقديم أعمال لافتة بصريا، و«الأستاذ العظيم» لا يخرج عن هذه المحاولات، بل الأرجح أنه يتجاوزها. يكفي أنه فكّـر في إسناد الإخراج إلى غربي لعله يستطيع التعامل مع مشاهد جديد وهو فعل ذلك نسبة للرقعة الأكبر من العروض التي تمتّع بها هذا الفيلم في الغرب.

ما هو لافت هنا، هو استخدام الألوان الفاقعة فوق الكثير من المشاهد المغطّـاة باللون الأسود. ليس هناك كثير من اللعب على مصادر تكوين الضوء في اللقطات، بل يترك مدير التصوير لو سورد للإضاءة أن تشارك في صياغة ألوان اللقطة. في ذلك يتعامل، وقد صوّر الفيلم بكاميرا فيلمية (وليس بالدجيتال) مع الكثير من الأجواء المصطنعة (المطر والمؤثرات الخاصّـة التي ستتدخل لكي يتم معالجة الفيلم تبعا لشروطها ما يحد من طلاقة التصوير).

الفيلم هو اختيار غريب من قبل أعضاء الأكاديمية وليس هناك من احتمال كبير في أن يتم تفضيله على جهود الأفلام الأخرى في هذا المجال.