الكنديان إيغويان وكروننبيرغ يتنافسان في المهرجان بأضعف عملين لهما

«الشرق الأوسط» في مهرجان «كان» السينمائي (6)

جوليان مور مع أبطال فيلمها «خريطة للنجوم» جون كوساك وميا واسيكوسكا (رويترز)
TT

هناك مخرجان كنديان، كلاهما من خارج مقاطعة كوبيك ذات الثقافة الفرنسية، يحركان ما هو هامد في السينما الكندية. يكادان يكونان المتحرك الوحيد فيها. هذان هما أتوم إيغويان وديفيد كروننبيرغ. كلاهما اشترك في مهرجان «كان» أكثر من مرة. إيغويان (مواليد الإسكندرية سنة 1960) نال جائزة المهرجان الكبرى سنة 1997 عن «الخلود الجميل» The Sweet Hereafter وعاد هذا العام بفيلم «الأسيرة»، بينما عاد كروننبيرغ (الذي نال جائزة خاصة عن فيلمه «صدام» سنة 1996) بفيلم «خريطة للنجوم». كلاهما يشترك في المسابقة، وهناك نافذة واحدة لأي منهما ينفذ منها إلى السعفة أو إلى أي جائزة رئيسة، إذ لن يكون في المنظور المتوقع فوز كلا الفيلمين الكنديين معا.. هذا إذا ما فاز أحدهما أصلا.

«الأسيرة» يعمل على منوال تشويقي - لغزي يحيطه إيغويان بقدر من الأسلوبية في السرد بحيث لا يسقط في نهج الأفلام التشويقية الأخرى. سبق أن شاهدنا من مواطنه دنيس فيلنفيو فيلما مماثلا في موضوعه الأساسي، لكنه مختلف في قصته، وهو «سجناء» (2013). هذا الموضوع هو خطف الأطفال. في حالة «الأسيرة»، هناك ذلك الرجل المتزوج ماثيو (رايان رينولدز) الذي يتوقف عند محل ليشتري حلوى لابنته ذات السنوات التسع التي تركها في السيارة حين دخل المحل. لم يغب سوى دقيقتين أو ثلاث، وحين عاد وجدها اختفت، زوجته (ميراي إينوس) تثور عليه وتزدريه. بعض المحققين (سكوت سبيدمان) يرتاب فيه. لكن رئيسة المحققين نيكول (روزاريو دوسون) تصدقه.

ثماني سنوات تمر والأب لا يزال يبحث عن ابنته كاساندرا (أليكسيا فاست) التي أصبحت بالطبع شابة لا تزال حبيسة غرفة خاطفها ميكا (كفن دوراند). هنا يختار المخرج إبقاء السبب وراء قيام ميكا بخطف كاساندرا (أو كاس كما تُنادى اختصارا) مبهما. يطلب منها التواصل على الإنترنت مع فتيات في مثل عمرها، لكن لا برهان على أنه يستخدم ذلك على نحو خلاعي. خلال هذه السنوات تحول التحريان الرئيسان إلى عشيقين، لكنهما (وباقي عناصر الفرقة المتخصصة في البحث عن الأطفال المفقودين) لا يصلان إلى نتيجة.

* خريطة للنجوم يختار إيغويان، كالعادة، الشتاء والأرض المغطاة بالثلج والسماء الرمادية طقوسا بصرية للكاميرا ويدفن الحكاية فيها باحثة عن دفء ما. وهو يستند إلى مدير تصويره بول ساروسي لتأمين ذلك، وكلاهما ينجح في مضمار منح الفيلم مستواه الحرفي الصحيح. المشكلة هي في أن الفيلم يسير في اتجاهات مختلفة سيرا غير واثق. إنه من عداد أسلوب المخرج الانتقال زمنيا، وخلط بعض الأوقات لتشكيل حس بالاغتراب، لكن الحكاية الحالية (كتبها ديفيد فرايزر عن فكرة للمخرج) لا تستحق ذلك اللعب التشكيلي. تبقى بسيطة في مفادها، يمكن مشاهدتها في حلقة من مسلسل بوليسي تلفزيوني، بعد تنظيفها من التعقيدات غير الضرورية لمثل ذلك الوسيط.

من ناحية أخرى، هناك تواصل المخرج مع أفكاره السابقة. لقد طرح موضوع الأولاد وموضوع الخطف والاحتجاز في أكثر من عمل، بما في ذلك عنصر قيام البعض بالتجسس على البعض الآخر، عبر كاميرات مراقبة (ورد ذلك في فيلميه السابقين «عشق» و«إكزوتيكا» مثلا). لكن كل ذلك لا يخلق هنا ارتباطا وثيقا بين المخرج وفيلمه.

لدى إيغويان حق تفضيل رسم مسافة واحدة من كل الشخصيات من دون تفضيل إحداها على الأخرى. بذلك لا أشرار ولا أخيار، لكن حدث يروى ويحاول المخرج أن يرويه بمعالجة أسلوبية فنية لائقة. هذا البعد عن كل الشخصيات معبر عنه بوضع شخصياته على شاشات الكومبيوتر والتلفزيونيات ليراقبها من بعد «أبعد». والفيلم يبدأ بحس هيتشكوكي ضئيل، ثم يختفي ذلك الحس ويختفي معه القدر التفاعلي المفترض بين المخرج وموضوعه.

الحال ليس أفضل كثيرا لدى ديفيد كروننبيرغ. قبل عامين قدم أحد أفضل أفلامه (أو بالنسبة لهذا الناقد أفضل أفلامه «كوزموبوليس») والمرء انتظر منه أن يكمل النقلة النوعية التي سادت ذلك الفيلم. فيه شاهدنا الممثل روبرت باتنسون يلعب دور ملياردير شاب تقوده سيارة الليموزين الخاصة به في شوارع المدينة المكتظة ويستقبل فيها كل معارفه في الحياة والعمل). في فيلم كروننبيرغ الجديد «خريطة للنجوم» روبرت باتنسون هو الآن سائق ليموزين يستأجرها النجوم في هوليوود. شاب يكتب في أوقات فراغه سيناريو، وله دور صغير في عمل تلفزيوني، آملا أن تقوده قدماه إلى الفرصة الكبيرة التي يتوخاها.

مثله في هذا الحلم أغاثا (ميا ووزيكوفسكا)، الفتاة التي غابت (ثماني سنوات أيضا) بعدما تسببت في احتراق بيت الأسرة حين كانت لا تزال طفلة. واحدها سافورد (جون كوزاك) يعمل مرشدا تأمليا للنجوم (عمل مجز يجنيه من الباحثين عن الراحة النفسية من دون الذهاب إلى الطبيب المختص) والأم كرستينا (أوليفيا ويليامز) تعمل مديرة أعمال، ومن بين من تدير أعمالهم ابنها الشاب ذو الـ13 عاما بنجي (إيفان بيرد)، وهو ممثل صغير خرج حديثا من المصحة بعد أن دخلها مدمنا. إنه ممثل فوق العتبة الأولى من الشهرة لكنه متعجرف وجاهل و(كما نرى لاحقا) قاتل.

إلى جانب هذه الزمرة هناك (وعلى نحو منفصل في معظم أحداثه) الممثلة هافانا (جوليان مور) التي بلغت من السن ما يجعلها تقلق على مستقبلها. هناك فيلم قيد الإنتاج يدور حول والدتها الراحلة، وهي تريد أن تلعب الدور، لكن الاختيار يرسو على ممثلة أخرى ثم يعود فيرسو عليها، بعدما تعرضت الممثلة الأخرى لمأساة موت طفلها. أغاثا تعمل لدى هافانا كمساعدة خاصة، وبما أنها شقيقة بنجي وابنة والدها الذي لا يريد أن يرى وجها، وأمها المريضة بالقلق عليها، فإن الخطين يلتقيان، خصوصا أن هافانا تنجح في سرقة السائق من أغاثا، التي كانت اعتقدت أنها وجدت العشيق المناسب.

* أتوم إيغويان: أرفض تقديم شخصيات من السهل الحكم عليها

* يعود تاريخك مع «كان» إلى نحو 25 سنة، قدمت فيها عشرة أفلام إلى اليوم. ما الذي يجعلك تختاره بين كل المهرجانات الدولية الأخرى لافتتاح أفلامك؟

- أعتقد أن الجواب واضح، لأن «كان» هو الأكثر عالمية وشهرة بينها. لا أقصد أن أقلل من شأن المهرجانات الأخرى، لكن «كان» دائما ما كان منصة جيدة لي ولآخرين. قبل 25 سنة عرضت هنا فيلما مبكرا لي هو «أدوار ناطقة»، ثم عدت وفي كل مرة يبدو لي المهرجان وقد وطد علاقته بالجميع على نحو أفضل.

* هذا الفيلم من إنتاجك أيضا.

- من إنتاجي ومن كتابتي وإخراجي وأنا سعيد بوجودي هنا بسببه.

* شخصياتك في هذا الفيلم مربوطة بحركة لولبية دائمة. ثماني سنوات من بحث الأب ومن معاناة الأم ومن أسر الفتاة التي في هذا الوقت نمت ولا تزال تأمل في أن يجري إطلاق سراحها.. هل هناك رسالة ما تنتظر منا أن نقرأها هنا؟ رسالة تتعلق بفعل الزمن في أنفس هذه الشخصيات؟

- نعم. الفترة الزمنية هي التي تشهد بقاء كل شيء على حاله باستثناء مرور سنوات العمر. الوضع غالبا لا يزال على حاله، وكل من عايش الأزمة التي عصفت بحياة هؤلاء ما زال تحت عبئها بلا ريب. إنه كما لو أن الزمن توقف لثماني سنوات عن الحركة مبتلعا مصائر كل هذه الشخصيات الرئيسة.

* أفلامك تتعامل عادة مع نوع من التشويق البوليسي بينها بالطبع هذا الفيلم وفيلمك الآخر الذي أنجزته أخيرا «عقدة الشيطان»، الذي عرض تلفزيونيا. هل من الصواب القول إنها أفلام تحقيقات بوليسية؟

- الفارق بين التسميتين تشويق بوليسي وتحقيق بوليسي عادة غير موجود. على الفيلم الذي يحمل مبدأ الجريمة أن يقدم التحقيق الذي يجريه المحقق، وهذا بدوره يدلف بالعمل صوب التشويق. ما رغبت دائما به هو الابتعاد عن سرد حكايات نمطية من أي نوع. أستطيع أن أقول إنني أحب الأفلام الغامضة، وإن الغموض مقرون بنجاح أكثر عندما يكون الموضوع بوليسيا. لكن كما ذكرت ما أنشده هو أن أكون قادرا على إضافة معالجات تبعد الفيلم الذي أقوم به عن النمط في السرد خصوصا.

* في أفلامك عموما أنت على بُعد واحد من كل الشخصيات، وهذا البعد يشي بأنك تحب أن تجلس وتراقب الذي يدور عوض أن تتعامل معه شريكا؛ هل توافق على هذا؟

- سؤال جيد، لكن الجواب أطول من هذا الوقت المحدد لنا، أحاول أن أكون ذا غرض (objective) بالفعل، وهذا ما تلاحظه عندما تقول إنني أرسم مسافة واحدة بيني وبين كل الشخصيات في الفيلم. هذا أيضا، بالمناسبة، موجود في فيلمي الآخر «عقدة الشيطان». لا أريد أن أكون متدخلا فيما أعرضه، وبالطبع أرفض تقديم شخصيات من السهل الحكم عليها. أساسا لا أحكم عليها بل أميل إلى استعراضها وأنظر إليها بموضوعية. هذا يمكّنني من فحص الحكاية وشخصياتها من وجهة نظر إنسانية. قبل أسابيع قليلة، مات بوب هوسكينز الذي مثل لي فيلم «رحلة فيليسيتا» (1999) وفيه لعب دورا شريرا لا خلاف عليه. لكن من خلال النظرة البعيدة والحيادية عليه تمكنا من فهمه بصورة أفضل. إنها في اعتقادي الطريقة الأفضل لفهم الحالة الإنسانية.

* في هذا الفيلم تبقى شخصية الخاطف مبهمة الأسباب؛ لماذا خطف؟

- هي غامضة لكنها ليست مبهمة. لا أعتقد ذلك. مرة أخرى التعامل معها يجري على منحها غطاء بشريا وليس عاطفيا. الدوافع عندي ليست بأهمية النتائج الصادرة عنها. تستطيع أن تقول ذلك وأفلامي ليست عن الدوافع التي تجعلنا نتصرف على هذا النحو أو ذاك، بل عما نحصده من نتائج، وما تتأثر به شخصيات أخرى حولنا تبعا لما أقدمنا عليه.