الفنان التونسي إل سيد وحديث حول التراث والفن.. والرسم على القمر

أطلق أول كتبه «حوائط ضائعة.. رحلة بالكاليغرافيتي في تونس»

إحدى الجداريات في مدينة دوز
TT

المتابع للظواهر الفنية في العالم العربي والشرق الأوسط يلاحظ أن اهتمامات الشباب تتسق بشكل كبير مع التيارات العالمية، فمن الهيب هوب وستاند أب كوميدي إلى الغرافيتي، تجد كل الروابط مع الشباب في بقية أنحاء العالم. تتوحد الأساليب والأدوات ولكن المواضيع تختلف أو هكذا هو المفروض. فالبعض اتجه بكامل قواه إلى النقل الحرفي ابتداء من الأساليب إلى المواضيع والمدلولات، ولكن تبقى هناك شريحة من المبدعين الذين قرروا الدمج الخلاق بين الفنون وعالميتها وبين الشخصية المحلية وجذورها. الحالة الأخيرة تجد خير تمثيل لها في الفنان التونسي إل سيد، الذي اقتحم المشهد الفني بأسلوب خاص جدا به دمج فيه ما بين الغرافيتي وفن الخط «الكاليغرافي» فأخرج للعالم جداريات حية تتنفس فنا وأصالة وتاريخا وتراثا.

الحديث مع إل سيد ممتع وثري ويلخص الكثير من التيارات الفنية في العالم العربي إلى جيل صاعد من الشباب العربي يهوى الفنون ويريد أن يستكشف طريقه عبرها. غني عن الذكر أن إل سيد اكتسب مكانة أثيرة لدى الشباب، فهو مثلهم يهوى موسيقى الهيب هوب، ويحمل رشاش الطلاء ليحول الحوائط القديمة إلى لوحات فنية تحمل رسالة خاصة من الفنان إلى المجتمع.

ما الذي يشغل إل سيد؟ وما هي الرسالة التي يعمل على نشرها عبر جدارياته والأحرف الملونة المتشابكة التي تميزه عن غيره؟ بعض الإجابات وجدناها عبر الحديث مع الفنان على هامش «آرت دبي» حيث أطلق كتابه الأول «حوائط ضائعة.. رحلة بالكاليغرافيتي في تونس». بداية يحب إل سيد تأكيد أن فن «الكاليغرافيتي» الذي تميز به هو فن معروف عالميا أطلقه الفنان الأميركي جيفري ديتش في الثمانينات دمج فيه بين فن الخط والغرافيتي. خلال حفل إطلاق الكتاب تعمد إل سيد أن يستضيف جيفري ديتش الذي كتب المقدمة لـ«جدران ضائعة». يقول إل سيد بأن ديتش هو أول من كتب عن الكاليغرافيتي في الثمانينات وكان وقتها مدير متحف لوس أنجليس للفن المعاصر وأقام معرضا في نيويورك في عام 84 سماه كاليغرافيتي وأعاد نفس المعرض في 2014.

الكتاب يقدم لنا رحلة قام بها إل سيد في تونس الصيف الماضي: «شهر كامل زرت فيه تونس من الشمال للجنوب. وفي كل محطة كنت أتحدث مع السكان وأسمع لحكايات وقصص من حياتهم. من تلك الحكايات أجد موضوعا لجدارية أرسمها في تلك المدينة أو القرية».

على أي أساس يختار إل سيد الحوائط التي ينفذ عليها جدارياته وكيف يختار الكلمات التي يتركها؟ يقول: «الرسالة تأتي من الناس والحديث معهم، في تونس هناك قول: (تدخل المدينة براجلها) أي عبر شخص تعرفه من سكانها وبالفعل في كل مدينة زرناها كنا نعرف أحد الأشخاص نشرح له فكرة المشروع وكيف أننا نريد أن نظهر الجمال في تونس وفي المدينة ذاتها. ومن الحكايات المختلفة التي أسمعها من السكان أستخرج بيت شعر أو جملة أرسمها». يضرب لنا المثل بمدينة «جريسة» التونسية التي ظلت تحت سيطرة الفرنسيين لمدة 100 سنة، ويستطرد: «كانت مدينة غنية بالحديد، ولكن الآن الوضع بها غير جيد وعندما تتحدث مع كبار المدينة تجدهم يتحسرون على الماضي ويترحمون على أيام مجد مدينتهم. بينما الشباب يقول لم نر شيئا من هذا، ومن الوضع استوحيت جدارية كتبت فيها (يتوقف الزمان تستمر الحياة)، وهي على جدار أمام معمل الحديد الذي تغير نشاطه عن الستينات والسبعينات».

الاهتمام بالبيئة وبالثقافة العربية - الإسلامية من هواجس إل سيد يرى فيها خصوصيته كإنسان وفنان وينتقد عدم الفخر بها وبتجاهلها. يحكي لنا قصة عن مدينة تطاوين بصحراء تونس بالقرب من الحدود الجزائرية التي تضم الآن مدينة رملية أقيمت خصيصا لتصوير أفلام «حرب النجوم» للمخرج العالمي جورج لوكاس. يقول: «جورج لوكاس خلق في هذا المكان (كوكب تطاوين) الذي جرت فيه أحداث سلسلة أفلامه. وتطاوين أيضا تضم 155 قصرا أثريا، تشرف الحكومة على 11 منها ولكن باقي القصور مهملة. الغريب في الأمر هو مواقع الترويج للسياحة في تونس دائما أرى توصيات بزيارة موقع تصوير (ستار وورز) (حرب النجوم) باعتبارها من معالم (التراث التونسي).. لم أفهم.. كيف يمكن اعتبار موقع التصوير من التراث بينما عندنا تاريخ أكثر من 3000 سنة، وتقوم الجهات المسؤولة بتسويق مدينة جورج لوكاس التي بنيت في عام 79 للسياح القادمين من الخارج». يخبرنا أنه قرر السفر إلى تطاوين وزار موقع التصوير: «وجدت هناك رجلا مسنا رحب بنا وسأل عما نفعله هنا. حكيت له عن مشروع الكتاب وقلت له أريد أن أظهر تونس بشكل آخر، غير ذلك الموجود في نشرات السياحة وحكيت له عن المسجد الذي رسمت على مئذنته في بلدي، وطلبت إذنه أن أرسم على جدار في المدينة ووافق على الفور. وبالفعل اخترت جدار كتبت عليه عبارة (لن أكون ابنك أبدا) وهي جملة مستوحاة من فيلم حرب النجوم. وأيضا تدل على موقفي من اعتبار المدينة السينمائية جزءا من تونس. هو جوابي على الفيلم (انت مش من تراثي ولست من ثقافتي)». ولكن رسالة إل سيد لجورج لوكاس لم تعش كثيرا حيث قام البعض بإزالتها بعد ذلك.

جانب من رسالة الفنان هو حث الشباب على الاعتزاز بتاريخهم وتراثهم، ولكنه تعرض للهجوم بسبب رسمه على جدار مدينة «ستار وورز»، يقول: «هناك شيء أضحكني، وضعت الصورة في (فيسبوك) ولكني فوجئت بأن أشخاص من تونس هاجموني بعنف محتجين بأن مدينة جورج لوكاس (من التراث التونسي)». يعلق بمرارة واضحة: «رسمت على جدران أكثر عراقة، على حوائط بيوت قديمة عمرها أكثر من 100 سنة، سمح لي أصحابها بالكتابة عليها ولكن عندما حاولت الكتابة على حائط عمره 30 عاما هوجمت. أعتقد أن الأمر كله مرتبط بالثقافة، لا يوجد لدينا تربية ثقافية. فالانبهار بالغرب منتشر، وحتى الشباب الآن الذي يدخل مجال الغرافيتي، يكتب باللغة الإنجليزية. تعرفين لماذا؟ لأننا لسنا فخورين بالذي نملكه، الذين هاجموني فخورون بأن جورج لوكاس أتى من أميركا ليصور عندنا وليسوا فخورين بآثار عالمية مثل قرطاج».

استغرقت رحلة إل سيد عبر تونس شهرا بالكامل زار فيها 17 مدينة وقرية وترك خلفه 24 جدارية. «في مشروعي هذا كان من المهم هو أن أترك الفن للناس، فهم لا يرون الكثير منه. في مرة رأيت بيت وطلبت من صاحبه أن أرسم على جداره فوافق على الفور ولكن عندما بدأت العمل جاء رجل آخر تبين أنه صاحب البيت الحقيقي واعترض على عملنا فاعتذرت له وطلبت من أن يمنحني فرصة لأنتهي من الجدارية لكي أصورها ثم وعدته بإزالتها، ولكن الرجل عندما رأى العمل مكتملا أعجب به وطلب منا الاحتفاظ به».

أتساءل مع إل سيد إن كان قد نجح في توصيل رسالته للفنانين الشباب والمهتمين بفن الغرافيتي، وهل يرى أن اهتمامهم هذا نابع عن رغبة في التعبير عن مواضيع ذات صلة بالواقع الذي يعيشونه أم الأمر لا يتعدى «موضة» عالمية؟ يقول ببساطة محببة: «تعرفي في ناس عارفين وفيه ناس يقومون بالتقليد فقط من أجل التفاخر أمام أصدقائهم على مواقع التواصل الاجتماعي. أحاول أن أشجع الشباب على اكتشاف الشيء الذي يميزهم، فلا يمكن نقل الأعمال من الخارج». يضرب لنا مثلا «قلت لأحدهم طلب رأيي في أحد أعماله: «هذا نقل جيد لما أرسمه أنا، ولكن أنت يجب أن تخرج أسلوبك الخاص». هناك عدد محدود من الشباب الصاعدين ممن يملكون أسلوب خاص بهم والباقي يعتمدون على أساليب غيرهم، أجدني أقول لهم «انظروا حولنا، في أوروبا يمكن أن نجد 100 أسلوب فني في أوروبا وفي أميركا، بل أقرب من هذه الأساليب تختلف داخل المدينة الواحدة مثل نيويورك من حي لآخر. ولهذا أشجع الشباب على استخدام اللغة العربية (عربي غرافيتي) لا أرى معنى لأن يكتب شاب في الكويت الغرافيتي بلغة أجنبية، يجب أن يكون فخورا بلغته وبتاريخه. نحن دائما ننظر للخارج».

من رحلات إل سيد في أوروبا وأميركا وفي العالم العربي انطلاقا من بلده تونس يتولد لدينا الإحساس بأنه فنان ترك فنه في كل مكان، أجدني أتساءل: «ما الجدار الذي تحلم بالكتابة عليه؟». يجيب: «لا أعرف.. يمكن القمر.. مشروعي المقبل سيكون في دول مختلفة، إسطنبول، دمشق.. أما أبعد مكان أحلم به فهو القمر».