«الشرق الأوسط» في مهرجان برلين السينمائي - 2: كيف يجد المال الأوروبي طريقه إلى هوليوود وأوسكاراتها؟

آلاف الحالمين في سوق برلين السينمائية

مارتن سكورسيري
TT

في السيارة التي أقلتنا من المطار إلى الفندق (أميركية، أفريقية الأصل)، جاءت من شيكاغو على جناحي طموحها. تقول: «كتبت سيناريوهات وأريد بيعها»، ثم تفتح حقيبتها وتخرج ورقة عليها ست ملخصات لما كتبته. هل باعت الكاتبة أي نصوص سينمائية من قبل، تجيب ابنة الـ40 بفخر: «لا، جئت بأمل كبير أن أستطيع بيع واحد منها هنا أو الستة معا».

أن تصبح مدينة أوروبية مصنعا لتفريخ الأحلام والآمال فإن ذلك ليس جديدا، لا على برلين ولا على كان ولا على مهرجان فينسيا. إلى كل واحد من هذه المهرجانات، يتوافد المحدقون في الأمل راغبين في التحول إلى كتاب أو مخرجين أو ممثلين أو منتجين. حفنة منهم هي التي تنجح، بطبيعة الحال، لكن المحاولات الدؤوبة لا تتوقف.

مهرجان برلين السينمائي الذي انطلق في السادس من هذا الشهر ويستمر حتى الـ26 منه هو مهرجانان في وقت واحد: مهرجان لأفلام الفن ومهرجان للسوق باسم لامع هو «سوق الأفلام الأوروبية» والمهرجان والسوق يجذبان مئات، إن لم يكن الآلاف، من الساعين إلى النجاح في المهن التي اختاروها.

السبب في أن مهرجان برلين بات أضخم من أن يستطيع المرء الإلمام به (نحو 400 فيلم في عشر تظاهرات وهناك ما يوازيها من أفلام معروضة في السوق، يعود - ولو جزئيا - إلى نجاح السوق القائمة بالموازاة. لكن جوابا عمن يسأل عن السبب الذي من أجله يقام المهرجان في عز الشتاء وليس في الربيع أو الصيف يعود، جزئيا أيضا، إلى أن هذا التوقيت يمنح السوق لأن تكون أول سوق سينمائية في أوروبا والعالم خلال السنة.

هذا العام، أكثر من سواه، هناك آمال أعلى ارتفاعا من المعتاد، كما حال منسوب المياه في سومرست، بريطانيا، الذي كاد يطمر بلدة موكنلي خلال العاصفة الأخيرة. طبعا المهمة على ابنة شيكاغو ليست سهلة، وخصوصا أنها لا تحمل اسما معروفا في مهنتها ولا تمويلا جزئيا لأي من أفكارها، لكن المقياس قائم على أسباب نجاح ملموسة في السنوات الأخيرة. عمليات البيع والشراء هنا والت نجاحها خلال السنوات الخمس الماضية وينتظر منها أن تحقق رقما كبيرا لها هذا العام أيضا. لكن العنصر المهم في تحريك هذا السوق آت من حقيقة مكتشفة: هل لاحظت أن الكثير من الأفلام المرشحة للأوسكار هذا العام من تمويل أوروبي؟

«عمر»، المرشح لأوسكار أفضل فيلم أجنبي، مستند إلى تمويل أوروبي شبه كامل، لكن هذا ممتد إلى الأفلام المرشحة لأوسكار أفضل فيلم ناطق بالإنجليزية، فالتمويل الأوروبي قاسم مشترك بين ستة منها هي «دالاس بايرز كلوب» و«هي» و«نبراسكا» و«فيلومينا» و«12 سنة عبدا» و«ذئب وول ستريت».

الأخير من تمويل شركة «رد غرانايت بيكتشرز» عبر مكتبها في لوس أنجليس، لكنها شركة أوروبية يشترك في إدارتها منتجون من بينهم شخص باسم رضا عزيز. هذه دفعت ميزانية الفيلم (100 مليون دولار) بالكامل. ليس فقط أن «ذئب وول ستريت»، كما أخرجه مارتن سكورسيزي وقام ببطولته ليوناردو ديكابريو، من بين الأفلام التي تسللت إلى ترشيحات الأوسكار وحظيت باهتمام النقد والإعلام، بل هو الأعلى نجاحا تجاريا للمخرج من بين كل أفلامه حتى الآن. مع نهاية هذا الأسبوع ترتفع إيراداته المسجلة في ألمانيا فرنسا وبريطانيا إلى أكثر من 75 مليون دولار. هذا المبلغ هو جزء من حصيلة عالمية قدرها 265 مليون دولار حتى مطلع هذا الأسبوع.

ما يكشفه ذلك هو أن إنتاج الأفلام من قبل شركات مستقلة، مثل «رد غرانايت بيكتشرز» أو مثل «نبراسكا» أو أي من الأفلام المذكورة أعلاه، بات أكثر جرأة من ذي قبل. الفيلم المستقل الذي يعيش في بال الحالمين بأفلام صغيرة تنقض على السائد وتدمره، مدعوون لمراجعة معلوماتهم لأن ما هو مستقل، إنتاجيا على الأقل، بات من السائد نفسه، لا يميزه عن أفلام ممولة كاملا من هوليوود سوى أنها ذات مواضيع لا تنتمي إلى المسلسلات التقليدية وأفلام السوبرهيرو.

* أفلام برلين

* فيلم الافتتاح: يخطف البصر ويفضل التاريخ The Great Budapest Hotel | Wes Anderson (*3) الذي صنع أفلاما من نوعية «راشمور» و«الحياة المائية لستيف زيسو» و«دارجيلينغ ليمتد» ثم «مملكة سطوع القمر» (Moonshine Kingdom) وميزها بأسلوبه الدقيق، لا يستطيع أن يخرج عن هذا المنهج مطلقا خوفا من فقدان هويته. كل ما يستطيع فعله هو محاولة تطويره. هذا هو حال مخرج هذه الأفلام وس أندرسون في عمله الجديد «فندق بودابست الكبير» الذي افتتح الدورة الـ64 من مهرجان برلين.

كالعادة هو فيلم أسلوبي منفذ بصريا لاستغلال حب المخرج للتصميم المختلف: هناك المشاهد التي يلتقي فيها لون الخلفية مع لون ملابس الممثلين ولون السقف ولون الأرض، وهناك العناوين التي تظهر على الشاشة مشاركة في تأليف المشهد والبدع الصغيرة الأخرى المألوفة في أفلام أندرسون.

أكثر من ذلك، يختار هنا الانتقال من مقاس فيلمي إلى آخر حسب الفترة الزمنية: الستينات مصورة بنظام الشاشة العريض. الثلاثينات بمقياس 35 مم الأصغر من مقاس 35 مم المعمول به حاليا.

العالم الذي يتعامل معه هذا المخرج ليس في الواقع، حتى عندما يذهب إلى الهند في «ذا دارجيلينغ ليمتد» (2007) أو إلى هذه المقاطعة غير المسماة من أوروبا التي تقع فيها الأحداث ما بين الحربين العالميتين وما بعد (تنطلق من اليوم ثم تزور أواخر الستينات ثم تمضي في الأمس أكثر لمشارف سنة 1932). الفندق الذي في العنوان مميز بقدر الفندقين اللذين شاهدناهما في فيلم «سايكو» لألفرد هيتشكوك (1960) و«اللمعان» لستانلي كوبريك (1980) لكن في استخدام مختلف، فهو ليس فيلم رعب، كحال هذين العملين البديعين، بل فيلم ذكرى وذاكرة. حنين إلى أمس يراه المخرج، وربما معه الحق في ذلك، جميلا وشبه منزه عن زلات البشر. إنه عن السلوكيات الاجتماعية التي تبدلت وانحدرت من تصرفاتها الدمثة وسلوكياتها المرهفة إلى ما نحن عليه اليوم. ولا تستطيع أن تخطئ المخرج في هذا الموقف فما نعيشه يتجاوب مع ما نراه على الشاشة ويؤيده.

في ذلك الفندق نتعرف على مالكه مصطفى (ف. موراي أبراهام) وعلى «الكونسييرج» غوستاف الذي لجانب انضباطه في العمل لا يمانع في إقامة علاقات عاطفية مع بعض نزيلاته حين تتاح الفرصة (والفرصة متاحة الآن مع نزيلة أرستقراطية عجوز تؤديها تيلدا سوينتون). ابنها (أدريان برودي) سرعان ما يتهم غوستاف بقتل والدته في تطور لحبكة لا تتوقف عن فتح نوافذ كل منها يطل على حبكة أصغر. قصة داخل قصة والفيلم يتمدد لكن من دون أن يفقد معناه أو متنه الأهم.

لكن في الوقت الذي يستمتع فيه البعض بكل هذا التركيب، يمكن للبعض الآخر، ولن يكون بعيدا عن الصواب، النظر إلى أسلوب أندرسون على أنه مفبرك ومتكلف. كلاهما يحمل قدرا مقبولا من الحقيقة بلا ريب.

* حدث ذات مرة: حرب آيرلندية (*3) | Yanne Demange العنوان هو رقم العام الذي وقعت فيه الأحداث (1971).. أو لعلها لم تقع مطلقا. فيلم يان دمانج، الذي انشغل في السنوات الأولى من مهنته بتحقيق مسلسلات تلفزيونية وأفلام قصيرة، ليس مبنيا على واقعة فعلية، لكنه يستند إلى تاريخ واقعي إذ يدور خلال الحرب الآيرلندية الأهلية التي لا ريب شهدت حكايات تشابه الحكاية المسرودة هنا قسوة إذا لم تتجاوزها.

يؤسس السيناريو لشخصية بطله غاري (جاك أو كونيل) الشاب الملتحق بالخدمة العسكرية حديثا الذي يتلقى فجر أحد الأيام الأمر بالتوجه إلى آيرلندا الملتهبة بالصراع بين البروتستانتيين المخلصين لبريطانيا والكاثوليكيين المناهضين لها.

قبل ركوب السفينة التي ستنقل الحامية، يلاعب غاري ابنه الموجود في مدرسة داخلية والذي يخشى أن لا يعود والده من تلك الحرب. غاري يطمئن ابنه ثم ينطلق. بعد يوم على الأكثر يجد نفسه في أرض العدو. لقد حاصره الآيرلنديون عندما دخلت الحامية منطقة كاثوليكية هو ورفيق معه وانهالوا عليهما ضربا. أحدهم أطلق النار على رفيقه لكن غاري هرب والقاتل في أعقابه. هناك مطاردة، تذكر بأسلوب المخرج بول غرينغراس في سلسلة «بورن» التشويقية، لكنها ليست بقوة مونتاجه، وتقع بين عضو منظمة آيرلندا الجمهورية (IRA) وغاري الباحث عن النجاة.

المطاردة مفتاح الموضوع بأسره. كنه سرده. فالجندي غريب في تلك المنطقة من المدينة ولا يعرف بمن يثق به والمطاردون (ازداد عددهم طبعا) يبحثون عنه. يلتقطه صبي صغير ويقرر مساعدته. لكن انفجارا يقع في المكان الذي لجآ إليه ويصاب غاري فينقله آيرلندي وابنته خفية إلى شقتهما. الجنود البريطانيون يبحثون عنه من ناحية، والمطاردون كذلك، والعوامل والاتجاهات السياسية تتضارب بحيث تتشابك المصالح، وخصوصا أن الإدارة السياسية للحامية البريطانية لديها «أجندتها» الخاصة في هذا الوضع.

لمعظمه هو فيلم تشويقي مع نهاية غير مؤذية لأحد. لكن التشويق ليس على حساب الموضوع وتشعباته. هذا فيلم عن معاناة فرد ويمكن قراءة معاناة الحرب الأهلية ووقعها على المواطنين. ربما ليس من المفضل وصفه بأنه فيلم مضاد للحرب، إذ يأتي هذا عرضا طبيعيا من دون جهد، لكنه بالتأكيد يصفها بالعبثية ولديه ما يقوله عن تصرفات الجيش البريطاني منذ قيامه في مطلع الفيلم بالتراجع أمام ثورة أهل الحي تاركا غاري لمصيره.

أسلوب العمل يعتمد على تصوير متحرك (كاميرا محمولة ومهزوزة لكنها مناسبة) ومونتاج متلاحق والمخرج يعامل الموضوع بأسره حسب الأسلوب التشويقي الملائم إنما بثقة الحريص على توظيف هذا الأسلوب لخدمة الجانب الإنساني من حياة مجند يحاول البقاء حيا والعودة إلى ولده في نهاية المطاف. خلال العرض ينجح المخرج في الإيحاء بأنه في الواقع وراء فيلم حربي. الاختلاف بينه وبين سواه أن الحرب هنا أهلية خمدت نيرانها قبل سنوات قليلة لتنشب في بلاد أخرى وبين مذاهب مختلفة.