هوفمان تحت التعذيب.. وبواتييه كبرياء الشعب الأسود

وجوه السبعينات الرائعة (الأخيرة)

روبرت ردفورد في «كل شيء ضاع»
TT

توزعت الخريطة السياسية لهؤلاء الممثلين الذين مروا معنا إلى الآن، وهم وارين بيتي وروبرت دينيرو وجاك نيكولسون وآل باتشينو وكلينت إيستوود إلى ثلاث فئات؛ يسار (وارين بيتي) ويمين (كلينت إيستوود) وليبراليين على خط الوسط (باتشينو، دينيرو، نيكولسون). اللافت أنه في تلك الآونة من الستينات التي بزغ فيها نجم كلينت إيستوود، كان من الصعب على ممثل محافظ أن يجد كثيرا من التأييد الشعبي. وعندما قام إيستوود بتمثيل فيلم «ديرتي هاري» سنة 1971 تحت إدارة المخرج اليميني دون سيغال، ثار عليه النقد السينمائي الليبرالي في الولايات المتحدة، على أساس أن هذه الشخصية متعجرفة تؤمن بالقتل وممارسة أحادية القانون (إلقاء القبض والحكم على الجاني في آن واحد) مما دفع إيستوود في الجزء الثاني «ماغنوم فورس» لاختيار موضوع مختلف لشخصيـته البوليسية تلك، فإذا بالتحري (المعروف بـ«القذر») يحقق في سرب من أفراد البوليس المتطرفين الذين يقومون بتنفيذ أحكام الإعدام التي يصدرونها هم ومجابهتهم.

ما هو مثير للاهتمام أن «يمينية» إيستوود المفترضة لم تمنعه من مهاجمة السـلطة في «غير المسامـح» (1992) والرئاسة الأميركية في «سـلطة مطلقة» (1997) والإعلام الرسمي في «رسائل من إيوا جيما» (2006)، ونقده نفسه المحافظة في «غران تورينو» (2008) وسنجد نقدا مبطـنا أكثر من هذا لشخصيـته أو بين طيات النظام، من دون أن يعني ذلك تخلي إيستوود عن موقفه الثابت حتما.

* سلسلة متنوعة في الوقت ذاته، كان هناك نجم مناسب يصعد سريعا اسمه روبرت ردفورد. كان في الـ24 من العمر، عندما ظهر لماما في حفنة من الأفلام على نحو عابر، وأولها كان «حكاية طويلة» سنة 1960، وهو العام الذي وجد فيه عدة أدوار تلفزيونية في مسلسلات، منها «مافريك» و«بلايهاوس 90» و«بيري ماسون».

وبقي نشطا على الشاشة الصغيرة طوال السنوات الثلاث التالية، فظهر أيضا في «مدينة عارية» و«الطريق 66» و«ألفرد هيتشكوك يقدم» كما في حلقة من «الشرفاء» The Untouchables لاعبا دورا شريرا لافتا عام 1963.

المخرج المنسي على جدارته روبرت موليغن منحه فرصة الوقوف أمام نتالي وود وكريستوفر بلامر في «داخل دايزي كلوفر». ومنحه آرثر بن دورا مساندا ومهمـا في «المطاردة» (1966) لاعبا شخصية هارب من السجن في طريق عودته إلى بلدته ليبرهن عن براءته. مارلون براندو كان بطل ذلك الفيلم ذي النبرة النقدية.

كان هذا الفيلم آخر أفلام ردفورد كوجه مساند، إذ لعب في العام ذاته بطولة «هذه الملكية مـدانة» عن مسرحية لتنيسي ويليامز، كتب السيناريو لها فرنسيس فورد كوبولا، وقام بإخراجها سيدني بولاك، حيث التقى ردفورد مرة ثانية مع نتالي وود. بعده، وجد نفسه في كوميديا مريعة من إخراج جين ساكس عنوانها «حافية في الحديقة»، والحافية كانت جين فوندا. الأهم كان في المستقبل القريب عندما قام سنة 1969 بالظهور، لجانب بول نيومان (من رعيل الخمسينات) في بطولة «بوتش كاسيدي وصندانس كيد»: وسترن حافل وذي طينة مختلفة عن أفلام النوع من إخراج جورج روي هيل. وهذا المخرج عاد فطلبه وبول نيومان لبطولة «اللدغة» سنة 1973. في السنوات الفاصلة كان اسمه تعزز أكثر في سلسلة متنوعة من الأدوار، هو في الفيلم الرياضي «داونهيل رايسر» (1969)، والدراما «فوسي القصيرة وهالسي الكبير» (1970)، والتشويقي «الحجر الساخن» لبيتر ياتس (1972). وعندما قرر الكاتب أبراهام بولونسكي الانتقال إلى كرسي الإخراج (وكان من ضحايا الحملة المكارثية) اختار ردفورد ليمثل دور رئيس البوليس الذي يفهم معضلة الهندي الأحمر في عالم اليوم، وذلك في «أخبرهم أن ويلي بوي بات هنا» Tell Them Willie Boy is Here (1969). تلا ذلك فيلم سياسي عن الترشيحات الرئاسية الأميركية، عنوانه «المرشـح» من إخراج مايكل ريتشي (مخرج «داونهيل رايسر») وكان أول فيلم يقوم ردفورد بإنتاجه أيضا. كما وقف دون سيغال وراء إيستوود وآرثر بن وراء وارين بيتي ومارتن سكورسيزي وراء روبرت دينيرو، وقف المخرج سيدني بولاك وراء ردفورد. بعد «تلك الملكية المدانة»، عاد بولاك إلى ردفورد في ثلة من الأفلام المتتابعة بدأت بالوسترن «جيريميا جونسون» (1972) وامتدت لتشمل «كيف كنـا» (أمام باربرا سترايسند، 1973) و«ثلاثة أيام من الكوندور» (مع فاي داناواي، 1974) ولاحقا في «الفارس الكهربائي» (لجانب جين فوندا، 1975) وفي «خارج أفريقيا» أمام ميريل ستريب عام 1983. المرة السابعة والأخيرة بين ردوفورد - بولاك وردت عام 1990 في فيلم «هافانا»، الذي جمع بين الرومانسية (أميركي وكوبية) والأحداث التي سبقت مباشرة ثورة كاسترو. خلال الفترة لم يتوقـف ردفورد عن العمل، هو تحت إدارة جورج روي هيل مرة ثالثة في «والدو بيبر العظيم» وألان ج. باكولا في «كل رجال الرئيس» لجانب دستين هوفمان وفي «بروباكر» لستيوارت روزنبيرغ (1980) و«الطبيعي» (باري ليفنسون، 1984) و«صقور قانونية» (إيفان رايتمان، 1986) و«حادثة عند أوغلالا» (مايكل أبتد، 1992) وسواها. وآخر ما شاهدناه له كممثل أول هو «كل شيء ضاع» الذي احتل به الشاشة بمفرده لاعبا شخصية البحار الذي تاه في المحيط.

الانتقال إلى الإخراج لم يعد بعيدا، ففي عام 1980 حقق أول فيلم له، وهو «أناس عاديون»، وأنجز بعده تسعة أفلام تتراوح بين الجيد والممتاز، آخرها «الشراكة التي تحتفظ بها» وهو لا يقل عن بعض أعماله الأخرى، مثل «أسود كحملان» و«المتآمر» في منحاه السياسي.

* الضحية والصحافي مثل ردفورد وإيستوود، بدأ دستين هوفمان في العمل تلفزيونيا في منتصف الستينات، ثم وجد لنفسه موقع قدم في دور صغير (جدا) في «النمر ينجج» The Tiger Makes out لآرثر ميلر العام 1967. لكنه انطلق كصاروخ أبوللو في ثاني أفلامه «الخريج» الذي لعب فيه دور شاب لم يدخل بعد التجربة الجنسية تصطاده ثرية ملولة (آن بانكروفت)، وذلك تحت إدارة مايك نيكولز.

الدور الأهم له كمن له عند الناصية التالية: شخصية رجل مهدوم وبلا مستقبل يعرج ويسعل طوال الوقت في «مدنايت كاوبوي» (إخراج جون شليسنجر) وهو الفيلم الذي أطلق، ولحين، ممثلا آخر من عقاله وهو جون فويت. بعد ذلك الطريق باتت مفتوحة أمام هوفمان لكي يختار ما يشاء، فأم الفيلم العاطفي «جون وماري» لبيتر ياتس (1969) والوسترن «رجل صغير كبير» لآرثر بن (1970) و«كلاب من قش» لسام بكنباه (1971) حيث لعب دور الرجل الأميركي الضعيف الذي ينقلب ذئبا قبل أن تأكله الذئاب، ثم ظهر، وبعد أفلام أخرى، لجانب روبرت ردفورد في «كل رجال الرئيس» لألان ج. باكولا، الفيلم الذي تناول أكثر من سواه فضيحة ووترغيت.

عاد إليه جون شليسنجر في فيلم تشويقي حول ضحايا الهولوكوست عنوانه «رجل الماراثون» (1976)، حيث يخضع للتعذيب عندما يقوم النازي لورنس أوليفييه بخلع ضرس سليم له من دون مخدر. في «أغاثا» لمايكل أبتد هو الصحافي الذي يحقق في اختفاء الكاتبة أغاثا كريستي لبضع سنوات من دون أثر أو نشاط، ثم هو في «توتسي» متنكرا في زي امرأة، لأنه يعتقد أن الوظائف تمنح للنساء أكثر مما تمنح للرجال والفيلم من إخراج سيدني بولاك سنة 1982، ومثـله بعد غياب عامين عن الظهور، وذلك بعد أدائه بطولة «كرامر ضد كرامر» لروبرت بنتون أمام ميريل ستريب.

ثم هو مع وورن بايتي في «عشتار» و«دك ترايسي»، وبينهما «رجل المطر» (مع توم كروز)، وبقي منشغلا طوال الثمانينات والتسعينات، حتى هدأ الحال قليلا في العقد الأول من هذا القرن ثم أكثر قليلا في السنوات الأربع الماضية. من بين أبرز أفلامه في تلك الحقبة «بيلي باثغايت» (روبرت بنتون، 1991) و«بطل» (ستيفن فريرز، 1992) و«سير على القمر» (سامويل غولدوين، 1999). إلى جانب تقاطع الطريق الذي جمع بين هوفمان وبايتي مرتين، وبينه وبين ردفورد (مرة) لاحظنا كيف أن درب آل باتشينو ودرب روبرت دينيرو اللذين انطلقا متوازيين لسنوات كثيرة، التقيا عندما قاما ببطولة «حرارة» لمايكل مان (1995) وها هو ذات الدرب يجمع بين هوفمان ودينيرو في «قابل آل فوكرز» و«فوكرز الصغار» وكلاهما لم يكن يستحق الإنتاج أساسا. وهوفمان يشترك مع دينيرو في أنه أنجز النقلة إلى الإخراج، لكن مرتين فقط؛ الأولى سنة 1978 عندما قام ببطولة وتحقيق «وقت مستقيم» بنتيجة متوسـطة، والثانية سنة 2012 عندما عاد إلى كرسي الإخراج في «رباعي» بنتيجة جيدة.

* عنصرية الممثل الذي لم يلتق بأحد من المذكورين حتى الآن، لكنه لم يقل عن أي منهم في درجة بلوغه الشهرة وتحقيقه المكانة عبر ثلاثة عقود على الأقل، هو سيدني بواتييه. هو أكبرهم سنا، إذ ولد سنة 1927 (بذلك هو في السابعة والثمانين من العمر) وباشر التمثيل في السينما قبل كل أترابه، ولو أن أدواره في النصف الأول من الخمسينات كانت أصغر من أن تشهد له بأكثر من التفاتة عابرة. هو الدكتور لوثر في «بلا مهرب» لجوزف مانكوفيتز (1950) والواعظ في الكنيسة في «ابكِ يا وطني الحبيب» لسلطان كوردا (1951) والمجند المغلوب على أمره في فيلم بد ويتيكر الحربي «رد بول إكسبرس» (1952). هذا المنوال بدأ في التغيـر سنة 1955، عندما أسند له المخرج رتشارد بروكس دور طالب في دراما مدرسية لعب فيها غلن فورد شخصية الأستاذ. لكن حظـ بواتييه الحسن واتاه أساسا بعد عامين، عندما قام المخرج مارتن رت بإسناد دور أساسي له في «حافة المدينة» أمام جون كازافيتيز.

هذه دراما عن العنصرية. سيدني الأفرو - أميركي يتصادق والأبيض الوحيد الذي يتعاطف معه بين عمال البناء في ذلك الفيلم. جاك ووردن في دور رئيس مجموعة من العمال (اسمه في الفيلم تشارلز ماليك) وأكثرهم شراسة وعنصرية. بعد أدوار متفاوتة أحدها تحت إدارة بروكس مرة أخرى (وهو «شيء ذو قيمة»، 1957) عاد فاشترك في توليفة الأبيض والأسود في فيلم ستانلي كرامر «المتحديان» حول أبيض عنصري (توني كيرتس) وأسود (بواتييه) يهربان من السجن وكل مقيـد بسلسال إلى الآخر. ليس هناك من تعاطف بينهما في البداية، لكن تآخيهما يتجاوز اللون عندما يدركان أنهما معا ضحية النظام.

هذا كان الدور البطولي الأول لبواتييه الذي نتج عنه إثبات صورته في أذهان المشاهدين البيض قبل السود كموهبة أفرو - أميركية طليعية وجديرة بالتقدير. ما بثـه بواتييه هو أمل جامح بالنسبة لكل تلك المواهب السوداء التي كانت تنتظر الفرصة، من باب أنه إذا ما استطاع بواتييه تحقيق النجاح، فإن أيا من الممثلين السود الآخرين يستطيع ذلك، وهو بالفعل ما حدث في الستينات التي انشغل فيها بواتييه بتمثيل عدة أفلام درامية لافتة، من بينها «براعم في الحقل» و«باريس بلوز» و«رقعة زرقاء». إلى جانبها هو في احتكاك عنصري آخر بينه وبين رتشارد ودمارك في «حادثة بدفورد» الحربي وفي فيلم الوسترن «مبارزة في ديابلو»، ثم عودة إلى المدرسة، هذه المرة كأستاذ تغني له لولو أغنية «إلى الأستاذ مع حبي» التي كانت عنوان هذا الفيلم.

الاحتكاك العنصري الأمثل جاء في الفيلم اللاحق «في حرارة الليل» لنورمان جويسون أمام رود ستايغر (1967). هذا الأخير هو شريف بلدة صغيرة ناعسة في جورجيا تقع فيها جريمة قتل والمشتبه به، لحين، هو ذلك الغريب الأسود لمجرد أنه أسود. بعدما يبرهن مستر تيبس (بواتييه) على أنه تحرٍ جاء من المدينة في زيارة قصيرة ينبري لمساعدة البوليس المحلي في الكشف عن القاتل.

لا أحد قبل بواتييه مثـل دورا كهذا حمل فيه كل الكبرياء الأسود. المشاهدون سقطوا تحت تأثير سيادته على المشاهد التي ظهر فيها لقاء اضطرار رود ستايغر للحفاظ على شخصيته ذات التلون المحدود، ولو أن مانحي الأوسكار أعطوا جائزة أفضل ممثل لستايغر وليس لبواتييه. في المشهد الذي يصفع فيه بواتييه رجلا ثريا أبيض البشرة كان أهانه أكثر من دلالة على أن أميركا انتقلت من عصر الاضطهاد إلى عصر المساواة.

* الممثلون والأوسكار في نهاية هذه الحلقات، نظرة على حظ كل ممثل من الأوسكار:

* جاك نيكولسون: رشـح 12 مرة ونال الأوسكار ثلاث مرات: أفضل ممثل عن «طار فوق عش المجانين» (1976)، وأفضل ممثل مساند عن «شروط المودة» (1983)، وأفضل ممثل مساند عن «أفضل ما يكون» (1997).

* آل باتشينو: رشح ثماني مرات، ونالها مرة واحدة عن «عطر امرأة» (1992).

*روبرت دينيرو: رشح سبع مرات ونالها مرتين: أفضل ممثل مساند عن «العراب 2» (1974) وأفضل ممثل في دور رئيس عن «ثور هائج» (1980).

* كلينت إيستوود: رشح تسع مرات ونالها أربع مرات؛ الأولى أفضل مخرج عن «غير المسامح» (1992)، كما نال فيلمه ذاك أوسكار أفضل فيلم. المرة الثانية أفضل مخرج عن «ميستيك ريفر» (2003) الذي لم يشترك في تمثيله والثالثة أفضل مخرج عن «مليون دولار بايبي» (2004) الذي نال أيضا أوسكار أفضل فيلم.

* روبرت ردفورد: رشح أربع مرات ونالها مرة واحدة كأفضل مخرج عن فيلمه الأول «أناس عاديون».

*دستين هوفمان: رشح سبع مرات، ونالها مرتين، حيث فاز بأوسكار أفضل ممثل رئيس عن «كرامر ضد كرامر» (1979) وكأفضل ممثل رئيس أيضا عن «رجال المطر».

* سيدني بواتييه: لجانب أوسكار شرفي منح له سنة 2002 نال أوسكار أفضل ممثل أول عن «براعم في الحقل» (1963)، من بين المرات الثلاث التي رشـح فيها لهذه الجائزة.