المايسترو الوقور فون دوهناني يقدم موسيقى بيتهوفن دون طلاء

أكثر القطع شعبية وإثارة

TT

السيمفونية الخامسة للموسيقار الأصم بيتهوفن التي تبدأ بضربات القدر وهو يقرع الباب، هي من أجمل أعماله وأكثرها شعبية. تأكدنا من ذلك أخيرا في الحفل الموسيقي لفرقة سان دييغو السيمفونية بقيادة قائد الأوركسترا الألماني المرموق كريستوف فون دوهناني وشعره الأبيض الوقور وسنواته الـ85 وحيويته الشبابية التي أطلقتها ألحان بيتهوفن القوية المتفائلة.

لم نسمع السيمفونية الخامسة بهذا الشكل منذ سنوات كثيرة، وكان على المايسترو الزائر والقادم من أوركسترا كليفلاند بولاية أوهايو أن يقنعنا بذلك. احتوى برنامج الحفل على افتتاحية ليونورا الثالثة لبيتهوفن ثم كونشرتو البيانو رقم 9 المسمى «الشاب الصغير» لموتسارت (وهي القطعة التي ألفها في بداية شبابه والتي أطلقت شهرته) بمشاركة عازف البيانو الأميركي الشهير ذي الأصل البولندي إيمانويل أكس وكان أداؤه موفقا، واختتم الحفل برائعة بيتهوفن السيمفونية الخامسة في صالة الموسيقى التاريخية منذ العهد المكسيكي في سان دييغو قبل أن تنضم ولاية كاليفورنيا بأجمعها إلى الولايات المتحدة.

المعروف أن لودفيغ فان بيتهوفن هو من أبرز عباقرة الموسيقى في التاريخ وهو مؤلف موسيقي ألماني خالد الذكر، وبدأ يعاني من ضعف السمع منذ عام 1801 حين كان عمره 31 سنة إلى أن انتهى بالصمم التام عام 1824 قبل وفاته بثلاث سنوات. كتب بيتهوفن يقول: «يا لشدة ألمي عندما يسمع أحد بجانبي صوت ناي لا أستطيع أنا سماعه أو يسمع آخر غناء لأحد الرعاة بينما أنا لا أسمع شيئا.. كل هذا كاد يدفعني إلى اليأس وكدت أضع حدا لحياتي اليائسة إلا أن الفن وحده هو الذي منعني من ذلك». راودت فكرة البطولة بيتهوفن كما نلمسها في موسيقاه في السيمفونيات الثالثة (البطولية) والخامسة والتاسعة وفي مسرحيته الغنائية الوحيدة «فيديليو» لكنها ليست بطولة المعارك الحربية، بل بطولة الإنسان في كفاحه للظفر بحريته. ارتبط اسم بيتهوفن بأنبل الأهداف الإنسانية وعبر في ألحانه عن إيمانه بالحرية والإخاء والمساواة فتألق نجمه حين بعث الروح الكامنة وراء هذه الأهداف.

أبرز ما في البرنامج كانت السيمفونية الخامسة التي ألفها بيتهوفن ما بين الأعوام 1804 – 1818 في حقبة من التدفق الإبداعي المستمر، وتعتبر الدرة الثمينة في عقد أعماله كما تتميز بإيقاعها الواضح والرائع، وتلمس فيها إيمانه أن بإمكان البشر أن يكونوا أحسن مما هم عليه لأن بيتهوفن رغم الاتهامات التي كانت تطلق حوله وحول تصرفاته كان متفائلا من النوع الذي لا يستكين، ولذا كان يعتمد في تأليفه على استعمال الضربات الموسيقية باستمرار. فون دوهناني المولود في برلين عام 1929 والذي درس الحقوق قبل تفرغه للموسيقى الكلاسيكية هو صاحب الخبرة الطويلة في أعمال بيتهوفن منذ بدء حياته المهنية الحافلة في ألمانيا، حيث قاد الأوركسترا في هامبورغ وفرانكفورت كما شارك في مهرجانات سالزبورغ بالنمسا ثم انتقل إلى إنجلترا وكان قائدا لفرقة الفلهارمونيا العريقة في لندن وكذلك أوركسترا باريس وبعدها في كليفلاند أشهر أوركسترا أميركية خلال الـ20 سنة الفائتة. قام بزيارة هولندا هذا العام وقاد إحدى أهم الفرق الموسيقية في العالم وهي أوركسترا كونسرت غيباو الملكية، وطاف عددا من المدن والمهرجانات في أميركا مثل شيكاغو ولوس أنجليس. يفهم جيدا روح بيتهوفن وكيف كان يفكر حين سطر ألحان السيمفونية الخامسة فكان أداؤه وأداء أوركسترا سان دييغو السيمفونية التي تحولت بقدرة قادر إلى ما يشبه أوركسترا فيينا الفلهرمونية العظيمة مدهشا بكل معنى الكلمة، فقد أزال الطلاء الاصطناعي الكثيف الذي أضافه الكثير من قادة الأوركسترا (وكأنه نزع عنها الدسم) فظهرت القطعة كما أرادها بيتهوفن قوية وخفيفة بآن واحد، مثيرة وفاتنة لا تسمح لك بالتقاط أنفاسك أحيانا ثم تتحول إلى أنغام غنائية عذبة وتنتهي ببلوغ الذروة والأوج بلحن شبه عسكري ينتهي بتسع ضربات قاضية على القدر. أحد أسباب الانسجام الحاصل بين قائد الأوركسترا الزائر وفرقة سان دييغو أن مديرها الفني ذي الأصل الصيني جاجا لينغ كان مساعدا لفون دوهناني في كليفلاند ويعرف طريقته في استخراج أصعب النغمات.

انتزع فون دوهناني بحركات يده البسيطة وإيماءات وجهه المعبرة السرعة المثالية للقطعة وزخمها وانفعالها وشغفها فالحركة الأولى كانت جريئة ومليئة بالنشاط الذي لا يلين، والثانية كانت رشيقة ومنعشة وتبهر الأنفاس والثالثة كانت عاطفية ذات روح غنائية تفسح المجال للتعارض مع سابقتيها، أما الرابعة فعبرت عن القوة والثقة والجبروت وانتهت بالانتصار.

لم تخبُ شعلة فون دوهناني مع سنوات العمر وطريقته الفذة في حياكة ونسج الألحان بعناية تفوق صنع منسوج من القماش الفاخر مما أصاب الأوركسترا بعدوى الإلهام، فالجمل الموسيقية تتنفس والألحان واضحة ونضرة تلمح فيها شخصية المؤلف وتموج الألوان التي يضفيها على الأنغام بحيث تجرف المستمع معها قبل أن يفيق صوابه فيشعر بالطرب والنشوة، وفجأة يصحو وقد انتهت القطعة بعد نصف ساعة بالنصر على المصاعب.

فون دوهناني ساحر جذاب وخبرته مع بيتهوفن لا تقارن بأية خبرة، لذا صاح الجمهور فرحا واستمر في التصفيق الحاد ثم وقف على رجليه طويلا ليعبر عن إعجابه وتقديره. لا شك أن روح بيتهوفن كانت سعيدة بهذا الأداء البديع ولا شك أن أوركسترا كليفلاند التي أنشئت عام 1918 وكان يقودها المايسترو جورج شيل ذو الأصل الهنغاري حتى وفاته سنة 1970 محظوظة ببقاء فون دوهناني قائدا فخريا مدى الحياة بعد تعيين فرانز فيلسر موست قائدا لها بالإضافة إلى منصبه الحالي قائد أوركسترا فيينا الفلهرمونية الشهيرة.

يقول فون دوهناني: «تعجبني أوركسترا كليفلاند كثيرا لأن العازفين فيها يستمعون إلى بعضهم بعضا أثناء العزف وكأنهم مجموعة صغيرة من موسيقى الحجرة». هذا هو سر الإلهام الذي يبثه المايسترو الوقور في نفوس العازفين فينعكس حماسا لدى الجمهور.