«المسنون في لبنان»: لا من نصير أو معيل

يعاندون مرارة الزمن بإرادة وهمة لا تنضبان

أبو مروان يقف بجانب عربته ينادي على بضاعته من السكاكر والحلوى («الشرق الأوسط»)
TT

يخرج باكرا طلبا للرزق، يجوب شوارع بيروت وأحياءها الشعبية، حتى بات جزءا من يومياتها وباتت فصلا من حياته الحزينة والشاقة. لم تمنعه أعوامه الستون من السير بعربته ليبيع «السكاكر والحلوى» وبصوت أجش ينادي على بضاعته.

إنه العم «أبو مروان»، تجاعيد وجهه تخبر وجعه، وأثقال السنين تركت بصماتها الواضحة في كل أنحاء جسده النحيف، دفعه «العوز» للخروج إلى الشارع من أجل أن يتقي مظلومية واقع مؤجج بالمشكلات السياسية والاجتماعية والصحية.

أمثال أبو مروان كثر في لبنان يعملون في «العمر الذهبي»، يمتهنون ما لا يليق بأعمارهم ولا يحترم شيبتهم، يكابرون على العمر، فيتحملون حر الشمس وبرد الشتاء لكي يؤمنوا متطلبات حياتهم.

خوفه من أن «يبرم الدولاب» فيضطر إلى التسول لدخول المستشفى كان الحافز الأكبر له.

ويقول أبو مروان في حديث لـ«الشرق الأوسط» التي التقته مستلقيا بجانب عربته تحت جسر الكولا (في العاصمة بيروت) ليأخذ قسطا من الراحة: «في لبنان يموت المواطن وهو يعمل، بعكس أوروبا التي تفرض على المواطن التقاعد في الستين، وتخصص له راتبا ليمضي شيخوخته برفاهية». يرمي بكلماته، بعد عناء يوم طويل وشاق، ثم يقف ليكمل طريقه نحو الشقاء الذي يجبل لقمة عيشه.

أمثال أبو مروان يعيشون في ظل غياب واضح لدور الدولة في تأمين ما يكفل تقاعدهم براحة وكرامة. إنها حقيقة معلومة علمها هؤلاء وتأقلموا معها، وأدركوا أن الهوة واسعة بين الواقع اللبناني وما عداه في الدول التي تحترم مواطنيها وتقدر كبار السن بينهم.

ويضيف: «فيما العالم يرتاد الفضاء والغرب يعيش رفاهية، لا يزال حق الإنسان في لبنان مهدورا، لا طبابة، لا ضمان لا تأمين»، مؤكدا اتكاله على الله» لحماية شيخوخته من عواصف الزمن ورياح الأقدار.

ويقدر عدد المسنين في لبنان بحسب وزارة الشؤون الاجتماعية بـ362.440، وهو عدد كبير نسبة لعدد السكان المقدر بنحو 3.759.136. أما كبار السن الذين لا يزالون يمارسون عملا مأجورا فيقدر عددهم بنحو 51992 من مجموع المسنين، وهو عدد كبير يخشى أن يتزايد بشكل كبير في السنوات المقبلة، إذا ما استمر الحال على ما هو عليه، بسبب تزايد نسبة الأبناء المهاجرين، أو أولئك الذين لا يستطيعون إعالة ذويهم، بسبب ضيق ذات اليد. ويشكل المنتسبون لأحد أشكال التأمين الصحي في لبنان ما نسبته 35.6%، وهو ما يجعل غير المؤمنين عرضة لغائلة الدهر. وليس من بدائل سوى أن وزارة الشؤون الاجتماعية تقوم بتقديم خدمات رعائية لبعض المسنين، وليس جميعهم، من خلال التعاقد مع مؤسسات اجتماعية تكون البديل عن العائلة وتوفر الرعاية الاجتماعية والحماية من التشرد والمخاطر الاجتماعية.

تتعثر نظراتك في بيروت، بمسنين تقدمت بهم السنون وتركت آثار سياطها عليهم، يعملون، ويكنسون الطرق أو يمسحون الأحذية، وأحيانا يتسولون، أما أحوالهم فحدث ولا حرج. نماذج كثيرة تدمع القلب وتورث الهم والتساؤل. من هؤلاء العم حسان الذي تجاوز السبعين من عمره، يجلس بانتظار أن يتنبه إليه أحد المارة ويشتري منه لوح شوكولا. يوضح وهو بالكاد يستطيع التقاط أنفاسه والدموع تغمر مقلتيه: «لدي بسطة أبيع عليها السكاكر، لكن البضاعة بالدين، وعندما أبيع أسدد المبلغ».

ويتابع وهو يتنهد تعبا: «بدلا من أن ارتاح، أنا وأمثالي من المسنين، لأننا بالكاد نستطيع الوقوف على أرجلنا، نجد أنفسنا مضطرين إلى الركض منذ الصباح الباكر وراء قوت يومنا كي نعيش، لأننا في وطن لا أحد يسأل فيه عن الفقير».

ويشدد على أن المسنين العاملين يقفون على أبواب المستشفيات ويموتون، مطالبا الدولة بأن تستعجل إقرار قانون ضمان الشيخوخة، لأنه وأمثاله باتوا بحاجة ماسة إليه.

صرخة تعكس وجعا يعتمر صدور معظم المسنين، فبعد أن احدودبت ظهورهم أبت هاماتهم أن تنحني، فهم مصرون على أن يلقموا أفواههم لقمة ممزوجة بالكد، والتعب، والعرق.

أما العم أحمد، فكان يقود عربة من صنع يديه قبل أربعة أعوام، يكدس عليها الخردة والتنك، وها هو اليوم في الستين، وعلى الرغم من تعرضه لحادث أعاق يده ورجله، فإنه لا يزال يخرج يوميا إلى الطرقات باحثا عن الرزق ليعود بما يتيسر إلى عائلته المؤلفة من خمسة أولاد أحدهم من ذوي الحاجات الخاصة.

ويقول بحرقة: «نمضي حياتنا بحثا عن الرزق، وعند الشدة نضعف ويتآكلنا المرض، فنموت في الشارع وعلى أبواب المستشفيات». يجر عربته بصعوبة، يبتسم على رغم غصته، شارحا: «لم أنقطع عن العمل لأنني أعيل العائلة. وكل يوم عطلة ينعكس على حياتنا على رغم الألم الذي يصيب قدمي من كثرة التجول طوال النهار، إذ لا خيار آخر أمامي إلا الاستمرار في العمل».

وانتقالا إلى العم علي، نجده يمضي معظم وقته في كنس الطرق وتنظيف الحدائق، وبضحكة يرسمها على وجهه الحزين المنهك، يلفت: «أعمل بشرفي ولا أشحذ لقمتي». لم ينقطع يوما عن الطرق فهي «صديقته الوفية». يصف عمله بأنه «شرف كبير» له ولا يخجل منه.

ستون سنة لم تثنه عن العمل الذي يفضله على «الجلوس في البيت في انتظار الموت»، ولا يتردد في الإشارة إلى أن «التعب صديقه في هذا العمر، ولكن ما باليد حيلة، إذ لا أحد يتنبه إلينا، فالكل منشغل بالسياسة وشجونها والمشاغبات الخطابية، وحين نعجز لا نجد من يأخذ بيدنا».

إنها عينات لأناس تخلت الدولة عن واجباتها تجاههم، فتركتهم يواجهون مصائرهم بأنفسهم. بدليل أن مشروع قانون ضمان الشيخوخة لا يزال منذ أكثر من 15 عاما موضع تجاذب وسجال سياسي، حتى تاه في أروقة مجلس النواب ولم يصل إلى الإقرار.

ولعل هذا ما دفع الباحثة في الشأن الاجتماعي ربى سليم إلى إعلاء الصوت: «لا شيء يلوح في الأفق لتغيير المعادلة القائمة، وللأسف، تتزايد نسبة من يعملون في سن كبيرة، وهذا له ارتدادات وخيمة على البيئة المجتمعية».

وتشدد على أن ثمة إهمالا حكوميا مزمنا بحقهم، فهناك نسبة تفوق العشرة قي المائة من كبار السن ذوي حاجات خاصة، ظروفهم قاسية ولا معيل لهم، فضلا عن أن هناك أولادا لا يرأفون بآبائهم.

وتعتبر أنه آن الأوان: «لتشكيل لوبي اجتماعي ضاغط يؤدي إلى إقرار قانون ضمان الشيخوخة».

ويبقى السؤال، إلى متى سيبقى الحديث عن ضمان الشيخوخة مجرد «زينة» تكحل البيانات الوزارية المتعاقبة؟ ومتى سيصبح واقعا ملموسا؟ وبالتالي هل سيأتي يوم يجد فيه كبار السن من يحميهم في لبنان.