إبراهيم رشيد لـ «الشرق الأوسط»: بغداد تشكو من عشوائيات بيئية تنخر جسدها

الفنان العراقي: منحوتاتي مستوحاة من أسطورة «جلجامش».. وهي مسلات في معبد رافديني من أجل خلود عاصمة الرشيد

الفنان إبراهيم رشيد - منحوتة «الإناء النذري» المستمدة من ملحمة جلجامش من أعمال النحات إبراهيم رشيد عند ضفاف نهر دجلة («الشرق الأوسط») - منحوتة «طائر الحرية» على ضفاف دجلة
TT

على نمط يسعى معه لتصحيح بعض فوضى ظاهرة النصب والتماثيل العشوائية التي انتشرت في العاصمة العراقية بغداد، واستفز وجودها ذائقة البغداديين والمختصين بفنون النحت والعمارة، واصفين وجودها بـ«التلوث البصري» من حيث قيمتها الفنية والمكانية، ينشغل الفنان والمعماري إبراهيم رشيد بوضع اللمسات الأخيرة لـ3 أعمال نحتية تنتمي إلى أسطورة «جلجامش»، وهي تروي نشيد الخلود لتنبثق منها عيون الماء مثل ينابيع خالدة، ضمن مشروعه الذي سماه «عيون الماء بين الرصافة والجسر».

وتشهد العاصمة بغداد انتشار الكثير من الأعمال الفنية التي تفتقر للقيمة الفنية والجمالية، إضافة للرداءة في الصنع، مما أثار سخرية فنانين ونشطاء في مواقع التواصل الاجتماعي، كان آخرها نصب الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري وهو يتوسط نماذج فجة لدلال القهوة بطريقة أظهرته كبائع متجول، في وقت كانت تزخر فيه مدينتهم بالكثير من الأعمال التي تتميز بالرصانة والقيمة الفنية والحرفية العالية قبل إحداث التغيير في العراق عام 2003. فيما شكت دائرة الفنون التشكيلية، إحدى الجهات الرسمية المعنية بالنصب والتماثيل، من إهمال استشارتها من قبل الجهات المنفذة لتلك الأعمال.

عن أعماله الجديدة، ونظرته للقيمة الفنية التي أرادها، قال الفنان العراقي إبراهيم رشيد الذي عاد أخيرا من هجرة دامت أكثر من ربع قرن بدأت عام 1991 في السويد، وأوروبا وشمال أميركا، أنجز فيها الكثير من المشاريع الفنية وحصل على الكثير من الجوائز العالمية، في حديثه لـ«الشرق الأوسط»: «لقد تهيأت لي الفرصة وضمن مشروع بغداد عاصمة للثقافة العربية عام 2013، لتقديم مشروع 3 أعمال نحتية، حملت اسم (عيون الماء بين الرصافة والجسر)، لتحتل مكانا مميزا في شارع المتنبي بالقرب من المركز الثقافي البغدادي، وعلى ضفاف دجلة وسط العاصمة بغداد، واستغرق العمل بها أكثر من سنتين، وهي أعمال تستمد وجودها من أسطورة جلجامش التي يستهل نصها بجملة (هو الذي رأى كل شيء)، وقد جسد العمل ترجمة حرفية لقصيدة الشاعر علي بن الجهم (عيون المها بين الرصافة والجسر) من حيث العلاقة المكانية».

ويضيف: «المشروع عبارة عن 3 منحوتات تشكل مشروعا نحتيا تركيبيا (إنستليشن) تتوزع في أماكن مختلفة وكأنها مسلات في معبد رافديني تعكس التاريخ والمعاصرة وهي في الحقيقة نتاج بحوث خاصة في مجال الفن والتخطيط الحضري. وما أسميه (ديمقراطية المكان)».

والأعمال النحتية هي الإناء النذري رقم 1 في داخل المركز الثقافي البغدادي، والثاني على ضفاف نهر دجلة، القريب منه، واستلهم الفنان فيها تأثيراته من شكل الإناء النذري السومري الفوار في فن وادي الرافدين الذي يفيض بالماء المقدس والذي يعد رمزا لدجلة والفرات و«رمز الحكمة السومرية».

هذه المنحوتات تتشكل مثل حركة الماء، تتخللها أخاديد متموجة يجري بينها الماء المتدفق وكأنه ينحت سطوحها وهو يتدفق من الأعلى بانسيابية مرهفة على الكتابة المسمارية لملحمة جلجامش.

أما العمل الثالث ويحمل اسم «طائر الحرية»، وهو عبارة عن شكل تجريدي معاصر يعكس فكرة الحرية الثقافية لما لشارع المتنبي من أهمية ثقافية مهمة في الحياة السياسية والاجتماعي والثقافية في بغداد.

وعن فلسفته في إنجاز الأعمال، يقول رشيد: «المنحوتات تتميز بأشكالها الديناميكية وحركتها المتنامية الصاعدة بأنساق جميلة إلى الأعلى لتعكس فكرة الديمومة، والمطلق والسمو الروحي كما في مفهوم فلسفة العمارة العربية الإسلامية وخصوصية الشكل الفريد لمئذنة الملوية في سامراء في العصر العباسي، إضافة إلى أن المتعارف عليه أن النحت العراقي هو فكرة النصب الفنية في الساحات العامة لكن ما أطرحه الآن هو فكر جديد يسعى إلى إكمال البيئة المحيطة من عناصر المدينة بالأعمال الفنية، أي عندما يتحول العمل الفني إلى جزء مكمل للمكان المحيط به وليس جزءا مركبا وثانويا كما في التجربة المكانية لنصب الشهيد المعروف في بغداد».

ولعل أكثر ما يثير تساؤلات الفنان إبراهيم رشيد بعد عودته من المهجر، هو البحث عن هوية بغداد اليوم التي ضاعت بين ديمقراطية المكان» و«ديمقراطية الإنسان» كما يقول، ويواصل: «بعد كل ما حصل للعراق من حروب وتدمير وإهمال وتخريب داخل هذه المدينة الغارقة في ماض عقيم ومستقبل بلا هوية، وهي التي كانت يوما من أكبر وأهم عواصم الشرق الأوسط. ما يحدث اليوم في بغداد يدعونا إلى أن نفكر جليا وجديا وبكثير من المسؤولية حول حاضرها المدني والعمراني والثقافي والتاريخي، وأن نتساءل بروح من الشفافية والمسؤولية أين هوية بغداد؟ وهذا ما أحاول طرحه في مفهومي لعلاقة الفن بالمدينة وبالبيئة والمحيطة وما أسميه (ديمقراطية المكان)؛ فالفن هو (الشكل الديمقراطي) لعلاقة الإنسان بالمدينة وحاجته اليومية، أما التصميم الحضري فهو الهيكل الإنشائي لهذه (الديمقراطية) المكانية، فهو الذي يهيئ دراسة الأبعاد الـ3 للمكان، بمختلف عناصره المعمارية والبيئية والطبيعية، ويهتم بمتعلقات الأرض وتخطيطها والمباني والمواصلات والشوارع وتصميمها والساحات والمدارس وجميع أماكن التجمع البشري في خارطة بيانية منسجمة تسمى (ديمقراطية المكان)»، مستطردا: «تتميز هذه الخارطة بعلاقات بيانية متعددة الاشتراطات والمميزات تهدف جميعها إلى جعل المناطق المدنية أكثر فعالية وجاذبية وفائدة للإنسان، وذلك من خلال ربط وحدات المكان بالناس وحاجاتهم وحركتهم اليومية».

يضيف الفنان رشيد: «أما اليوم فهنالك فوضى تصادمية بين الوحدات المعمارية والبيئية والخدمية والبشرية وبشكل غير منتهٍ، مولدا عشوائيات بيئية وثقافية هجينية ما لبثت تنخر يوميا بجسد بغداد الهزيل مثل سرطان بطيء».

يتساءل هذا الفنان الذي هو ابن حضارة بغداد وإبداعها والمنتمي لهذه المدينة التي عرفت بأنها رمز للفن والشعر والجمال: «هل يمكن أن نعيد بغداد مرة أخرى؟ هل يمكن الشروع في العمل من أجل تصميم أساس جديد يتلاءم ومميزات وخصائص المدينة العصرية في القرن الحادي والعشرين؟». يجيب عن أسئلته: «في البداية لا بد من العمل على إعادة فكرة دراسة وتنفيذ المراحل الأساسية من التخطيط الإنمائي لمدينة بغداد وإعادة دراسة الهوية المعمارية لها حتى يمكن أن نتوصل إلى أسس تخطيطية وعمرانية واقعية تحمل رؤية موحدة ومنسجمة للحفاظ على القيم والمبادئ التاريخية والحضرية للمدينة، خاصة بعد العبث الكبير الذي طالها بسبب الإهمال وتركها تغرق بين حطام الحروب والحصار وآثار الفساد وانعدام الأمن وما يجري من تخريب وتشويه ثقافي وبيئي عشوائي لها على أرض الواقع»، مشيرا إلى أن «لدينا نخبا ممتازة من المعماريين والفنانين والمصممين الحضريين والباحثين الجماليين والكتاب، باستطاعتهم أن يرسموا لبغداد صورة منقذة مبنية على أسس حضرية وجمالية ومعمارية معاصرة حتى لا تفلت الأمور أكثر مما هي عليه الآن وتغرق المدينة وتختفي في فوضى من عدم المسؤولية ونفقدها بين ماض ولى ومستقبل مجهول».

وحول تجربته الفنية التي سبقت هذه الأعمال، يقول: «هذه الأعمال جاءت امتدادا لأعمال فنية أخرى أنجزت في أوروبا منذ هجرتي عام 1991 إلى السويد تهتم بموضوع الإنسان والبيئة، وفي الوقت نفسه جاءت استمرارا لتطور مفهوم وظيفة الفن في المجتمع والحياة معا من ناحية، وشكلا متطورا للعناصر الفنية من ناحية أخرى. فهذه الأعمال الفنية هي أعمال تجريدية لكنها تحمل في روحها وتصميمها الحس العربي الإسلامي المعاصر، وتبتعد عن مفهوم التشخيص في النحت العراقي الذي ساد الفن العراقي المعاصر إثر تجارب جواد سليم وإسماعيل فتاح الترك ومحمد غني حكمت».

ويوضح النحات رشيد قائلا: «إذا كان لا بد لنا أن نفهم شكل العمارة على أساس أنها موسيقى متحركة فعلينا أيضا أن نفهم أن الفن هو عبارة أيضا عن موسيقى ديناميكية مكملة للعمارة؛ ولذلك أجد في تجربة التجريد في النحت أكثر نجاحا وانسجاما من أي أسلوب آخر؛ لما يحققه من هذا التكامل والانسجام المشترك».

وعن رأيه بالأعمال النحتية الموجودة في ساحات بغداد، قال رشيد: «المشكلة في الفن العراقي عموما أنه ذو ثقافة بصرية أكثر مما هو فكرة؛ ولذلك نسعى إلى التأثر بما نراه أكثر مما نتأثر بما نفكر به، وهناك فرق ما بين عمل نحتي يعرض في قاعة وعمل نحتي يعرض في الساحات العامة؛ فالعمل الأول هناك حرية واضحة ومتاحة للفنان في التعبير لا يشترط عليه بها أحد، والحالة الثانية هناك شروط جمالية ومعمارية وبيئية تفرض أهميتها على الفنان من أجل إنجاز عمل نحتي ناجح في البيئة العامة، وهذا ما نفتقر له في تجربة النحت العراقي الموجودة حاليا في معظم ساحات بغداد عدا نصب الشهيد وجدارية جواد سليم والجندي القديم للفنان الكبير رفعت الجادرجي»، موضحا أن «ذلك يعود إلى عناصر كثيرة، منها أن دراستنا الأكاديمية الفنية الآن أضحت متخلفة وليست قديمة فقط؛ لأنها لم تتواصل مع تطورات الفن والعمارة والتجارب العالمية، بسبب الحصار والقطيعة مع العالم، إضافة إلى عدم الرجوع إلى استشارة ذوي الخبرات والمختصين في هذا المجال من أجل تقويم عملية العمل الفني».