طريق مضطرب أوصل برلين إلى مكانته الحالية

تجاذبته الأغراض السياسية طويلا

فيلم جان- لوك غودار الطليعي فاز سنة 1965
TT

* مهرجان برلين بدأ بقرار سبق عقد الدورة الأولى بتسعة أشهر؛ لجنة تضم خبراء وأمنيين وإداريين بقيادة مسؤول السينما في قوات التحالف أوسكار مارتاي، أمّت اجتماعا في التاسع من أكتوبر (تشرين الأول) سنة 1950، لبحث الموضوع، وأقرت أن تبدأ الدورة الأولى أعمالها في السادس من يونيو (حزيران) 1951 وحتى الـ17 منه، وجرى إسناد الإدارة إلى مؤرخ سينمائي ألماني باسم ألرد بووَر، الذي كان عمل لحساب مكتب «الرايخ» في الأربعينات، ثم أنقذ نفسه من ورطة العلاقات الحزبية في الوقت المناسب. برلين كانت لا تزال ركاما، والرغبة كانت تأسيس مهرجان يناسب الحلفاء والسياسة الغربية الجديدة.

فيلم افتتاح تلك الدورة الأولى كان فيلم «ربيكا» لألفرد هيتشكوك الذي أم المهرجان بصحبة بطلته جوان فونتاين، وهو الذي كان أمضى ردحا من تاريخه الشخصي يعمل مساعد مخرج في إطار الإنتاجات الألمانية في أواخر العشرينات.

بعد تسع سنوات (أي في عام 1960) بدا المهرجان كما لو أنه آيل إلى إخفاق شديد، فالحضور قليل والأفلام محدودة. كذلك فإن المنافسة الرئيسة في تلك السنوات لم تكن بين «برلين» و«كان» بل بين «كان» والإسباني «سان سابستيان»، كلاهما في مواقع سياحية بحرية، وكلاهما امتلك من التمويل في ذلك الحين ما جذب النجوم الأميركيين والأوروبيين. إلى ذلك، بدا المهرجان (ومن ورائه السينما الألمانية ذاتها) محافظا في الوقت الذي سادت فيه التيارات الجديدة والمغايرة سينمات العالم. كان على السينما الانتظار إلى أواخر الستينات قبل أن يتسلل إليها مخرجون حفروا أخاديد جديدة في جبينها، أمثال راينر فرنر فاسبيندر وفولكر شلندروف وفيم فندرز وفرنر هرتزوغ.

هذا الإخفاق كاد يطيح بفكرة المهرجان نفسه. البعض في ذلك الحين تحدّث لا عن موت السينما السائدة (سينما «البابا والماما» كما كانوا يسمّونها) بل المهرجان نفسه.

عاند المهرجان حبا في البقاء والنتائج الناجحة الأولى لقرار الحياة بدت واضحة في منتصف الستينات، مع فوز الفرنسية أغنيس فاردا (وهي واحدة من المخرجين الطليعيين) بجائزة لجنة التحكيم، التي شملت آنذاك ألمانا وبريطانيين ويابانيا وبرازيليا وفرنسيا. من باب الخروج من الإطار القديم ذهبت الجائزة الأولى لفيلم آخر من الموجة الفرنسية الجديدة هو «ألفافيل» لجان - لوك غودار، وجائزة أفضل مخرج حطت بين يدي المخرج الهندي (الراحل) ساتياجيت راي عن فيلمه «شارولاتا»). لي مارفن نال جائزة أفضل ممثل والهندية - البريطانية مدهور جفري كانت الموازي النسائي لتلك الجائزة عن فيلم «شكسبير والاه».

العام ذاته كان عام بداية اعتماد أقسام ومظاهرات أخرى. تم خلق مظاهرتين؛ واحدة للأفلام التي رأت الإدارة أنها أكثر إثارة للمتاعب من تلك المعروضة في المسابقة وأخرى كانت بمثابة عروض احتفائية للمنتجين والمخرجين الذين كانت لهم أفلام مشتركة في المسابقة الرسمية.

لكن صراعا آخر بدأ في العام ذاته. فخلال السنوات الماضية كانت الحكومة الألمانية ترغب في أن يلتزم المهرجان بمبدأ يراه ضروريا، جرى تأسيس المهرجان عليه، وهو عرض الأفلام ذات النبرة السياسية، خصوصا تلك التي تهاجم المعسكر الشرقي في أوروبا. لكن إدارة المهرجان الفعلية كانت أصرّت على أن الأفضلية يجب أن تكون للأعمال التي تتمتع بمستوى فني عال بصرف النظر عن الحشوة التي فيها. بقيام المهرجان بتخصيص عرض للأفلام ذات القضايا الحسّاسة استطاع تخفيف الضغط الحكومي بعض الشيء بتحويل مثل تلك الأفلام إلى ذلك القسم، وإبقاء المسابقة عملا فنيا في الأساس.

* أزمة عاصفة لكن لم يكن هناك مهرب من المواجهة الساخنة. في عام 1970، قام المخرج الألماني مايكل فرهوفن بتقديم فيلم عنوانه «أوكاي» إلى لجنة الاختيار، وهذه وافقت عليه وأدرجته في المسابقة الرسمية وفي إطار التعريف به وصفته بأنه «فيلم يدعو للسلام». لكن لجنة التحكيم (التي ضمّت المخرج الأميركي جورج ستيفنس رئيسا) تقدمت، بعد مشاهدتها للفيلم، بطلب إلغاء الفيلم من المسابقة لأن الوصف المذكور ليس حقيقيا. عدّت إدارة المهرجان أن هذا تدخل في شؤونها، وتأزّم الوضع مهددا بانفجار. فالحكاية التي اختارها المخرج فرهوفن تقع في أوروبا الوسطى (من دون تسمية البلد) وملخّصها قيام جنود باغتصاب امرأة بريئة. لكن ما رمزت إليه هو حادثة قيام جنود أميركيين باغتصاب فتاة فيتنامية قبل سنوات قليلة، خلال الحرب الأميركية - الفيتنامية.

لجانب أن الحكومة الفيدرالية لم تكن سعيدة باختيار المهرجان لهذا الفيلم، قاوم المهرجان محاولات السيطرة الرقابية عليه. لكن الخلاف سرعان ما دب داخل لجنة التحكيم عندما رفض المخرج اليوغوسلافي المشترك فيها دوسان ماكافييف، هيمنة المخرج الأميركي ستيفنس، ومحاولته فرض رأيه على باقي أعضاء لجنة التحكيم.

نتيجة كل ذلك جرى إلغاء المسابقة، ومع أن العروض خارج المسابقة استمرّت، فإن إلغاء المسابقة هو أقرب إلى إلغاء الدورة بأسرها.

لكن برلين نجا من المأزق في العام التالي، وبعد سنوات قليلة استطاع المهرجان بلورة نفسه كلاعب متوسط التوجّهات خلال الحرب الباردة بين الشرق والغرب. الأفلام الأوروبية الشرقية الباحثة عن رحيق من الحرية تسللت إليه كتلك الغربية التي كانت تنتقد النظام.

ثم قرر المهرجان في عام 1977 نقل موعده من الربيع ومطلع الصيف، ما بين يونيو (حزيران) ويوليو (تموز) إلى موعد شتوي. الغاية كانت الابتعاد عن مهرجان «كان» المقام كل مايو (أيار). كما كان الحال عليه آنذاك، كان المهرجان البرليني على بعد مسافة قصيرة بعد المهرجان الفرنسي، مما أثر على اختياراته من الأفلام. كان مهرجان سان سابستيان قد خسر جولته ضد «كان» (وإن بقي من تلك المهرجانات الكبيرة) واحتل برلين المكانة الثانية مباشرة (مقابل اهتزاز وضع مهرجان فينيسيا الإيطالي آنذاك)، وتبعا لتلك المكانة قرر برلين تغيير موعده، فأقيمت دورته الـ28 بعد ثمانية أشهر فقط (مما يعني إقامة دورتين في 12 سنة)، وهو الموعد الذي استمر عليه حتى اليوم.