وارين بيتي الوسيم وكلينت إيستوود الخارق للتوقعات

وجوه السبعينات الرائعة (2)

كلينت إيستوود في شخصية المخبر «ديرتي هاري»
TT

مع روبرت دينيرو في «شوارع منحطّـة» بضعة وجوه واعدة أخرى أهمها اليوم هارفي كايتل الذي استوى بوصفه ممثل شخصيات أكثر منه نجمًا. وعلى نسق هذا الفيلم المنتج سنة 1973 عاد المخرج مارتن سكورسيزي فقدّم دينيرو في «صحبة طيّـبة» عام 1990 جامعًا حوله نخبة من الممثلين الذين برعوا في أدوارهم النمطية، ومنهم بول سورفينو وتوني دارو ومايك ستار وفرانك فنسنت، لكن الممثل الرئيس الثاني في الفيلم لم يكن سوى راي ليوتا الذي لم يستطع إلا أن يشق طريقه بين الأدوار العنيفة معظم الأحيان.

ما بين 1973 و1990 لعب دينيرو تسعة عشر فيلمًا معظمها بارز ومهم. وأربعة منها من إخراج سكورسيزي هي الفيلم المفصلي بالنسبة لدينيرو «سائق التاكسي» (1976) و«نيويورك، نيويورك» (1977) و«الثور الهائج» (1980) و«ملك الكوميديا» (1982). بذلك وجد دينيرو في كنف سكورسيزي التعاون الذي عادة ما يربط ممثلين كثيرين بمخرجين معيّـنين: جون واين مع جون فورد، راندولف سكوت مع بَـد بوويتيكر، جيمس ستيوارت مع ألفرد هيتشكوك وأنطوني مان.. إلخ. كل فيلم من هذه المذكورة قدّم دينيرو بشخصية مختلفة: سائق التاكسي الذي ينتقل إلى التطرف، الموسيقار العاشق الذي يهبط حين تصعد محبوبته (ليزا مانيللي) في عالم الغناء والملاكم جاك لاموتا الذي دمر نفسه بعواطفه وغيرته ثم الموهبة الكوميدية التي تختار اختطاف كوميدي كبير (جيري لويس) لكي تثبت لها تلك الموهبة.

* كوميديا

* إذا كانت شخصيات دينيرو مختلفة كما هو الحال فعلًا، فإن مفرداته الأدائية لا تتغيّـر كثيرًا. لا يزال مدهمًا في الكثير من الأحوال لكن تعبيراته متشابهة. وعلى قيمة فيلم «نيويورك، نيويورك» وانفرادية «ملك الكوميديا» إلا أنهما ليسا في المصاف ذاتها حين قياسهما بـ«العراب 2» لفرنسيس فورد كوبولا (1974) و«1900» لبرناردو برتولوتشي (1976) و«صائد الغزلان» لمايكل شيمينو (1978) و«ذات مرّة في أميركا» لسيرجيو ليوني (1984) وهي بعض أفلام دينيرو الأفضل في تلك الفترة. يمكن لنا أن نضم إليها، متأخرة بعض الشيء «اعترافات حقيقية» لأولو غروسبارد (1981) و«الإرسالية» لرونالد جوفي (1986) و«قلب أنجل» لألان باركر (1987). في كل واحد من هذه الأفلام لازمه ممثل جيّـد آخر: روبرت دوفول في «اعترافات حقيقية»، ميكي رورك في «قلب آنجل»، جون سافاج وجون غازال وكريستوفر وولكن في «صائد الغزلان»، كما بيرت لانكاستر وجيرار ديبارديو في «1900».

أما وقد أعجب دينيرو بالكوميديا حاول التمثيل في الكثير منها لاحقًا، فبدا أقرب إلى حركات لوي دو فونيس في «نحن لسنا ملائكة» لنيل جوردان (1989) وصولًا إلى الدور الهازل في أفلام خفيفة كوميدية وضحلة فنيًّا مثل «قابل الآباء» و«حلل هذا» (1990) وتابعه الجزء الثاني «حلل ذلك» (2002) و«قابل آل فوكرز» (2004) ورديفه «فوكرز الصغار» (2010) كما «الزواج الكبير» (2013).. كذلك فإن أفلامه الجادّة من منتصف التسعينات وصاعدا أصيبت بقراراته الخاطئة بشأنها فظهر في عدد من الأعمال البوليسية التي لم تضف له جديدًا بل أخذت من ماضيه منها Flawless أو «بلا شائبة» (1999) و«15 دقيقة» (2001) و«مرسل من الله» (2004) و«قتل محق» (2008) و«ماشيت» (2010). إنه كمن قرر أنه لن يبلغ أعلى مما بلغه ولن تكون العروض بأفضل من تلك التي وفّـرتها له الأيام السابقة فانكب على ما هو متوفر. طبعًا سيعود إليه سكورسيزي في «كايب فير» (1991) و«كازينو» (1995) وسيطلبه البعض لأفلام فوق المتوسط منها «كوبلاند» لجيمس مانغولد (1997) وقبل ذلك «الشرفاء» The Untouchables لبرايان دي بالما (1987) وبعده «رونين» لجون فرانكنهايمر (1998) من دون أن ننسى «جاكي براون» لكونتين تارنتينو (1997) و«حرارة» لمايكل مان (1995).

* موهبة وارين بيتي

* المخرج جون فرانكنهايمر من الذين وقفوا وراء موهبة أخرى تجلّـت في هذين العقدين الفريدين، الستينات والسبعينات، وهي موهبة تشخّـصت في ممثل وسيم المحيا اسمه وارين بيتي. هذا وُلد سنة 1937 وفي فمه ملعقة فنيّـة. والدته كاثلين مدرّسة دراما، وشقيقته الكبرى شيرلي ماكلين اتجهت قبله إلى التمثيل. بدايته كانت كبيرة من حيث إنها تمّت على يدي المخرج إيليا كازان عندما قرر إخراج «رائع على الحشيش» Splendor in the Grass سنة 1961، قلب الفيلم ليس عند بايتي بل في الشخصية التي تؤديها نتالي وود. إنها الفتاة ذات الطبقة المتواضعة التي عانت جراء الوقوع في حب الابن الوسيم لأحد الأثرياء وهذا الوسيم كان وسيما فعلًا (السباق على الوسامة بينه وبين روبرت ردفورد حينها).

المرّة الثانية له على الشاشة وردت في العام ذاته في رواية كتبها تنيسي ويليامز وأخرجها جوزيه كونتيرو ولم تترك أثرًا يذكر هي «الربيع الروماني للمسز ستون». هذا وضعه أمام الممثلة فيفيان لي في حين أن فيلمه الثالث «الكل يسقط» لجون فرانكنهايمر (1962) وضعه أمام إيفا ماري سانت وسوف نجد أن بايتي من هنا لعب أمام بعض أشهر وأجمل الممثلات الأميركيات وعلى قدر كبير من التناسب.

بايتي لم يكن مجرد وجه وسيم بل كان ممثلا رائعا منذ تلك الأفلام ثم عندما أسند إليه المخرج آرثر بن بطولة «ميكي وان» سنة 1965 لاعبًا شخصية محتال صغير مهدد بالموت. بعد أفلام منخفضة الصيت اختاره آرثر بن لبطولة أهم فيلم وأعلى نجاح حققه بايتي إلى ذلك الحين وهو دوره في «بوني وكلايد» (1967).

المشروع كان وصل إلى آرثر بن بعدما دار على أكثر من مخرج. النيّـة الأولى كانت قيام الفرنسي فرنسوا تروفو بتحقيقه لكن هذا اعتذر عنه ونصح بزميله جان - لوك غودار. كاتبا العمل اللذان اشتغلا وسيطين لوارين بيتي الذي كان قرر إنتاج الفيلم بنفسه، فوجئا بغودار يقترح عليهما تغيير مواقع التصوير (بل الحكاية كلها) لتدور في اليابان. هنا استقر الرأي على ذلك المخرج الذي كان انطلق من خلفية تلفزيونية قبل أن يحقق ثلاثة أفلام صعبة هي «المسدس الأعسر» The Left - Handed Gun وسترن معاد للوسترن مع بول نيومان في البطولة و«صانعة المعجزات»: دراما معادية للمسلّـمات الاجتماعية والتربوية ثم «ميكي وان» كما تقدّم. المخرج نفسه كان بدأ تحقيق «القطار» لكن شغله لم يعجب المنتجين فاستبدلوه بجون فرانكنهايمر سنة 1964 «بوني وكلايد»، وأمام فاي داناواي التي شاركته البطولة، كان فيلم عصابات مستوحى من الثنائي الفعلي الذي اختص بسرقة المصارف في بعض ولايات أميركا الوسطى. كلايد (بايتي) كان أقرب إلى روبن هود إذ كان يسرق المصارف ويوزّع بعض الغنائم على المتضررين في تلك العشرينات الحالكة. لذلك أحبّـوه وحموه باستثناء خيانة أدت إلى مقتله وبوني في مشهد عنيف لا يُـنسى في آخر الفيلم. جين هاكمان، وهو ممثل آخر قدير صعد إلى مرتبة النجوم وإن لم يستطع الاستحواذ عليها لأكثر من عقدين، لعب دورًا مساندًا كان علامة فارقة في تاريخه.

من هنا، ونسبة إلى نجاح هذا الفيلم سنة 1967 باتت كل الخيارات متاحة لبايتي اختار منها ثلاثة أفلام ذات منحى نقدي، إذ كان بايتي يقف على يسار الخط (كما روبرت ردفورد ودستين هوفمن) ويؤمن بأن عليه الإيعاز بأميركا أكثر ليبرالية وانفتاحًا. من هنا كان فيلمه الوحيد مع المخرج روبرت التمن «ماكاب ومسز ميلر» (وفيلمه الوسترن الوحيد كذلك - 1974) و«المنظر الموازي» The Parallax View لألان ج. باكولا، وهو فيلم نظرية مؤامرة تشويقي رائع، و«شامبو» للمخرج الفذ هال أشبي.

الموقف الأعلى شأنًا كان في إنتاجه وبطولته كما لإخراجه فيلم «حمر» (1981) راويًا حكاية الشيوعي جون ريد الذي آمن بالثورة الشيوعية فهاجر إلى موسكو. لكن بايتي يكشف هنا، وبالقدر نفسه، كيف أن المثاليات تبددت والآمال كذلك عندما أدرك جون ريد أن الثورة التي سمع بها ليست هي ذاتها المطبقة على الأرض فخسر بذلك وطنه ومستقبله معًا.

فيلم بايتي اللاحق كان «عشتار» الذي بصرف النظر عما قيل فيه آنذاك (مثّـله وأنتجه بايتي بعد ست سنوات من الغياب عن الشاشة) كان فيلمًا جيّـدًا (معظم النقاد الأميركيين الذين تناولوه ذمًّا حينها عادوا عن مواقفهم) للمخرجة المغيّـبة إلين ماي. لكن الموعد المهم التالي لبايتي كان نسخته الخاصّـة من حكايات التحري «دك ترايسي» الذي هو أيضًا ثاني عمل من إخراجه. دستين هوفمن شارك بايتي في «عشتار» وقام بدور مساند في «دك ترايسي». كذلك بين ممثلي أدوار الشر الذين جمعهم بايتي لفيلمه آل باتشينو في جولة له مع الشخصية الأكبر حجمًا من الحقيقة.

ورد «دك ترايسي» سنة 1990 ومن حينها فإن عدد الأفلام التي قام بايتي ببطولتها أو إخراجها أو إنتاجها لا يزيد على أربعة هي «باغزي» لاعبًا دور رئيس العصابة اليهودي الذي أنشأ مدينة لاس فيغاس (إخراج باري ليفنسون سنة 1991) و«علاقة حب» لمخرج متوارٍ هو غلن غوردون كارون (1994) ثم «بولوورث» (أخرجه بايتي نفسه - 1998) ثم «تاون أند كنتري» (بيتر شلسوم - 2001). أهم هذه الأفلام وأحد أهم محطّـات بايتي هو «بولوورث»: كوميديا ساخرة من الإدارة السياسية الأميركية تتناول حرب العراق وتتهم الإدارة الأميركية بسعيها لاستحواذ النفط ومحاباتها لإسرائيل ولكل ما لم يسبق لفيلم أن عرضه في ساعتين. بايتي لم يمثل ويخرج وينتج فقط، بل كتب الأغاني وغنّـاها على وتيرة «الراب ميوزك». عمل لا يُـنسى.

* ممثل - مخرج

* كل من سبق لنا تناولنا له (جاك نيكولسون وآل باتشينو في الجزء الأول من هذه الدراسة، ثم دينيرو وبايتي) أخرج أفلامًا وحقق عبرها بعدًا ثانيًا لنفسه. نيكولسون حقق ثلاثة أفلام مؤكدة (الأول «الرعب» متنازع عليه بينه وبين روجر كورمان) هي «سق، قال» Drive، He Said عام 1971 ثم «الذهاب جنوبا» (وسترن، 1978) و«كلاهما جاك» (امتداد لفيلم رومان بولانسكي «تشايناتاون»، 1990). آل باتشينو تخصص بشكسبير بدءًا بـفيلمه التسجيلي «البحث عن ريتشارد» (المقصود به ريتشارد الثالث، 1996) و«قهوة صينية» (بحث في شكسبير بين كتّـاب سيناريو وباتشينو، 2000) و«وايلد سالومي» (شكسبير هناك لجانب أوسكار وايلد، 2011). أما دينيرو فأخرج عملين هما «حكاية من برونكس» (1993) و«الراعي الطيّـب» (2006).

لكن الممثل الذي تحوّل إلى الإخراج على نحو فاق نجاحه نجاح أترابه المذكورين (وبعض من سيلي ذكرهم) هو كلينت إيستوود.

كتبت أكثر من مرّة عن إيستوود لذا سأكتفي هنا بتقسيم مهنته إلى مراحلها الأهم: إذ طرق إيستوود (84 سنة حاليًّا) باب التمثيل لأول مرّة، ظهر في أحد عشر فيلمًا لاعبًا أدوارًا صغيرة أو صغيرة جدًّا. هذه المرحلة بدأت سنة 1955 وتوقّفت سنة 1958 بعدما لجأ إيستوود إلى التلفزيون ليشارك بطولة مسلسل «روهايد» (1959 إلى 1965).

المرحلة الثانية هي تلك التي سلّـم فيها ناصية القيادة لمخرج إيطالي سحبه من بين الوجوه وأسند إليه بطولة ثلاثة من أفلام سيرجيو ليوني كان مصيبًا إذ فعل ذلك مؤسسًا عبر «حفنة من الدولارات» (1964) و«لأجل حفنة دولارات أكثر» (1965) ثم «الطيّـب والرديء والبشع» (1966).

المرحلة الثالثة هي تلك التي عاد إيستوود على أثر مغامراته الوسترن الطليانية إلى أميركا. انفتح هناك على أكثر من مخرج لكن أبرزهم دون سيغال الذي وظّـفه في المزيد من الوسترن («بغلان للأخت سارا»، 1970 و«المخدوع»، 1971) وفي سلسلة أفلام بوليسية. هذه تضمّـنت «خديعة كوغن» (1968) و«ديرتي هاري» (1971) «هروب من ألكاتراز» (1979). «ديرتي هاري» بز الأفلام جميعًا بنجاحه وتحوّل إلى سلسلة شملت أربعة أفلام أخرى هي «ماغنوم فورس» (1973) و«الفارض» (1976) و«وقع مفاجئ» (1983) و«البركة الميّـتة» (1988).

شغل إيستوود في تلك المرحلة الثالثة تضمّـنت أعمالًا أخرى مع عدد من المخرجين المتفاوتين: كان واحدًا من مجموعة في الفيلم الحربي «حيثما تجرؤ النسور» لفرانكلين شافنر (حربي، 1968) وطلب منه تد بوست بطولة «اشنقهم عاليًا» (وسترن، 1968) وإيستوود عاد فمنح بوست فرصة تحقيق الجزء الثاني من أفلام شخصية التحري هاري وهو «ماغنوم فورس» (1973) وجون سترجز منحه بطولة «جو كيد» (وسترن آخر، 1972) ومايكل شيمينو الذي كتب لإيستوود «ماغنوم فورس» حقق أوّل أفلامه مخرجًا بموافقة إيستوود وهو «ثندربولت ولايتفوت» (1974).

في هذه المرحلة ذاتها، بدأت مرحلة إيستوود الرابعة: الإخراج. وهذه تنقسم إلى خطين: أفلام مثّـلها وأخرجها إيستوود وأخرى أخرجها فقط. هذا كله بدأ بفيلم تشويقي بسيط ومؤثر بعنوان «اعزف لي ميستي» سنة 1971. بعده مهنة شملت حتى الآن 37 فيلمًا ممهورًا ببصمة مهنية وفنية عالية.

إيستوود الذي لم يتوقع له أحد النجاح في التمثيل ونجح، لم يتوقع له أحد النجاح في الإخراج، ففاق التوقّـعات.