الحكواتيون يعودون ليقصّوا أخبار النساء وغرائبهن

«المهرجان الدولي للحكاية والمونودراما» يعقد دورته الـ15 في بيروت

الحكواتية الفرنسية ناتالي لوبوشيه
TT

مساء أمس وقف الحكواتي اللبناني جهاد درويش في «قبو كنيسة القديس يوسف» يحكي قصص النساء المصريات في خضم الثورة. الرجل قضى ثلاث سنوات يجمع حكايات من شوارع مصر وحاراتها ومن أفواه نسائها. يخلط درويش بين العربية والفرنسية.. يستخدم كل مهاراته الجسدية والإيمائية، يشوق مستمعه، ومعه الحكواتية والممثلة الكوبية كارولينا رودريغيز، المعروفة بعشقها لتراثها الإسباني – الأفريقي.. تروي هي الأخرى قصص نساء من عالم آخر. رودريغيز التي تغني وتتماوج وتلقي الشعر تشاركت مع جهاد درويش ليفتتحان معا الليلة الأولى من «المهرجان الدولي للحكاية والمونودراما» الذي ينظمه «مسرح مونو» سنويا منذ 14 عاما، معيدا الحكواتيين وقصصهم إلى الواجهة، ومجتذبا جمهورا صار له مع هذا المهرجان تاريخ وحكايات. المهرجان يقام بالتعاون مع «المعهد الفرنسي في بيروت» ضمن «شهر الفرنكوفونية».

هذه السنة خصص المهرجان أيامه لـ«المرأة»، كما خصص العام الماضي لـ«أفريقيا».

تدور قصص الحكواتيين الخمسة القادمين كل من بلد مختلف، حول النساء.. فالمرأة هي ملكة الحكاية تقليديا، وتحية للجدات اللاتي روين للأجيال قصصا نقلت الموروث والتقاليد أجيالا بعد أجيال، سيحيي هؤلاء الحكواتيون ست ليال متتاليات، وهم ينهلون من هذا المعين الذي لا ينضب، مركزين على ما للمرأة من دور محوري. ومن المفاجآت الغريبة أن نعرف أنه بقدر ما للمرأة من دور في الرواية والقصّ، فهي ليست حاضرة بالقدر الكافي في الحكايات التي ترويها، مما يجعل مهمة المهرجان هذه السنة ليست بالسهلة.

أما حفل الليلة فيشارك فيه الحكواتيان حليمة حمدان من المغرب، وهي التي لها باع في القص، إلى جانب حسن كوياتي من بوركينا فاسو، الذي أصبح أحد أصدقاء المهرجان، بعد مشاركات له في عدد من دوراته.

أما الحكواتية الخامسة المشاركة في المهرجان فهي الفرنسية ناتالي لوبوشيه التي تجيد الرقص ومتخصصة في لغة الجسد، ولها قدرة على تجسيد الأدوار الرجالية كما النسائية وتقليد الحيوانات.

لكن بعد 14 دورة، هل من جديد يستطيع المهرجان تقديمه لجمهوره؟ مدير «مسرح مونو» بول مطر يرى أن «الحكواتي متجدد بذاته، وأن هذا الفن المرتبط مباشرة بالتواصل الدائم مع الجمهور، متغير وله ديناميكيته الخاصة».

قبل بداية كل عرض، يقف المسرحي بول مطر على المسرح لدقائق ليذكّر الجمهور بأنه «وراء كل امرأة عظيمة رجل»، على عكس المثل الشائع. ويتحدث في كل ليلة من ليالي المهرجان، عن ثنائيات مرت لا يمكن نسيانها.. «هناك أميرة صور، أوروبا، التي حملها الإله زيوس وذهب بها إلى اليونان لتحمل قارة بأكملها اسمها. وهناك أيضا عشتروت وأدونيس، ومي زيادة وجبران خليل جبران، وكليوباترا ومارك أنطونيو، والإمبراطورة جوليا دومنا من حمص التي حكمت ذات يوم المنطقة ومن خلفها ابنها كركلا، وكذلك ماري كوري التي صارت أشهر من زوجها بيار كوري لكنه حاضر بإيجابية كبيرة في مسارها. ويمكننا أيضا أن نتحدث عن عاصي الرحباني وفيروز.. والثنائيات كثيرة، وعلينا أن نذكر الجمهور بها.. هذا ليس موقفا ضد الرجل بل بالعكس، ثمة تكامل بين الرجال والنساء، والأمثلة شاهدة».

وبعد افتتاحية بول مطر، وقبل بدء الحكواتيين المحترفين عرضهم، يتعرف الجمهور على حكواتيين هواة، في سن يانعة، حيث جرى اختيار 22 شابا وشابة، من أصل 60 جرى تدريبهم في مدارس خاصة ورسمية على فن القص، والتحكم بالإلقاء ومواجهة الجمهور.

الليلة الأكثر تشويقا عادة، بالنسبة لمتابعي هذا المهرجان السنوي، هي الختامية والأخيرة، حيث تعقد منافسة أو مسابقة ارتجالية يشارك بها الحكواتيون جميعا، تحت عنوان: «مسابقة الكذابين». وفي الأعراف المتداولة، يطلق على الحكواتي اسم «الكذاب» لما يرويه من حكايات مختلقة فيها كثير من الخيال.

ودرج منظمو المهرجان، على الطلب من الجمهور كتابة اسم الموضوع الذي يودون سماع حكاية حوله على ورقة صغيرة، وتجمع هذه الوريقات في وعاء، وقد تبلغ المائة أو المائة وخمسين، قبل دخول المتفرجين إلى المسرح. وأثناء العرض يعمد أحد الحكواتيين إلى سحب ورقة، ويقص حكايته لمدة خمس دقائق تبعا لما هو مطلوب، ثم يعمد حكواتي آخر إلى سحب ورقة ثانية، ويكمل الحكاية الأولى، لمدة خمس دقائق أخرى، مبدلا مسار الحكاية تبعا لما كتب في الورقة. وهكذا يتناوب الحكواتيون على سحب الأوراق وقص حكايات مترابطة، لكنها في الوقت نفسه مختلفة تبعا لما أملاه الجمهور. وإذا كانت مدة الحكاية في الجولة الأولى خمس دقائق، فإنها تنخفض في كل جولة دقيقة واحدة، إلى أن تنتهي بكلمة، وتصبح عبرة الحكايات وخاتمتها.

هذه السنة، ومن وحي الموضوع الأم، أي «المرأة»، لن يطلب في حفل الختام كتابة كلمة على ورقة توضع في وعاء.. فثمة حبل مشدود على مدخل مكان العرض، وعلى المتفرجين أن يكتبوا الفكرة التي يبغون سماع قصة حولها على ورقة ويعلقونها على الحبل، وفي ختام المهرجان، ستجري تلبية طلب كل من ترسو القرعة على ورقته.

على هامش القصص التي يرويها الحكواتيون، هناك قاعة مخصصة لمعروضات تدور جميعها حول المرأة وقضاياها، جاءت بها هيئات وجمعيات وشعراء وفنانون.. هناك صور وملصقات ومنشورات، وقصائد تلقى، وقهوة تصب للزوار، لإضفاء أجواء حيوية.

في البدء، ومنذ 14 سنة، انطلق هذا المهرجان على «مسرح مونو» معيدا الاعتبار إلى الحكواتي الذي اندثر من حياتنا، واختفى بالكامل.. يومها جاء حكواتيون من بلدان مختلفة، وتحدثوا عن أهمية الحكاية الشفهية، وضرورة عودتها، وعن الاهتمام الغربي المتزايد بالحكواتيين الذين صاروا جزءا من الحاجة التربوية للأطفال ومن عمل المكتبات العامة. في ذلك الوقت، كان حكواتيو العرب في سبات. اليوم اختلف المشهد؛ فالحكواتي العربي عاد إلى المقاهي في شهر رمضان، كما بدأت استعادته في بعض الفصول المدرسية والمكتبات. منظمو هذا المهرجان أنفسهم أسسوا عام 2010 مهرجانا آخر ليست له صفة دولية سموه «مهرجان الحكاية الشعبية» يجول في مناطق لبنانية، بعيدة نسبيا، ويشارك فيه حكواتيون عرب، منهم شيرين الأنصاري من مصر، وحسين اللوباني من فلسطين، وعلى أيديهم تدرب شباب على القص، مثل خالد نعنع، وأحمد طي، وسارة قصير، ونسيم علوان، وأحمد العايدي، وهم ينشطون في القرى والبلدات، ويلقون ترحيبا ونجاحا لا بأس بهما.

الحكواتيون يتناسلون، إذن، ذلك لا يأتي بالصدفة، بل لأن ثمة من يعمل، وهناك من هو محتاج لهذا العمل. «الحكواتي يأتي من الماضي، لكنه ليس قديما محنطا يليق بمتحف، بل هو حي».. يقول بول مطر.. «ولو لم تكن من حاجة إليه، لما عاد. أنا أعيش عام 2014 حياة عصرية وأستخدم الكومبيوتر وعندي تلفزيون، لكن الحكواتي في مكان ما يخاطبني، ويلمس شعوري وذاتي وقلبي.. فنحن أشد ما نكون اليوم احتياجا إلى التواصل البشري، بحميميته ودفئه وحكاياته وغرائبياته القصصية أيضا».