بغداد تستعد لتأهيل نصب الحرية.. وفنانون يخشون تخريبه

بعد تضرره الكبير بسبب التفجيرات «الإرهابية»

متظاهرون قرب النصب («الشرق الأوسط»)
TT

طالب فنانون تشكيليون وباحثون عراقيون أمانة بغداد بالتروي واستشارة خبراء قبل الشروع بأعمال ترميم أهم نصب للحرية والتحرر وسط العاصمة بغداد (نصب الحرية) للفنان الكبير الراحل جواد سليم، بعد تعرضه إلى أضرار كبيرة بسبب الانفجارات القريبة من محيطه، إضافة لعوامل التقادم الزمني والظروف الجوية، التي تسببت بتصدع أركان مهمة فيه.

ويعد نصب الحرية الذي أقيم عام 1960 للفنان الراحل (جواد سليم) أحد أهم الآثار والمعالم الفنية إذ يجسد مسيرة الحضارة الإنسانية في وادي الرافدين ويتألف من 14 مفردة أو قطعة فنية كل منها يرمز إلى حقبة من تاريخ العراق الحضاري والسياسي كما أنه يعد من بين أبرز المعالم الفنية الموثقة عالميا، وكانت أمانة بغداد قد أعلنت مؤخرا عزمها تأهيل النصب عبر مفاتحتها منظمة اليونيسكو لترشيح عدد من الشركات العالمية المتخصصة.

أهمية نصب الحرية تضاعفت بشكل كبير بعد أن احتضنت ساحته الكبرى التي تتوسط العاصمة بغداد ساحة التحرير أحد أهم تظاهرات واحتجاجات العراقيين في 25 فبراير (شباط) عام 2011 التي جوبهت بالقمع وإجبار المتظاهرين على التفرق، للتتوالى بعدها مظالم الناس واحتجاجاتهم قريبا منها مما حدا بالسلطات الأمنية إلى فرض طوق أمني كبير في محيطه ومارست ضغوطاتها لإبعاد المحتجين عنه إلى ساحات أخرى في بغداد.

الفنان التشكيلي سلام عطا صبري قال في حديثه لـ«الشرق الأوسط»: إن «دائرة الفنون التشكيلية هي الجهة المختصة بأعمال ترميم النصب ولا بد من استشارتها وكذلك جمعية الفنانين التشكيليين إضافة لأخذ رأي فنانين أكفاء لهم باع طويل في مثل هكذا مشاريع وسبق أن أشرفوا على ترميم نصب وفق المواصفات الفنية والقياسية، قبل تأهيله بشكل سريع وغير مدروس».

وأضاف صبري: «من الممكن استشارة المهندس الذي صمم النصب وهو الأستاذ رفعت كامل الجادرجي الموجود حاليا في لندن وكان له الفضل في تكليف الراحل جواد سليم لأجل إنجازه في عهد الزعيم عبد الكريم قاسم (رحمه الله)».

وكشف صبري أيضا عن استعدادات دائرة الفنون خلال الأيام القادمة للاحتفاء بالذكرى 56 لوفاة جواد سليم تتضمن إلقاء محاضرات ثقافية عن حياته ومنجزاته ومعرض فوتوغرافي لأهم أعماله واحتمالية عرض العمل الفني الوحيد والنادر للفنان (الأم وطفلها) أمام الجمهور أنجز عام 1975 من مادة الخشب، والذي سلم من عمليات النهب والتدمير بعد عام 2003، وفقدت جميع أعماله خصوصا الزيتية منها والتخطيطات بما فيها العمل النادر لوحة مدينة الكوفة وهي لوحة كبيرة أنجزها في الخمسينات من القرن المنصرم، وقد دونت كل المفقودات في كتاب كبير صدر العام الماضي باسم (التراث الثقافي العراقي المفقود).

بدوره استغرب الدكتور جمال العتابي مدير عام دائرة الفنون التشكيلية في وزارة الثقافة، عدم علمهم بأعمال التأهيل وقال: «التأهيل مطلوب لنصب يحمل خصوصية كبرى لدى العراقيين، ويرمز إلى حقبة من تاريخ العراق الحضاري والسياسي، كما أنه يعد من بين أبرز المعالم الفنية الموثقة عالميا، ويجب انتهاج الأسلوب الصحيح لذلك، عبر التنسيق مع الجهات ذات العلاقة».

وأضاف العتابي: «فيما لو أنجزت الأمانة عملية التأهيل لوحدها وكانت جيدة فهذا عمل يحسب لها، لكننا نخشى أن يخرب النصب ويصبح مشابها للكثير من النصب التي خضعت للتأهيل بصورة خاطئة أو التي نصبت حديثا في أنحاء بغداد والمحافظات وهي لا تحمل أي قيمة فنية».

ومن جهتها أوضحت أمانة بغداد موقفها من عملية التأهيل، عبر المتحدث الإعلامي الناطق باسمها حكيم عبد الزهرة قائلا: إن «فكرة تأهيل النصب قديمة وسبق أن أحيلت إلى شركات إيطالية بحضور عدد من الجهات المعنية ووسائل الإعلام لدراسة النصب وإعداد الدراسات وترشيح شركات مختصة للعمل، والآن قمنا بمفاتحة منظمة اليونيسكو للثقافة والفنون والعلوم لأجل ترشيح شركات عالمية للترميم والتأهيل وعرضنا عليها الدراسات الإيطالية وفي حال إجابتنا واختيار أفضل العروض سنقوم بعرض النتائج على الجهات المعنية في وزارة الثقافة العراقية، وكذلك المختصين والفنانين لأننا ندرك أهمية النصب وقيمته الفنية».

وعن أهمية النصب، يقول الباحث التاريخي رفعة عبد الرزاق محمد «جواد سليم اسم ترك أثرا كبيرا في تاريخ العراق الفني، وأسرته الفنية مكنته من مهارته وإبداعه فيما بعد، ولد في أنقرة عام 1920، كان والده يرسم وأمه تزخرف أشغالها اليدوية وأخوه الأكبر منهمك بفن العمارة وأخواه الآخران رسامان وأخته رسامة أيضا».

وأضاف محمد: «عندما سافر جواد سليم في بعثة دراسية إلى باريس عام 1938 مكث هناك سنة واحدة حيث أعلنت الحرب العالمية الثانية التي وضحت (باريس) في خطر فغادرها إلى (روما) عام 1939 لتكملة تحصيله وإذا بالأخرى تلهبها الحرب أيضا فعاد إلى بغداد وهو حاقد على الحرب ومشعلوها وهو يقول في مذكراته بتاريخ 2 / 8 / 1944 (هذه الحرب السوداء التي كانت شرا على الإنسان، وهذه الحرب التي حرمتني من كل شيء تقريبا».

وعند عودته إلى بغداد عام 1940، توقف الفنون في عواصم جميع البلدان بسبب الحروب، فقد ترك الفنان (جواد) فرشاته أيضا. فكانت تلك الفترة مجدبة في حياته رغم اشتغاله موظفا في مديرية الآثار العامة وفتحه فرعا لنحت في معهد الفنون الجميلة وتعرفه على بعض رواد الفن العراقي الحديث كأكرم شكري، وفائق حسن، وعطا صبري، وحافظ الدوربي، وقاسم ناجي، وتعرفه عن طريق معرض أصدقاء الفن عام 1942 على نخبة من الفنانين البولونيين واتصاله ببعض الفنانين الإنجليز. ومن ثم وأتته الفرصة عام 1946 فذهب إلى لندن ودخل معهدا للفنون ليدرس النحت وكله أمل أن يخرج بنتيجة مثمرة وقد كان له ما أراد، فقد ولد فنيا في بلد الضباب (لندن) حيث تبلور قابليته الفنية هناك، وأمضى أربع سنوات في لندن فكانت انقلابا في حياته الفنية. لقد شغل (جواد) رئاسة قسم النحت في معهد الفنون الجميلة حيث كان أستاذا لجميع النحاتين العراقيين البارزين (محمد غني حكمت، وخالد الرحال، وإسماعيل فتاح إبراهيم) وغيرهم.

أما جبرا إبراهيم جبرا، قال إن فكرة نصب الحرية كانت تراود جواد منذ منتصف الأربعينات لكنه لم ير الوقت آنذاك يصلح لتنفيذها وعندما جاءت ثورة 14 يوليو (تموز) أيقن جواد أن الوقت أصبح مناسبا لتنفيذ حلمه، الجدارية عبارة عن سجل مصور تسرد أحداث رافقت تاريخ العراق مزج خلالها بين القديم والحداثة حيث تخللت النصب الفنون والنقوش البابلية والآشورية والسومرية القديمة، إضافة إلى رواية أحداث ثورة يوليو (تموز) 1958 ودورها وأثرها على الشعب العراقي، ولعل أهم ما يجذب الشخص عندما يطالع النصب للوهلة الأولى هو الجندي الذي يكسر قضبان السجن الذي يتوسط النصب لما فيه من قوة وإصرار ونقطة تحول تنقل قصة النصب من مرحلة الاضطراب والغضب والمعاناة إلى السلام والازدهار.