غارينشيا.. من بهجة شعب إلى صفحات التاريخ المنسية

لاعب الكرة البرازيلي تحدى الإعاقة ليصبح أبرع مراوغ عرفته الملاعب.. حتى الآن

نصب يعلوه تمثال غارينشيا في باو غراندي مسقط رأسه (أ.ف.ب)
TT

«على أي كوكب ولد غارينشيا؟ على كوكب صغير اسمه باو غراندي»، هذا ما كتب على لوحة صغيرة إلى جانب الملعب الذي بدأ فيه الأسطورة البرازيلي المنسي غارينشيا مسيرته الكروية.

يقع الحي التابع لبلدية ماغيه بين ريو دي جانيرو ومعسكر المنتخب البرازيلي لمونديال 2014 في تيريسوبوليس.

بعد الخروج من الأوتوستراد السريع، يتجه بك الطريق عبر مدينة صعودا نحو غابات مورقة وصولا إلى باو غراندي.

إنه مجتمع متواضع وسيلاحظ المرء فقر المنطقة خصوصا إذا كان مقبلا من تيريسوبوليس «الغنية»، لكن هنا ولد غارينشيا وهنا دفن.

كان غارينشيا، واسمه الكامل مانويل فرانشيسكو دوس سانتوس، الزميل المخضرم لبيليه الشاب في منتخب البرازيل الذي توج باللقب العالمي الأول عام 1958 في السويد. وفي ظل إصابة بيلية، كان غارينشيا النجم المطلق في تشكيلة 1962 التي أبقت اللقب برازيليا.

وعلى الرغم من التشوهات الخلقية التي ولد بها التي تعيق الإنسان حتى عن المشي، تحدى غارينشيا الإعاقة بمراوغة جعلت منه أشهر جناح أيمن في تاريخ كرة القدم، وأبرع مراوغ عرفته الميادين الخضراء حتى الآن، وقيل عنه «إنه بالنسبة لكرة القدم، مثل بيكاسو للفن».

كان غارينشيا مع التشكيلة التي خاضت نهائيات 1966 أيضا، وهو أسطورة في نادي بوتافوغو والملعب الوطني الذي تواجه فيه البرازيل مع الكاميرون بعد غد الاثنين في الجولة الثالثة الأخيرة لمنافسات المجموعة الأولى من مونديال 2014، يحمل اسمه وليس اسم بيليه.

بسبب التشوه الخلقي المتمثل باعوجاج في الركبتين نحو الخارج واعوجاج أيضا في العمود الفقري وحتى الحوض كان مائلا بوضوح نحو الشمال. أطلق على غارينشيا لقب «الملاك صاحب الساقين الملتويتين».

لكن على شاهد ضريحه الذي يصعب على المرء رؤيته إلا إذا كان يعرف بوجوده هناك في مقبرة «رايز دا سيرا»، على جانب الطريق المقبل من باو غراندي، هناك جملة «بهجة شعب».

وبينما كان بيليه في قمة عطائه خلال أعوام السبعينات، فارق غارينشيا الحياة عام 1983 عن 49 عاما بعد إدمانه على الكحول ومعاناته المادية.

«في البرازيل، الشخصيات المهمة في السابق سرعان ما يصبحون طي النسيان». هذا ما قالته لوكالة الصحافة الفرنسية حفيدة غارينشيا، ألكسندرا دوس سانتوس البالغة من العمر 41 عاما.

وأضافت «بيليه هو الملك لكن ليس من الضروري أن يكون هناك واحد فقط. بالإمكان أن يكون هناك اثنان. الأموال لم تكن تعني لجدي كثيرا. كان رجل الشعب».

المنزل الذي عاش فيه غارينشيا كفتى يقف هناك متمايزا عن محيطه. جدرانه مطلية باللون الأصفر وفي داخله حانة صغيرة اسمها «غارينشينيا» تيمنا باللاعب الأسطورة.

ألكسندرا تعيش هناك، على مقربة من الملعب الذي لعب فيه غارينشيا والمعمل الذي عمل فيه. على باو غراندي أن تكون فخورة إلى الابد بابنها الأسطوري، لكن ألكسندرا تخالفنا الرأي.

غارينشيا ترك خلفه 14 ولدا من علاقات مختلفة ودون أي سند مادي، ما يجعل المرء يتفهم عدم اهتمام أبناء البلدة بأي حدث أو شيء يقام بهدف تكريمه، والحانة المقامة داخل منزله ليست تكريما له من قبل من عاش حوله، بل تقدمة من برنامج تلفزيوني واقعي.

«حصل غارينشيا على المنزل عام 1958 كهدية من المعمل المحلي كجائزة له نتيجة إحرازه كأس العالم لكنهم (أصحاب المعمل) عادوا لاحقا للمطالبة به قبل أن نتوصل في النهاية إلى اتفاق»، هذا ما شرحته ألكسندرا، مضيفة «والبرنامج التلفزيوني دفع ثمن الحانة وما فيها، لكن ذلك ليس كافيا. أنا أكافح من أجل تدبر أموري».

وألكسندرا مستعدة حتى للتخلي عن الحانة لكنها تطالب بمبلغ 650 ألف ريال (292 ألف دولار) كثمن لها!.

كان غارينشيا «خجولا وغريب الأطوار»، بحسب حفيدته. وقع عقودا على ورقة بيضاء وانتهى به الأمر بأن يكون أفقر لاعبي بوتافوغو.

بذلك عائلته جهدا كبيرا لكي تحافظ على ذكراه محليا، وهناك تمثال تذكاري صغير لغارينشيا بالقرب من محطة للحافلات أقيم عام 1992، وعلى جدران المركز الرياضي البلدي هناك صورة له بالقميص الأصفر للمنتخب البرازيلي.

في هذا المركز الرياضي تعمل ابنته روزانجيلا التي ترى بهذه الجدران تذكيرا يوميا بشخص لم تكن تعرف أنه والدها إلا بعد وفاته.

«عندما كنت صغيرة، الناس قالوا بأني أشبه غارينشيا. على أوراقي الثبوتية لا والد لي»، هذا ما قالته روزانجيلا، مضيفة «كنت متأكدة نوعا ما بأنه هو (والدي) لكننا قمنا بفحص الحمض النووي بعد 15 عاما من وفاته. والآن أصبحت متأكدة. كان أفضل بكثير من نيمار (نجم المنتخب الحالي). لو كان يلعب الآن، فالبرازيل ستفوز بكأس العالم بشكل مؤكد».

غارينشيا الذي ولد في 28 أكتوبر (تشرين الأول) 1933، هو سابع إخوته الاثنين والعشرين، من أب مدمن على الكحول.

كان غارينشيا الطفل الفقير ذو الجسم النحيف المشوه، وإزاء هذا الوضع كان أهله يدعون الله ليل نهار حتى يتمكن ابنهم من الوقوف على قدميه وتطلب الأمر تدخل الجراحين، حتى تمكن على الأقل من المشي ولو بطريقة غير سليمة.

لكن الطفل مانويل خلق المعجزة، وبعد أن كان أهله يحلمون برؤيته يمشي على قدميه، أصبح يداعب الكرة ببراعة الكبار.

فعلى الرغم مما أصابه من تشوهات حرمته حتى من الجري بطريقة عادية، فإنه بهذا الجسم المليء بالعيوب صنع لنفسه مجدا، وتمكن من التغلب على الإعاقة بمراوغة واحدة، يعيدها في كل مرة عجز كل مدافعي العالم في مواجهتها، واستسلموا لها جميعا.

كان يدربه أحد الأصدقاء، وفي أحد أيام عام 1953، وهو في السادسة عشرة من عمره، وفي مباراة تدريبية لفريق بوتافوغو العريق، كان هناك نقص في عدد اللاعبين، فاقترح مدربه أن يشارك في المباراة التدريبية لسد الفراغ.

إلا أن النجم الصاعد لم يصدق أن الفرصة أتيحت له، وعوض أن يسد الفراغ ويكمل عدد اللاعبين، راح في جهته اليمنى المفضلة يبدع، وكان أول ضحاياه، المدافع المشهور آنذاك الدولي نيلتون سانتوس الذي كان أفضل ظهير أيسر في البرازيل، إلا أن الشاب اليافع المشوه تمكن من قهر سانتوس، على مرتين بمراوغتين لم يفهم فيهما سانتوس شيئا، فاستسلم تماما أمام عبقرية منافسه.

وتوجه سانتوس بعد أن واجه هذا الفنان وعرف إمكاناته الفنية، مباشرة إلى إدارة ناديه، وصاح قائلا «يجب عدم إهدار هذه الفرصة، علينا ضم هذا اللاعب حالا إلى الفريق». وهو ما حصل بالفعل، وبقي غارينشيا لمدة 13 عاما في صفوف هذا الفريق العريق. ومنذ هذا التاريخ بدأ غارينشيا مسيرة رائعة، صار فيها اللاعب المراوغ الذي لا يمكن توقيفه، والغريب أنه اعتمد دائما على مراوغة واحدة حيث راوغ على مرحلتين، الأولى من دون كرة يقوم فيها بتمويه جسدي، وقدمه اليمنى، التي يموه بها، ثم يقفز على اليسرى، كي يعطي الانطباع أنه يريد الانطلاق، وعند ارتباك المدافع الذي لا يمكنه فهم نية غارينشيا، ينفلت الأخير بسهولة على الجناح، معتمدا على سرعة انطلاقه قبل أن يمرر كرات العرضية باتجاه زملائه.

لكن وعلى الرغم من ذلك نجح دائما في مراوغته هذه وأغلب الأحيان كان المدافعون يسقطون أرضا، مستسلمين لفنيات هذا العبقري.

بعد عطائه المميز في صفوف نادي بوتافوغو، فتحت له أبواب المنتخب الوطني مصراعيها، وكان أحد اللاعبين الذين مثلوا البرازيل في نهائيات كأس العالم عام 1958.

ولعب أول مباراة له كأساسي أمام الاتحاد السوفياتي ثم في الدور نصف النهائي أمام فرنسا حيث مرر كرتين حاسمتين إلى فافا الذي ترجمهما إلى هدفين (5 - 2).

وكذلك كانت الحال في المباراة النهائية أمام السويد صاحبة الأرض التي انتهت بنفس النتيجة، وأقر بعدها اللاعب السويدي نيلز ليدهولم بدور غارينشيا فيها، حيث قال «خسرنا المباراة النهائية بسببه (غارينشيا)، لقد صنع هدفين خارقين».

وبذلك ساهم ملك المراوغات بفعالية في تتويج منتخب بلاده بالتاج العالمي للمرة الأولى. وفي مونديال تشيلي 1962، انفجرت مواهب غارينشيا وأظهر فعليا فنياته العالية.

البداية في هذا المونديال كانت صعبة أمام المكسيك، فبعد انتهاء الشوط الأول بالتعادل السلبي، انتظر البرازيليون الجوهرة السوداء بيليه ليقوم بمجهودين فرديين رائعين، سجل منهما هدفي الفوز.

غير أن بيليه لم يتمكن من مواصلة المنافسة بعد تعرضه لإصابة خطيرة في بداية مباراة منتخب بلاده أمام تشيكوسلوفاكيا التي انتهت بالتعادل السلبي.

وفي المباراة الثالثة أمام إسبانيا، تلقى مرمى البرازيل هدفا أول مباغتا، ألزم غارينشيا بالقيام باللازم لإنقاذ فريقه من الإقصاء، ففعلها ومرر كرتين على طبق من ذهب إلى أماريلدو الذي ترجمهما إلى هدفين أهلا المنتخب الذهبي إلى الدور ربع النهائي.

بعد هذه المباراة فهم غارينشيا، وبعد غياب بيليه، أنه إذا أراد أن يقود اللعب ويسجل أهدافا يجب عليه الدخول أكثر نحو وسط الميدان وعدم البقاء على أقصى الجهة اليمنى التي يفضلها: «اكتشفت أن المرمى يظهر أكبر من وسط الميدان منه على الجناح».

في مباراة ربع النهائي وضع الإنجليز ثلاثة مدافعين لحراسة غارينشيا إلا أنهم لم يفلحوا في إيقافه حيث تمكن من تسجيل هدفين من تسديدتين صاروخيتين، وفازت البرازيل (3 - 1).

وفي مباراة نصف النهائي لقي البلد المضيف تشيلي نفس مصير سابقيه من المنتخبات، حيث استسلم لقانون غارينشيا ورفاقه (2 - 4) وتمكن اللاعب الأسطوري من تسجيل هدفين.

وفي المباراة النهائية واجهت البرازيل منتخب تشيكوسلوفاكيا، ولعب غارينشيا المباراة وهو مصاب «بالإنفلونزا»، إلا أنه أربك المدافعين كثيرا وساهم في فوز منتخب بلاده (3 - 1) ونيلها الكأس للمرة الثانية على التوالي.

بعد مونديال تشيلي، بدأت لعنة الإصابات تطارد غارينشيا، خاصة أن جسمه المريض - وخصوصا ساقيه - كان لا يتحمل الضرب الذي كان يتلقاه بصفة مستمرة، ومن هنا بدأ نجمه في الأفول.

غارينشيا الذي كان يملك عقل طفل لا يتجاوز الثامنة من العمر حسب الأطباء النفسانيين، بدأ يكثر من الخروج إلى الملاهي الليلية، وغاب عن التدريبات ثم أدمن الكحول وانفصل عن زوجته وأولاده، وارتمى في حضن عشيقته المغنية الزا سواريز معلنا بذلك بداية نهاية نجوميته.

حاول غارينشيا العودة إلى أجواء المنافسة في مونديال إنجلترا 1966، إلا أن البرازيل خرجت من الدور ربع النهائي بانهزامها أمام بلغاريا (1 - 3)، فكانت أول هزيمة لغارينشيا في صفوف المنتخب خلال 41 مشاركة في صفوفه، وكانت كذلك آخر ظهور له بالزي الذهبي.

وتواصل بعد ذلك مسلسل تدهوره ثم أصيب بمرض صدري وخضع لعملية جراحية في الركبة، لينتهي الطفل العملاق في براثن الكحول والبؤس، قبل أن يغادر هذا العالم نهائيا عام 1983 في أحد مستشفيات ريو دي جانيرو.