«جلجامش» يكسر لغته المسمارية وينتفض شعرا في الدمام

عبد الله جمعة يدشن الترجمة الشعرية لملحمته في حفل حضره الشعر والأدب والموسيقى

عبد الله جمعة.. رحلتي مع «جلجامش» امتدت نحو 50 عاما
TT

في ليلة امتزج فيها الشعر بالتاريخ، احتشدت جمهرة من أهل الثقافة والإعلام يشهدون ولادة جديدة لملحمة «جلجامش» خامس ملوك «أورك» السومرية، الذي أصبح أسطورة للقوة والجمال، وأسطورة أخرى لالتحام الجسد الإنساني بأرواح الآلهة التي عرفتها الحضارة السومرية قبل آلاف السنين.

فاجأ عبد الله صالح جمعة، الذي ترجل حديثا عن رئاسة «أرامكو السعودية»، كبرى شركات النفط العالمية، جمهور الثقافة بأن قدم لهم عملا متقن الأداء يعيد إنتاج ملحمة جلجامش بروحها الشعرية ذات المضامين الآسرة، التي تجتهد للاقتراب من روح النص وعلو مضامينه، وتتجنب صرامة اللغة المسمارية التي خطّت بها.

كان الحفل بحاجة إلى «ميلودراما» تعيد جلجامش إلى جواره القديم، حيث حضارة «دلمون» التي كان واسطة العقد بين الحضارتين السومرية وحضارة السند، وكانت أرضها موئلا لأرواح السومريين، لذلك تولى الفنان السعودي راشد الورثان تقديم صورة ملحمية لملحمة جلجامش على المسرح، وأجاد في خلق الدهشة والتنقل بين محطات من سيرة جلجامش، وفي بحثه الدؤوب عن عشبة الخلود، وبكائه على رفيقه انكيدو.

وبالإضافة للعرض الميلودرامي، صاحب حفل التوقيع عزف على آلة القانون للعازف عبد العزيز أبو السعود، وعزف آخر على آلة «التشيللو» للعازف حمد خليفة، وقدمت الأمسية الإعلامية ناهد الأحمد، في حين قدم الفنان التشكيلي عبد الرحمن السليمان لوحة فنية هدية لعبد الله جمعة مقدمة من «جمعية الثقافة والفنون» التي استضافت الحفل.

خلال الحفل تحدث مصمم الكتاب الفنان كميل حوا عن علاقته بعبد الله جمعة، ومشوار وضع هذا الكتاب في حالته الراهنة، كما تحدث عن المواصفات الفنية التي اختص بها الكتاب من حيث الورق الذي يشبه لونه الطين اليابس (وكأنه عُجن وخبز خصيصا لكتاب جلجامش، الذي اكتشفت كتاباته المتقطعة على ألواح طينية). وجاء سمك الكتاب وغلافه ليعززا الإحساس بصلابة لوح الطين وملمسه.

كما تحدث عن التصميم والرسومات التي استغرقت عدة أشهر، بالإضافة إلى الخط المصمم ليكون ثيمة الملحمة، والمأخوذ من الكتابات السومرية. وقد صمم الرسومات الفنان السوداني عمر صبير، وصمم الخط الفنان مأمون أحمد الذي قام بتشكيل حرف خاص يشبه الحرف المسماري، وجرى استخدامه بكتابة الاستشهادات المصاحبة للرسوم.

الناقد السعودي الدكتور سعد البازعي عبر عن علاقات النص الذي ترجمه عبد الله صالح جمعة، مؤكدا أن عبد الله صالح جمعة أراد أن يؤكد دلالة الترجمة على القراءة وأنه قد أحسن صنعا.

وقارن البازعي بين ترجمة عبد الله جمعة وأربع ترجمات للملحمة، أشهرها ترجمة طه باقر وفراس السواح، وترجمات ودراسات أخرى لسامي سعيد الأحمد وعبد الحق فاضل وأنيس فريحة ووديع بشور.

وقال البازعي إن الملحمة حضرت إلى العربية في عدة نصوص سابقة، وإنها تبرر إعلان عبد الله جمعه بأن سعيه مختلف، الأمر الذي يتضح من قراءة النص «لتصبح الترجمة أو القراءة مشروعا في إضفاء روح الثقافة العربية على العمل الموغل في العراقة السامية القديمة».

أما الناقد الدكتور سعيد السريحي، فلاحظ أن «جلجامش الخارج من ألواح تنازعتها الآلهة والبشر؛ كلما كتب إله فيها سطرا كتب الإنسان فيها سطرا، حتى انتهت إلى أن تكون مركبا من أسطورة تتحدث عن آلهة كانت تتنزه على الأرض كلما ضاقت بعزلتها فوق السماء، وتاريخ يروي تغريبة إنسان يكتشف مواطئ قدميه على الأرض ويحلم بأجنحة تعيده إلى سماء أخرجته الآلهة منها».

في حين عد الدكتور محمد الخزاعي، الناقد البحريني، أن ملحمة جلجامش السومرية التي كتبت بالخط المسماري هي أول عهد للإنسان بالكتابة، و«هي من أقدم إنجازات الإنسانية، وواحدة من أقدم الأعمال الأدبية التي عرفتها البشرية، وقد خطت على 12 لوحا طينيا جرى اكتشافها عام 1853 بموقع أثري في نينوى بالعراق فيما يعتقد أنها كانت مكتبة الملك الأشوري آشور بينابال. وتوجد هذه الألواح التي كتبت عليها الملحمة في المتحف البريطاني، ويعتقد أن نسخة منها موجودة من قصيدة (ذلك الذي رأى البحر أو كل شيء) التي كانت تتداول في بابل وآشور خلال الألفية الأولى قبل الميلاد. ويعتقد البابليون أن هذه القصيدة من وضع أحد العلماء ويدعى «سن ليق أونيني» في مدينة أوروك أو الوركاء ما بين عامي 1300 و1000 قبل الميلاد. كما يعتقد أيضا أن هذه القصيدة أعيدت كتابتها من قبل شاعر مجهول أو أكثر قبل 3700 سنة مضت. وقد قام علماء اللغة الآكادية بفك رموزها وترجمتها إلى اللغة الإنجليزية».

وقال إن «الحديث عن جلجامش وملحمته الأسطورية يقودنا للتطرق إلى عوالم ثلاثة تتمثل في الجغرافيا والتاريخ والأساطير بوصفها تعبيرا أدبيا.. فالتاريخ يقودنا بطبيعة الحال إلى فترات وحقب عرفت بتاريخ الحضارات القديمة التي ظهرت قبل عدة ألفيات. وقد لفت علماء الحضارات نظرنا إلى عالم الجغرافيا حيث كانت تلك الحضارات سائدة في الشرق وتمتد من الصين إلى وادي الرافدين، إلى جانب الحضارة الفرعونية في مصر في أقصى الغرب. وقد توسطت حضارة العالم القديم حضارتان بين الشرق والغرب، هي الحضارة السومرية في بلاد ما بين النهرين، وامتدادها جنوبا إلى ما كان يعرف بحضارة دلمون. وأسطورة جلجامش كان مسرحها مدينة أوروك السومرية والبحر الذي ارتاده جلجامش في رحلته بحثا عن زهرة الخلود التي قيل إنها كانت تنبت في قاع البحر».

أما عبد الله جمعة فتحدث عن الترجمة، التي عدها قراءة خاصة تعود إلى أدراج دراسته عندما كان طالبا في الجامعة الأميركية في بيروت، حيث كان يتعين على الطلاب أن يحضروا دورتين دراسيتين في العلوم الإنسانية تعنيان بتطور الفكر الإنساني.

قال عبد الله جمعة إنه شغف أثناء قراءته وهو طالب بالمعنى السامي للنص الإنجليزي، «حيث قرأها عن ترجمة إنجليزية لكاتبها ن. ك. ساندرز»، مضيفا أنه وجد بعض الوقت أثناء عمله في شركة «أرامكو السعودية» وأثناء مهمة عمل عام 1970 في مدينة بقيق النفطية، حيث بدأ هناك ترجمة هذه الملحمة إلى اللغة العربية، من نصها الإنجليزي، وقال: «ما حداني لذلك هو أنني أولا تأثرت كثيرا بالأبعاد الإنسانية لهذا العمل الأدبي، ثم إنني، ثانيا، شعرت بأن هذه القصيدة الملحمية التي كتبت باللغة السومرية أصلا لا بد أن تكون كتبت بلغة شعرية راقية ليكون أثرها كبيرا بين قرائها».